رغم أن النبرة السائدة عند المفكرين العرب اليوم، أن الربيع العربي لم يلبث أن تحول إلى خريف، إلا أن الحقيقة تقول غير ذلك، وما حدث في تونس والسودان يثبت ذلك، فكلا الانقلابَين يترنّحان ويراوحان في مكانهما دون أي تقدُّم لصالح البرهان أو قيس سعيّد، وهو مؤشر يعكس إشارات مهمة في الـ 10-20 سنة القادمة.
لأن الزمن تغيّر
في منتصف القرن الماضي -الستينيات وصعودًا- يمكنك أن ترى ببساطة نزعة الجماهير للالتفاف حول القائد الأوحد، كان هناك جمال عبد الناصر والملك محمد الخامس والملك حسين وغيرهم، ولم يكن صحيحًا أبدًا أن هؤلاء كانوا فاقدين للشعبية كحال الدكتاتوريات الآن، بل كان هناك قطاع واسع مؤمن بما يقوله هذا القائد، وكان لهذا عدة أسباب، منها أن الشعوب كانت حديثة عهد بالخروج من الخلافة العثمانية وزمنها.
إذ كان ذلك العهد هو عهد القائد الفذّ ذي الكاريزما، الذي تتجمّع حوله الجماهير ليقودها إلى المجد، تمامًا مثل الطريقة التقليدية في التاريخ الإسلامي بعصوره المتأخرة والوسطى، لم يكن الأمر مسألة منظومة مجتمعية ولا سياسية، قدر ما كان الالتفاف حول الشخص الواحد الذي سيقود المسيرة نحو التقدم.
رافقَ ذلك بالطبع أن أغلب هذه الشخصيات جاءت من خلفية عسكرية لها جانب من حركات التحرر التي اجتاحت العالم ذلك الوقت، لتكتمل الصورة: أبطال يحملون مجد التحرر من الاستعمار، وشعوب عطشى للمجد القديم.. ومن أفضل من أبطال التحرير ليكمل المسيرة؟
ليس ببعيد عن السبب الأول، كانت شخصية أولئك القادة تملك من الكاريزما والقوة ما يؤهّلها للعب هذا الدور، شخصية كجمال عبد الناصر أو بورقيبة، أو صدام حسين لاحقًا.. كان لها تأثير كبير على الجمهور بحكم جاذبيتها وهو أمر تفتقده بالطبع شخصيات من أمثال السيسي أو البرهان أو قيس سعيّد.
بحكم ذلك العصر، كان يمكن لأولئك الرؤساء التحكم بكل ما يُقال أو يُسمع في بلدانهم، لم يكن التلفزيون منتشرًا على نطاق واسع، وحتى حين انتشرَ كانت الصحافة بالكاد تشقّ طريقها فيه، كان المصدر الوحيد للتأثير على الجمهور بفاعلية من الخارج: الراديو، وبالطبع كان يمكن احتواء ضرره أو منافسته بإنشاء محطات إذاعية مثل “راديو العرب”، و”صوت القاهرة” وغيرهما.
تعداد السكان ودرجة تعليمهم ونسبة فقرهم عامل آخر، مثلًا: تعداد مصر عام 1950 لم يتعدَّ 21 مليونًا، تونس كانت 3.5 مليون نسمة فقط، ولم يتعدَّ العراق وقتها 6 ملايين نسمة. كانت النسبة الأكبر في العالم العربي من غير المتعلمين والأوضاع الاقتصادية كانت صعبة في كثير من البلدان الواقعة تحت الاستعمار.
يضع الكثير من علماء الاجتماع التعليم والتنمية كشرطَين أساسيَّين للتحول نحو الديمقراطية، ومن دونهما يمكن للدكتاتورية النمو والتأثير في البلدان التي تظهر فيها.
