تكسرُ الكوارث والمصائب التي تصيبنا آلياتنا الدفاعية وتمنعها من الاستجابة بشكل فعّال، وتتسبّب لنا في صدمة عاطفية وتقلب حياتنا رأسًا على عقب؛ هذه الحالة العاطفية الشديدة تقطع علاقات المرء مع نفسه ومع الآخرين والبيئة، ما يخلق فراغًا فيما يتعلق بمعنى الحياة واستمراريتها وتحمُّل مصاعبها.
هذا الموقف، الذي نسميه الصدمة، هو عملية طبيعية يمرُّ بها كل ناجٍ أو لاجئ. خلال هذه الفترة، بعض ضحايا الكوارث واللاجئين قد يمرّون بمشاعر أكثر حدّة وفي فترة زمنية أطول، وفي هذه الحالة قد يحتاجون إلى مساعدة متخصِّص.
كما يمكن أن تنطوي الصدمة على تجارب قاسية قد يجد الآخرون صعوبة حتى في الاستماع إليها وإلى مآسيها، من معاناة نقص التغذية وظروف معيشية غير صحية وأمور أخرى.
أكبر أزمة لاجئين في العالم
بلغ عدد اللاجئين السوريين 6.8 ملايين عام 2021 بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ما يمثّل أسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
وبحسب صحيفة “ذي غارديان“، قابلت المنظمة 721 لاجئًا يعيشون في تركيا ولبنان وإدلب لإجراء بحث، خلصَ إلى أن 88% من المشاركين واجهوا حدثًا واحدًا على الأقل يهدِّد الحياة بسبب الحرب، وأظهروا عرضًا واحدًا على الأقل من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
اضطراب ما بعد الصدمة هو اضطراب نفسي يحدث للناس الذين عانوا أو شهدوا حدثًا مؤلمًا مثل كارثة طبيعية أو حادث خطير أو عمل إرهابي أو حرب أو قتال أو اغتصاب، أو الذين تعرّضوا للتهديد بالقتل أو العنف الجنسي أو عانوا من إصابة شديدة، أو عانوا أو شهدوا أو تلقوا تهديدًا للسلامة الجسدية، وغالبًا يكون رد فعل الشخص خوفًا وعجزًا ورعبًا شديدًا.
خلصت الدراسة إلى أن 88% من المشاركين واجهوا حدثًا واحدًا على الأقل يهدد الحياة بسبب الحرب، وأظهروا عرضًا واحدًا على الأقل من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
وفي هذا الصدد، كانت المعدلات على الشكل التالي: 76% في تركيا، و74% في لبنان، و99% في إدلب.
وخلصوا أيضًا إلى أنه في المتوسط أظهر 84% من المشاركين 7 على الأقل من أصل 15 عرضًا رئيسيًا لاضطراب ما بعد الصدمة. وبحسب التقرير، عندما يتعلق الأمر بوصول هؤلاء اللاجئين إلى خدمات الصحة النفسية، يذكر اللاجئون في تركيا أن لديهم فرص أفضل للوصول إلى هذه الخدمات بنسبة 64%، في حين أن النسبة في لبنان هي 15% وإدلب فقط 1%.
وتشخيص الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة يتم وفق معايير كتاب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية “DSM-V Diagnostic Criteria”، وهو كتاب تشخيص للأمراض النفسية يستخدمه الأطباء النفسيون وعلماء النفس الإكلينيكي في جميع أنحاء العالم.
وفقًا لـ DSM-V، فإن التشخيصات الأكثر شيوعًا لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) واضطراب الاكتئاب الشديد (MDD) هي التشخيصات الأكثر شيوعًا بين اللاجئين.
يُعرَف MDD بالاكتئاب الحاد، لأن الشخص المكتئب لا يستمتع بالحياة، ويشكو من عدد من الأمراض مثل نقص الشهية ومشاكل الأكل ومشاكل النوم والشعور المفرط بالذنب وعدم القيمة والتعب وفقدان الطاقة وأفكار الموت ومحاولات الانتحار.
كذلك الأعراض أو السلوكيات النفسية الأخرى التي تظهر بشكل خاص في ضحايا الصدمات، مثل الانفعال المفرط أو عدم القدرة على الشعور بأي شيء، والابتعاد عن المجتمع، ومشاكل التركيز والذاكرة.
