بات واضحًا أن مسار الخلاف الحالي بين زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وقيادات أخرى في الفصائل المسلحة يسير بأحد اتجاهَين، إما الصدام وإما استمرار الوضع الراهن، هذا المسار ساهمت في بلورته العديد من الأسباب السياسية والأمنية، أبرزها نتائج الانتخابات ودعوة الصدر لحلّ الفصائل المسلحة.
ومن ثم فإن هذا يشير بدوره إلى أن مضي الطرفَين بسياسة حافة الهاوية سيعقّد المشهد السياسي كثيرًا، خصوصًا مع قرب مصادقة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات على النتائج، وإصرار الصدر على عدم التفريط باستحقاقه الانتخابي.
دفعَ الأمر ببعض قيادات الفصائل المسلحة دعوة قواعدها الشعبية للاستعداد للمنازلة الكبرى في 31 ديسمبر/ كانون الأول، وتحديدًا زعيم كتائب سيد الشهداء أبو آلاء الولائي، وهو الموعد الذي سيصادف إنهاء تواجُد القوات القتالية الأمريكية في العراق، فيما فسّرها آخرون على أنها دعوة موجَّهة ضد الصدر نفسه، الذي طالب مؤخرًا بحلّ الفصائل المسلحة.
أسباب الخلاف الجوهرية بين الطرفَين
ممّا لا يخفى على أحد أن أسباب الخلاف بين الصدر وقيادات الفصائل المسلحة قديمة وعديدة أيضًا، فالصدر ينظر إلى هذه الفصائل على أنها كانت جزءًا من قواعد التيار الصدري، انشقّت عن “جيش المهدي” الذي كان يتزعّمه الصدر سابقًا، ورغم ادّعاء أغلب هذه الفصائل ارتباطها بوالده السيد محمد محمد صادق الصدر، إلا أن الصدر بقيَ رافضًا أن تتقاسم هذه الفصائل معه مصدر هذه الشرعية.
كما أن أحد أسباب الخلاف تتعلق بالقوة الاقتصادية والسياسية التي بنتها الفصائل المسلحة في مرحلة ما بعد “داعش”، والتي أصبحت موازية من حيث القوة والمكانة والتأثير لسرايا السلام التابعة للصدر، والنقطة الثالثة والمهمة تتعلق بمهمة الصدر الجديدة، فالصدر يدرك جيدًا أن نجاحه في عملية تشكيل الحكومة الجديدة لا معنى له في ظل استمرار احتفاظ الفصائل المسلحة بسلاحها ووجودها، ومن ثم إنه لا يريد الدخول في عملية صدام مباشرة مع هذه الفصائل، في حالة أي خلاف قد ينشب بين الحكومة وبينها مستقبلًا، ما يعني إمكانية فشل هذه الحكومة في البقاء على قيد الحياة أيضًا.
تدرك قيادات الفصائل المسلحة أن إصرارها على المضي قدمًا بالتصعيد قد لا يأتي بنتائج متوقعة.
ويُضاف إلى كل ما تقدَّم أن هناك تمايزًا واضحًا بين الصدر وقيادات الفصائل المسلحة فيما يتعلق بالنظرة إلى إيران، فالصدر ورغم إدراكه أن إيران تشكّل عمقًا استراتيجيًّا للشيعة في العراق، ولا يجوز الوصول معها إلى نقطة قطيعة نهائية، إلا أنه يعتقد بضرورة أن تكون هناك هوية “شيعية عراقية” متمايزة عن “الهوية الشيعية الإيرانية”، والتي جعلته يحتفظ بخطوط واضحة عن إيران سياسيًّا وفقهيًّا.
أما قيادات الفصائل المسلحة، فإنها تعتقد بالولاء للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وأن العراق جزء من “أم القرى” في طهران، حيث تقام ولاية الفقيه العادل نيابة عن الإمام الغائب، وأنه لا يوجد تمايز بين هوية شيعية عراقية أو إيرانية، طالما أن الاعتقاد الفقهي واحد.