في عام 1959، نشر عالم الاجتماع سيمور مارتن ليبست بحثًا بعنوان “بعض المتطلبات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية”، وتُجادل ما يُسمّى بـ”أطروحة ليبست” بأن الديمقراطيات، وبالتالي النزاهة الانتخابية، تزدهر بشكل أفضل في المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية مع تعليم على نطاق واسع، وطبقة وسطى مهنية ثرية ومجموعة تعددية من الجمعيات المدنية التي تعمل كحاجز بين المواطنين والولاية، وحددت المطالبة الأصلية لليبست ببساطة ما يلي: كلما كانت الأمة أكثر رفاهية وتعلمًا، زادت فرصها في الحفاظ على الديمقراطية.
في منتصف القرن الماضي -الستينيات وصعودًا-، يمكنك أن ترى ببساطة نزعة الجماهير للالتفاف حول القائد الأوحد.
ماذا حصل بعد ذلك؟ بدأت الدكتاتورية تفقد بريقها بفعل طبائع الأمور، مات أغلب الرؤساء من الجيل الأول الذي أعقب فترة التحرر من الاستعمار، مثّل الجيل الثاني منهم شخصيات لا تملك مقومات أسلافهم، فهُم إما شخصيات ثانوية في الثورات، وإما أبناء وأقارب الدكتاتور الأول.
ورغم أن ماكينة القمع والتكميم استمرت على حالها، إلا أن عنصرًا رئيسيًّا غاب عن المعادلة، تمثّلَ في حماسة الجماهير للزعيم الأول، فضلًا عن أن تراكم الأخطاء والمظالم وطول المدة التي تبيّنَ خلالها أن ما كان يعد به الزعيم الأوحد لم يكن سوى خديعة ليظلَّ في الحكم حتى أنفاسه الأخيرة، يُضاف إلى ذلك أن الجيل الثاني من الحكام، ولافتقارهم للشرعية، حاولوا بناء شرعيتهم على إبراز أخطاء وثغرات أسلافهم، كما حصل مثلًا مع الرئيس المصري أنور السادات، ومن بعد محمد حسني مبارك.
الربيع الذي أعقبه الخريف
وصولًا إلى الربيع العربي، كانت الأوضاع على بعد شعرة من الانهيار، لم يكن يُبقي الحاكم على كرسيه سوى بضع ألوية من قوات الأمن والجيش، مصحوبة بالخوف والترهيب.
زالَ الخوف ابتداءً من أضعف بقعة دكتاتورية، وهي تونس، عام 2010 -وللمفارقة كانت تونس إحدى أكثر البلدان تعليمًا وقربًا من المنهج الغربي-، تبعَ ذلك سقوط باقي الدكتاتوريات مثل أحجار الدومينو، لتبدأ مرحلة فاصلة في التاريخ العربي: ولّت الدكتاتورية مرة واحدة وإلى الأبد!
حتى مع الانقلابات اللاحقة، لم تستطع الأنظمة البديلة تحقيق اختراق كبير، مصر نفسها التي تُعتبر نموذجًا للانقلاب العسكري، لا يزال الانقلاب يحاول جذب الجماهير دون جدوى، وهي المشكلة ذاتها التي يعاني منها قيس سعيّد والبرهان وحفتر. فما المشكلة؟
يكمن الجواب في أساليب أنظمة الانقلاب نفسها، إنها تستعمل نفس الخدع القديمة في إسكات المعارضة والانفراد بالرأي الواحد، وهو حلّ ناجح لولا أن الدنيا تخطته منذ أمد بعيد بظهور الإنترنت والصحافة المرئية ووسائل التواصل الاجتماعي.
الشعوب اختلفت كثيرًا والعالم أصبح قرية صغيرة، هناك نسبة عالية من المتعلمين والمثقفين في المجتمعات، والتي لا تنطلي عليهم البروباغندا الصفراء المفضوحة. مشكلة إعلام الأنظمة القمعية أنها لا تجيد سوى التمجيد بالقائد المخلِّص من الإرهاب أو الإخوان.. إلخ. إنها بيئة لا يمكنها التفكير خارج الصندوق أصلًا، فنجد هوة كبيرة حاصلة بين الإعلام والشعوب.