الضغوط في البلد المضيف
فرَّ العديد من السوريين من البلاد وطلبوا اللجوء في بلدان مختلفة، ورغم أن معظمهم عاشَ في بيئة أكثر أمانًا نسبيًّا بعد أن واجهوا مخاطر جسيمة للوصول إلى وجهتهم، إلا أنهم عانوا نفسيًّا لأنهم كانوا بعيدين عن وطنهم وأفراد عائلاتهم وأصدقائهم وبيئة العمل المعتادة، وكل ذلك أثناء تعرُّضهم لظروف معيشية سيّئة.
يعاني الأشخاص الذين غادروا منطقة الصراع أيضًا من اضطرابات نفسية وعقلية يمكن أن تختلف عن الذين بقوا في الداخل، فعند مقارنة نسبة اضطراب ما بعد الصدمة الذي يظهر بين 1.3% و8% في عموم سكان تركيا مثلًا، يظهر بين 15% و74% من اللاجئين.
نظرًا إلى هذه النسبة باعتبارهم مجموعة سكانية ضعيفة، ربما يتعرض اللاجئون لأحداث مؤلمة مثل التعذيب والاغتصاب والقتل والأحداث الصادمة المحتملة أثناء رحلة لجوئهم، لذلك عند وصولهم إلى المعسكرات أو البلدان المضيفة، يعاني الكثير منهم بالفعل من إعاقة نفسية وجسدية.
بجانب الخصائص الاجتماعية والديموغرافية التي لها دور بتطور الاضطرابات النفسية بين اللاجئين، أيضًا نتيجة الأحداث السلبية التي حدثت قبل اللجوء، يتبيّن أن عدد الأحداث المؤلمة المحتملة يلعب دورًا مهمًّا في زيادة معدلات الاضطرابات النفسية.
الضغوط اليومية مثل العيش في أماكن غير آمنة، ونقص الوصول إلى الاحتياجات الأساسية وغياب الدعم الاجتماعي، وانعدام الأمن والبقاء لفترة أطول في البلد المضيف، كلها تؤثِّر على الصحة النفسية.
في هذا الصدد، أظهرت الدراسات التي أجريت على اللاجئين السوريين أيضًا أن ارتفاع عدد الأحداث المؤلمة هو عامل مهم يُنبئ بمشاكل الصحة العقلية والنفسية.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن العوامل الجغرافية لها تأثير على الصحة النفسية بين اللاجئين، فقد ربطت الدراسات انتشار الاضطرابات النفسية بين اللاجئين بكل من بلد المنشأ وبلد اللجوء.
إن اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا أبلغوا عن مستوى أعلى من اضطراب ما بعد الصدمة والأمراض النفسية وخصائص الصدمات، مقارنة باللاجئين من الأصل نفسه المقيمين في السويد، كذلك أظهرت نتائج الدراسات أن انتشار الاضطرابات النفسية الخطيرة كان أعلى في المدن الكبرى مقارنة بالمناطق الريفية.
كما أن الضغوط اليومية والظروف المعيشية في البلد المضيف، من بين العوامل التي تؤثر على الصحة العقلية للاجئين، على سبيل المثال إن الضغوط اليومية مثل العيش في أماكن غير آمنة، ونقص الوصول إلى الاحتياجات الأساسية وغياب الدعم الاجتماعي، وعوامل مثل رداءة نوعية المعيشة داخل مخيم اللاجئين، والتجارب العنصرية في البلد المضيف، والبطالة، والصعوبات الإدارية في المخيم، وانعدام الأمن والبقاء لفترة أطول في البلد المضيف، كلها تؤثِّر على الصحة النفسية.
النازحون داخليًّا
ترك الصراع في سوريا السكان في الداخل في خطر كبير للإصابة بالاضطراب والضيق النفسي الذي كان أعلى مقارنة باللاجئين السوريين في أماكن أخرى، حيث تشير دراسة إلى أن النازحين داخليًّا عانوا من اضطرابات نفسية أكثر حدة من اللاجئين السوريين في معظم البلدان، وبحسب هذه الدراسة أكثر من 60% من السكان يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات نفسية شديدة.
كما ارتبط امتلاك خلفية تعليمية عالية باضطرابات نفسية أقل حدة، علاوة على ذلك إن عدد مرات تغيير أماكن المعيشة بسبب الحرب، وانخفاض المستوى التعليمي، حتى سماع صوت القصف ورؤية الدمار كان مرتبطًا بشكل أكبر باضطراب ما بعد الصدمة واكتئاب وقلق أشد.
