أحدث الاتفاق السياسي الذي وقعه رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الحكومة المقال عبد الله حمدوك، انقسامًا كبيرًا في الشارع السوداني، بين من يراه انتصارًا للثورة وكسر شوكة انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وآخرين يعتبرونه شرعنةً للانقلاب وخيانةً لمكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
وفي الوقت الذي رحب فيه البعض بهذه الخطوة التي تأتي تتويجًا لاتصالات دبلوماسية مكثفة وضغوط شعبية ممتدة طيلة الـ27 يومًا الماضية، خرجت أصوات مقابلة تنذر بخطورتها على المستوى البعيد، لافتين إلى أن الاتفاق الذي يقوده العسكر وفق رؤيتهم كفاعل رئيسي ومتحكم أوحد في المشهد وليس مجرد شركاء، اتفاق قصير العمر، سرعان ما تسقط ورقته لتظهر عوراته مستقبلًا.
تفاؤل وترقب، ترحيب ورفض، تأييد واعتراض، طمأنة وقلق، إيمان وشكوك.. ثنائيات يشهدها الشارع السوداني الساعات الماضية منذ الإعلان عن بنود الاتفاق المثير للجدل، ليبقى السؤال: هل تسهم تلك الخطوة فعلًا في حلحلة الأزمة في البلاد أم تزيدها تعقيدًا وتدفع نحو انقسام جديد ربما يزيد الوضع تأزمًا؟
كان حمدوك والبرهان قد وقعا أمس 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، اتفاقًا بالقصر الجمهوري بالخرطوم، لتجاوز الأزمة الراهنة، يتضمن 14 بندًا، أبرزها إلغاء قرار إعفاء حمدوك من رئاسة الحكومة وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإشراف مجلس السيادة على الفترة الانتقالية، والاستمرار في إجراءات التوافق الدستوري والقانوني والسياسي الذي يحكم الفترة الانتقالية، والالتزام الكامل بالوثيقة الدستورية إلى حين تعديلها بموافقة الجميع، ومحاسبة المتورطين في قتل المتظاهرين.
رضوخ للضغوط الدولية والشارع
بداية تذهب الكثير من المؤشرات وفق تطورات الأوضاع وتسريبات بعض المصادر إلى أن هذا الاتفاق إنما جاء استجابة للكثير من الضغوط التي مورست على المكون العسكري لإعادة حمدوك (الذي يتمتع بعلاقات قوية مع الغرب) لرئاسة الحكومة مرة أخرى، رغم اعتقاله بداية الأمر وإيداعه مكانًا غير معلوم في مشهد مسيئ.
وشملت تلك الضغوط العديد من المسارات، منها الضغوط التي مارستها الإدارة الأمريكية على البرهان وفريقه، وبالتوازي منها كانت الوساطة الإسرائيلية في ظل العلاقات الجيدة التي تجمع بين جنرالات السودان (أحد أبرز الأضلاع الداعمين للتطبيع) وتل أبيب.
وفي مسار ثالث كانت القاهرة حاضرة بقوة في المشهد، فبعيدًا عن الضغوط التي ربما مارستها واشنطن على النظام المصري للقيام بهذا الدور في ضوء العلاقات القوية التي تجمع بين البلدين، فإن التحرك الفردي من جنرالات السودان فيما يتعلق بالانقلاب دون استشارة الجارة العربية الشمالية، ربما كان دافعًا للسلطات المصرية للتدخل لعدم تفرد العسكر هناك بالسلطة، لما لذلك من تداعيات على أمن واستقرار السودان ربما تؤثر بشكل أو بآخر على الأمن القومي المصري.
الوضع كذلك مع بعض العواصم الخليجية، إذ كثفت الإدارة الأمريكية من اتصالاتها مع بعض حكومات الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات للتوسط لدى عسكر السودان للتراجع عن خطوة الانقلاب وإعادة حمدوك للمشهد السياسي مرة أخرى، تجنبًا لتبعات هذا التحرك على مصالح القوى الدولية في إفريقيا.