تحالفات معقّدة وبيئة ساخنة
تدرك قيادات الفصائل المسلحة أن إصرارها على المضي قدمًا بالتصعيد قد لا يأتي بنتائج متوقعة، خصوصًا أن هناك طرفًا داخل الإطار التنسيقي الشيعي، الرافض لنتائج الانتخابات، يبدو أنه ليس متحمّسًا لسياسة التصعيد، وإن اضطرَّ لأسباب عداوة شخصية مع الصدر على تبنّي خطاب الإطار، وليس بسبب نتائج الانتخابات، والحديث هنا عن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، فهو لا يمكن اعتباره ضمن مسمّى “الخاسرين”، لأن عدد المقاعد التي حصل عليها قرابة 40 مقعدًا.
ومثلما يبدو الحديث عن تحالف الصدر والمالكي ضربًا من المستحيل في نظر كثيرين، يبدو كذلك بقاء حالة “العداء العميق” بين الرجلَين مسألة مستبعَدة غير واقعية، في ظلّ التباس الأوضاع، والتعقيد الحقيقي القائم فيما بات يُعرَف بـ”البيت الشيعي” الذي صار العُرف السياسي، وليس الدستوري، يضع على عاتقه مسؤولية اختيار رئيس الوزراء، المسؤول التنفيذي الأول في البلاد، في ضوء أن الأغلبية العددية يملكها المكوّن الشيعي في البرلمان، رغم أنها أغلبية متنافرة غير منسجمة، سواء على مستوى البرلمان أو في المجال السياسي العام.
فاحتمال تحالف “العدوَّين اللدودَين” غير مستبعَد بالنسبة إلى الكثيرين، لحصولهما على أكبر عدد من المقاعد النيابية داخل المكوّن الشيعي وخارجه تقريبًا، الأمر الذي قد يضع الجانبَين أمام مسؤولية مباشرة تتعلق بتشكيل الحكومة، ومن دون اتفاقهما، حتى عبر مسار غير مباشر، لن يُكتَب للحكومة المقبلة أن تبصر النور لأشهر طويلة جدًّا.
تتمثل القناعات السياسية والأمنية التي تتحكم برؤية كل من الصدر وقيادات الفصائل المسلحة، في أن العملية السياسية لم تعد تحتمل بقاء كلا الطرفَين، فكلاهما يحمل ذات القناعات السلبية عن الآخر.
ومن أجل عدم التأثير على عمل مفوضية الانتخابات، أكّد الصدر رفضه التدخل بعمل مفوضية الانتخابات، مشيرًا في الوقت نفسه إلى ضرورة عدم التدخل في عمل القضاء والمحكمة، وفي تصديقها على نتائج الانتخابات التي يريد البعض تغييرها، إذ ما زالت قضية نتائج الانتخابات تلقي بظلالها على المشهد السياسي والأمني في العراق، وما زال الإطار التنسيقي الشيعي مصرًّا على رفض النتائج التي أعلنتها المفوضية، ويؤكد إصراره على العدّ والفرز اليدوي لكل صناديق الاقتراع، بل إن هناك أطرافًا في الإطار تطالب بإلغاء نتائج الانتخابات جملةً وتفصيلًا.
تتمثل القناعات السياسية والأمنية التي تتحكم برؤية كل من الصدر وقيادات الفصائل المسلحة، في أن العملية السياسية لم تعد تحتمل بقاء كلا الطرفَين، فكلاهما يحمل ذات القناعات السلبية عن الآخر، الصدر لا يريد أن يتبنّى حكومةً في ظل وجود الفصائل، وقيادات الفصائل المسلحة لا تريد أن تلقي سلاحها، لأنه عندها ستكون لقمة سائغة للصدر، وبين هاتين الرؤيتَين ما زالت أغلب التوقعات تشير أن ماراثون تشكيل الحكومة المقبلة سيطول في ظل التعنُّت السياسي الحالي.