كذلك الدعم الاجتماعي كان عاملًا وقائيًّا لتطور اضطراب ما بعد الصدمة، وعلاوة على ذلك زادَ معدل حدوث الإجهاد اللاحق للصدمة للذين لديهم دعم اجتماعي منخفض.
الأثر على الأطفال
كان على معظم الأطفال أن يكبروا في بيئة مثقلة بالحرب أثّرت على نموهم الطبيعي، أدّت هذه الاضطرابات وفقدان الدعم الاجتماعي والعاطفي إلى أنماط من الصدمات النفسية الشديدة التي تركت العديد من الأشخاص عاجزين وغير قادرين على مواجهة التحديات اليومية، ويرجع ذلك أساسًا إلى سنوات من الاضطرابات النفسية الشديدة والأعباء المالية الباهظة التي تهدِّد عدة أجيال.
سيكون لتأثيرات ما بعد الصدمة تأثير طويل الأمد قد يستمر لعدة سنوات بعد حل النزاع.
كما تحدث عبد الرحمن قضماني، الذي كان يعمل في مراكز العلاج النفسي المختصة باللاجئين السوريين في تركيا، لـ”نون بوست” أن الأثر النفسي السلبي كان واضحًا جدًّا للأسف بأشكال كثيرة، منها غياب الأهداف والأحلام والطموحات لدى الأطفال، والإحساس باليأس والهوان، وفقدان الثقة بالنفس والاستحقاقية، والقلق والخوف من كل شيء، وفقدان المتعة؛ كذلك وجود الكثير من الأطفال الذين اضطروا لترك التعليم من أجل العمل في المصانع للمساهمة في إعالة أسرهم.
كما تشير دراسة أجريت على اللاجئين السوريين إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأمهات يؤثِّر على قدرات المعالجة العاطفية للأطفال، حيث نُشرت في مجلة “الجمعية الملكية للعلوم” (Royal Society Open Science) دراسة بهذا الشأن، استكشفت الصحة العقلية لعائلات اللاجئين السوريين التي تعيش في المجتمعات التركية.
وجدَ الباحثون أن الأمهات اللاتي يعانين من ضغوط أكبر بعد الصدمة لديهن أطفال يتمتعون بقدرات معالجة عاطفية أسوأ، ما يشير إلى أن الإجهاد اللاحق للصدمة لدى الأم يمكن أن يؤثر سلبًا على التطور المعرفي الاجتماعي لأطفالها.
إن إحدى الطرق لحماية الأطفال من التأثير السلبي لصحة الأمهات العقلية السيّئة، قد تكون معالجة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأمهات بشكل مباشر، وقد يكون من المفيد أكثر تقديم الدعم للأمهات (ماليًّا أو من خلال برامج دعم الوالدَين) من أجل تحسين نوعية حياتهن، وبالتالي أطفالهن.
يؤكد الباحثون أن هناك حاجة لدراسات لتسليط الضوء على ما إذا كان الانخفاض في متلازمة ما بعد الصدمة لدى الأمهات يتبعه تحسُّن في المعالجة العاطفية للأطفال أو لا.
آثار العبء والضغط النفسي ونتائجه
للحرب آثار حادة ومزمنة على المجتمع، وتعتبر من أكثر الأحداث المجهدة نفسيًّا وعقليًّا التي يمكن أن يمرَّ بها الإنسان، يمكن أن تكون الآثار غير المباشرة للحرب كارثية لأنها يمكن أن تستمرَّ لسنوات حتى بعد تسوية الصراع، وتمثّل عواقب الحرب تحديًا بدءًا من نقص الموارد مثل الغذاء والماء والوقود والتوازن الطبي، إلى النزوح وتفشّي الأمراض.
كما أن الخوف، وسرعة الغضب، والعصبية، وصعوبة النوم أو البقاء نائمًا، وانعدام الأمل في المستقبل، ونوبات الرعب والذعر، كانت بعض السمات التي عاشها اللاجئون السوريون في مخيم الزعتري في الأردن.
وبالمثل، إن 31.8% من اللاجئين في السويد، و29.5% من الطلاب السوريين يعانون من القلق، حيث وجدت دراسات أخرى في سوريا أن صحة الأسنان والصحة التناسلية مرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة والاضطرابات النفسية، كما وجدت دراسة مماثلة ارتفاع معدل انتشار الارتجاع الحنجري البلعومي الذي يرتبط أيضًا بمتغيرات الحرب.