وأمام تلك الضغوط المتزامنة مع ضغوط شعبية داخلية أقوى وأكثر تأثيرًا، وجد البرهان نفسه في موقف حرج، ما دفعه لإعادة النظر في تحركه الانقلابي، ليقبل بمبادرات الوساطة المقدمة، التي كان على رأسها عودة حمدوك لرئاسة الوزراء في محاولة لتهدئة الشارع الثائر.. وقد كان.
بين الرفض والتأييد
خلال التوقيع على بنود الاتفاق أوضح البرهان أن هذه الخطوة تؤسس لمرحلة انتقالية حقيقية وأن ما تم تحقيقه جرى العمل عليه منذ ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فيما قال نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي محمد حمدان حميدتي إن الاتفاق جاء معبرًا عن مبادئ وأهداف ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، على حد تعبيره.
بدوره ثمن الأمين العام المكلف لحزب المؤتمر الشعبي محمد بدر الدين، الاتفاق الذي وصفه بالمقبول، لأنه تحدث عن توسيع قاعدة المشاركة ونبذ الإقصاء السياسي، وفق تعبيره، أما القيادي بحركة العدل والمساواة السودانية وجبهة الميثاق الوطني محمد زكريا، فقال إنه خطوة تاريخية ستسهم في وقف الاحتقان السياسي.
فقدان الثقة في العسكر عمومًا، وفي الاتفاق ونواياه على وجه خاص، دفع السودانيين إلى الاستمرار في حراكهم الثوري بالميادين والشوارع، كنوع من مواصلة الضغط حتى تسليم السلطة للمدنيين
وفي الجهة الأخرى اعتبرت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، أن الاتفاق شرعنة لما وصفته بالانقلاب العسكري، وردة عن أهداف وشعارات ثورة ديسمبر/كانون الأول، في إشارة إلى المظاهرات التي اندلعت في ديسمبر/كانون الأول 2018 وانتهت بالإطاحة بنظام عمر البشير، وفق بيانها الصادر تعليقًا على توقيع الاتفاق.
الموقف الرافض ذاته تبنته مجموعة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير التي أكدت أن الاتفاق تجاهل جذور الأزمة التي أنتجها ما وصفه التحالف بانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مؤكدة أن موقفه مبني على اللاءات الثلاثة (لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية للانقلابين).
عضو المجلس المركزي بالتحالف جمال إدريس، علق على هذا التطور بقوله إن الاتفاق “يمثل حمدوك وحده ولا يمثل قوى الحرية والتغيير” بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة” منوهًا إلى استمرار التصعيد الثوري حتى تسليم السلطة للمدنيين وعودة العسكر لثكناتهم.
حمدوك.. المنقذ والخائن معًا
الانقسام الذي أحدثه الاتفاق لم يقتصر فقط على بنوده ودلالته الرمزية وتداعياته والمخاوف الناجمة عنه في ضوء فقدان الثقة في العسكر فحسب، بل ألقى بظلاله القاتمة على موقف الشارع من حمدوك ذاته، الذي كان قبل أيام قليلة أيقونة الثورة ورمزيتها بعدما أقتيد بصورة مهينة إلى أحد الأماكن غير المعلومة في أعقاب الإطاحة به من منصبه.
فريق يرى أن قبول حمدوك بالاتفاق بصيغته الحاليّة شرعنة رسمية للانقلاب ومحاولة لتمريره سياسيًا عبر بوابة الحكومة المدنية المزعومة التي ينتظر أن يأتي بها رئيس الوزراء وفق هوى ورغبات وإملاءات العسكر وبما تخدم أجندتهم بعدما تم استبعاد المنتمين للقوى الثورية من المشهد بزعم أن الحكومة ستكون تكنوقراط من المستقلين.
أنصار هذا الفريق يرون أن حمدوك تحول إلى “لعبة” بأيدي البرهان ورفاقه، فمشهد استحضاره من مقر إقامته الجبرية من أجل التوقيع على الاتفاق يحمل العديد من الدلالات ويبعث الكثير من الرسائل لما ستكون عليه الأوضاع مستقبلًا، منوهين أن الاستعانة به مرة أخرى ضرب عسكري لعصفورين بحجر واحد: إرضاء المجتمع الغربي، وتفتيت الشارع المتوقع أن ينقسم بين مؤيد ومعارض لرئيس الوزراء الذي كان يُتغنى به قبل أيام.