النقطة الأهم طبيعة الشخصيات الانقلابية، وهو مثال صارخ يمثّله قيس سعيّد وعبد الفتاح البرهان، اضطر البرهان للتراجع أخيرًا لأنه لا يملك أبسط مقومات الدكتاتور ولا أدواته. يخبرنا تاريخ الانقلابات العسكرية أن أغلب الانقلابيين هم من العسكر، لكن العسكر يتوهّمون أحيانًا أن كل العسكر يمكن أن يكونوا انقلابيين.
إن الأثر الذي أحدثه الربيع العربي وخريفه، أصبح مثلًا حيًّا على عواقب عودة الدكتاتورية، لقد عاش الجيل نفسه في السودان وتونس وليبيا والجزائر عواقب الدكتاتورية في مصر، ويعلمون جيدًا أن انقلابات كهذه لن تودي إلا لمزيد من الخراب والتخلف.
لن يلبث الزمن طويلًا حتى تنهار آخر الدكتاتوريات، إما بفعل الاقتصاد وإما بفعل سياسة تلك الأنظمة التي تقف على شعرة من الخوف.
طبيعة الأعباء هي الأخرى تفرض نفسها كعامل مهم لن يستطيع أي فرد مهما كانت قوته حلّها بنظام الرجل الواحد؛ زيادة التعداد السكاني ونسبة الفقر فرضتا أعباء جديدة لا يمكن للبروباغندا التغطية عليها أو معالجتها؛ في تونس مثلًا تعاني البلاد من أزمة اقتصادية عميقة تبدأ من تفاوتات اقتصادية متزايدة لصالح مناطقها الساحلية، والتي تمثل أكثر من 80% من المناطق الحضرية و90% من إجمالي العمالة.
في الواقع، أدّت جائحة كوفيد-19 والأزمة الصحية الناتجة عنها إلى مزيد من التدهور للاقتصاد التونسي، الذي كان هشًّا بالفعل ويواجه العديد من العقبات الهيكلية التي تفاقمت بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي أعقب ثورة 2011، وصولًا إلى انهيار الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8.6% عام 2020 مقارنة بعام 2019، واتّسع عجز الميزانية إلى 10.2% من الناتج المحلي الإجمالي، ووصل الدين العام للبلاد إلى 87.6% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2020.
كما تعاني تونس من ثقل ديونها الخارجية، ما يعادل 30 مليار دولار، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، كما تشير المؤشرات الاجتماعية إلى تدهور الوضع الاجتماعي، حيث ارتفعت نسبة الفقر من 14% إلى 21% في عام واحد، وانتهاءً بارتفاع معدل البطالة من 15% في الربع الأول من عام 2020 إلى 17.8% في الربع الأول من عام 2021، وهذه ليست سوى مشاكل أولية في منظومة سياسية فاسدة.
بالمقابل، نصّب قيس سعيّد نفسه حاكمًا أوحد بذريعة عجز النظام السياسي السابق عن حل هذه الأزمة، والرجل محدود الفكر والكفاءة، لا يملك من المؤهّلات ما يجعله يصمد أمام المطالب الشعبية بالرحيل، والتي بدأت بوادرها بالفعل، المشهد نفسه يُعاد في السودان، حيث لم يدم الانقلاب سوى فترة قصيرة، لاستحالة استمراره في بلد منهَك من الفقر والاستبداد.
بالمجمل، لن يلبث الزمن طويلًا حتى تنهار آخر الدكتاتوريات، إما بفعل الاقتصاد وإما بفعل سياسة تلك الأنظمة التي تقف على شعرة من الخوف.. والأجهزة القمعية!