بعد اقتلاع اللاجئين من بيئتهم، يضطر الفرد إلى ترك البيئة المألوفة والعيش في بيئة جديدة لفترة غير محددة، أيضًا مشاكل التكيُّف والاندماج التي تنشأ مع اقتلاعهم من بيئتهم هي تجربة مؤلمة للاجئين، وتضيف تحديًا للصدمة التي مرّوا بها من قبل.
في الحالة النفسية العاطفية التي يمرُّ بها كل ناجٍ من كارثة، أول ما يريده يكون هو أن يعيش حياته السابقة مع كل مصاعبها ومتاعبها.
يمكن القول إن الموضوعات المشتركة التي ظهرت في أمثلة اللاجئين الذين يعانون من الصدمة، تشمل فقدان الثقة بالذات والأسرة والأصدقاء والمكانة والحياة والدين، حيث يعاني هؤلاء الأفراد أيضًا من مشاكل بسبب الصراع بين الثقافات، والتكيُّف مع ثقافة جديدة، والصراع بين الأجيال، وظروف الخدمات الصحية.
تجارب مؤلمة
قالت امرأة تعيش في لبنان، لم ترغب في الإفصاح عن اسمها، أثناء الردّ على أحد الاستطلاعات: “لا أريد الخروج على الإطلاق، فأنا أبقى في خيمة. أحيانًا أعاني من نوبات من التوتر مثل شخص يريد تحطيم كل شيء وأن أضرب زوجي”.
قالت المرأة السورية إنها ناضلت من أجل النجاة من المآسي المتراكمة على مدار سنوات الحرب، وقالت إن ذلك شملَ فقدان طفل حديث الولادة بسبب المرض.
وفي حالات مختلفة، أشار عبد الرحمن قضماني إلى حالات يأس كبار السن الذين فقدوا أبناءهم الشباب وفرّوا مع النساء والأطفال، ولم يسمح لهم أحد بالعمل بسبب كبر سنهم، ولا معيل لهم، وتعرّضوا للآثار النفسية وفقدان المكانة الاجتماعية، كما فقدوا دائرة معارفهم الاجتماعية المألوفة واقتلعوا من بيئتهم ووسطهم الاجتماعي تحت الضغط، تاركين وراءهم المعنى الذي يربطهم بالحياة.
نظرة المجتمع بأهمية وجدوى العلاج النفسي
يقول عبد الرحمن قضماني لـ”نون بوست”: “إن النظرة متفاوتة جدًّا، بعض الأشخاص لديهم خلفية جيدة ونظرة إيجابية عن الموضوع، ويؤمنون به، أما البعض الآخر فغير ذلك”، ومن غير المرجّح أن يطلب أغلب الناس المساعدة ويظل العلاج غير متاح على نطاق واسع للاجئين.
إن وصمة العار التي تلحق بالصحة النفسية في سوريا شائعة جدًّا، ولا يوجد سوى عدد قليل من الأطباء النفسيين الممارسين والمعالجين النفسيين، وربما تعيد كلمة “علاج نفسي” إلى الذهن صورة غرفة مع معالج ومريض يعملان على حل مشكلة، وجدول بينهما وجلسة يملأها الدموع، وهذه صورة قاصرة عن العلاج النفسي والمعرفي السلوكي.
ونظرًا إلى أن الدعم الاجتماعي كان ضعيفًا، ولتعزيز الصحة النفسية في المجتمع، هناك حاجة إلى برامج على المستوى المجتمع والمستوى الوطني لزيادة الوعي، والمساعدات الإنسانية مطلوبة للاستفادة من الخبراء الدوليين في الصحة النفسية.
فقد افتقرت العديد من الدراسات إلى التمويل المناسب، ما أدّى في النهاية إلى توليد بيانات محدودة، لأن الوضع المالي المتدهور هو عامل قوي يساهم في المعاناة، وهناك العديد من التحقيقات والإجراءات الطبية الحاسمة التي لم يتمَّ إجراؤها في معظم الدراسات في سوريا، وهذا يعكس بعض النتائج السلبية التي عانى منها السوريون الذين تأثروا بالحرب.
تركّز معظم المنظمات والجمعيات على توفير الضروريات مثل الطعام والملبس والمأوى، ومع ذلك يجب عدم نسيان الصحة النفسية من بين الاحتياجات الهامة الأخرى للاجئين، ولا شكّ أننا بحاجة إلى دراسات أكثر حساسية ومنهجية حول الحالة النفسية للاجئين.