وفي المقابل يعتبر آخرون أن قبول حمدوك لهذه الخطوة – رغم ما تعرض له – يعكس حرصه على حقن الدماء وتجنيب البلاد الوقوع في مستنقع العنف والاحتراب الأهلي، لا سيما في ظل إيمانه الشديد بأن العسكر لن يقبلوا تسليم السلطة بهذه السهولة وبتلك السرعة في ظل سيطرتهم على معظم أركان الصورة الآن.
الداعمون لتلك الرؤية يميلون إلى أن رئيس الوزراء ربما لم يكن راضيًا عن الكثير من تفاصيل المشهد، وربما يخسر رصيده السياسي لدى شريحة كبيرة من الشارع، لكن الأوضاع والمخاوف على مستقبل البلاد هي ما دفعته لقبول الأمر (ربما تحت ضغوط تعرض لها من الداخل والخارج)، كخطوة أولى في طريق مسار طويل من الضغوط على العسكر خلال المرحلة المقبلة.
تقييم وترقب
حالة من الترقب تخيم على الأجواء في انتظار ما ستسفر عنه الساعات القادمة، سواء فيما يتعلق بالتشكيل الحكومي الجديد واختيارات حمدوك والأسماء المزمع الاستعانة بها وما تحمله من رمزية ودلالات، أم بشأن مسألة تسليم العسكر للسلطة لمدنيين وفق الوثيقة الدستورية بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ.
ويؤكد رئيس الوزراء أن له مطلق الحرية في تشكيل حكومة الكفاءات الوطنية، وأنه لا دخل لأحد في اختياراته، وهو التصريح الذي رغم ما يحمله من طمأنه لكنه مشكوك في قدرة تنفيذه عمليًا، خاصة أن التوجه العسكري العام يذهب نحو استبعاد بعض القوى المدنية وفي المقدمة منها الحرية والتغيير بجانب الاستعانة بفصائل أخرى، بعضها ينتمي لنظام الإنقاذ.
المرحلة القادمة وحتى نهاية الشهر الحاليّ والأيام التي تليه ستكون فترة اختبار وتقييم للاتفاق الموقع، ومن ثم مفتوحة على السيناريوهات كافة
وبعيدًا عن حالة الانقسام بشأن هذا الاتفاق، إلا أن أداء حمدوك هو من سيحدد بوصلة المرحلة القادمة، فإن جاءت الاختيارات نزيهة بعيدة تمامًا عن أجندة العسكر، ونجح رئيس الوزراء في الضغط على الجنرالات لتسليم السلطة بنهاية الشهر بحسب وثيقة 2019، فإنه سيتحول إلى رمز سياسي وزعيم يُحمل فوق الأكتاف.
أما إن جاء التشكيل المزمع عكس عقارب الساعة المدنية، فيما أرجأ المكون العسكري تسليم السلطة، تحت أي مبرر، فإن الوضع سيكون مغايرًا، وهنا ربما يجد حمدوك نفسه في معسكر الجنرالات، ضد الثورة وعدو للثوار، وعليه سيتم حرقه سياسيًا، لدى الشارع ومن ثم الغرب كذلك.
فقدان الثقة في العسكر عمومًا، وفي الاتفاق ونواياه على وجه خاص، دفع السودانيين إلى الاستمرار في حراكهم الثوري بالميادين والشوارع، كنوع من مواصلة الضغط حتى تسليم السلطة للمدنيين، وهو فرس السباق الذي يراهن عليه الشعب السوداني الذي يرفع شعار السلمية والمقاومة بالوسائل المشروعة.
وفي الأخير.. فإن المرحلة القادمة وحتى نهاية الشهر الحاليّ والأيام التي تليه ستكون فترة اختبار وتقييم للاتفاق الموقع، ومن ثم مفتوحة على السيناريوهات كافة، التي سيكون الشارع فيها اللاعب الأبرز حضورًا في الملعب الذي يتطلب بقاءه طيلة دقائق المباراة المتوقع أن يكون لها وقت إضافي قبيل الوصول إلى مرحلة “ضربات الجزاء”.