بعد أكثر من 3 أشهر على حالة الاستثناء التي فرضها الرئيس قيس سعيّد، بات التونسيون شبه متأكدين أن التحديات التي تواجِه الاقتصاد تتفاقم بوتيرة متسارعة مع انسداد آفاق التمويل الخارجي حتى الآن لإعادة تحريك عجلات النمو المتعثِّر، والذي زادت من أوجاعه انقلاب 25 يوليو/ تموز، وهو ما عمّقَ المخاوف بشأن مستقبل البلاد الذي يرواح مكانه بين وعود الإصلاح والغرق في التقييمات الدولية السلبية.
في وقت يحاول فيه الرئيس سعيّد وقف النزيف الاقتصادي بالوعود حتى يطمئنّ التونسيون لقراراته المثيرة للجدل وغير الدستورية، بلغ الوضع حدودًا تُنذر بالكارثة، خاصة أن حالة انعدام الاستقرار المزمنة وغياب مصادر التمويل لوضع خطط التنمية، بدأت تدفع مناخ الأعمال إلى التقهقر والاستقرار الداخلي إلى الاضطراب.
أزمة مالية
على خلفية التوتر المزمن الذي تعيشه تونس، بفعل السجال السياسي الذي تعمّق أكثر بعد انقلاب قيس سعيّد، والذي عُلّقت بموجبه أعمال البرلمان ودستور 2014 في 25 يوليو/ تموز، تعيش البلاد أزمة مالية واقتصادية خانقة، تتجلّى في ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتراجُع القدرة الشرائية، وارتفاع التضخُّم إلى 6.3% والبطالة إلى 18%، إضافة إلى تقلُّص خيارات الحكومة لضبط ميزانية الدولة.
عرف بلد مهد الربيع العربي مؤخرًا تدهورًا حادًّا في مستوى المالية العمومية، بسبب غياب الاستثمارات الداخلية والخارجية وارتفاع حجم الإنفاق، ما أدّى إلى ارتفاع الدين العمومي الذي عمّقَ الأزمة الاقتصادية أكثر فأكثر وعقّد عملية الإصلاح.
كما تسبّب تراجُع الاحتياطي النقدي الأجنبي في البنك المركزي إلى 7.7 مليار دولار؛ في تراجُع قيمة الدينار التونسي بنسبة 43%، ما أدّى بدوره إلى زيادة أسعار السلع الأساسية وإلى موجة غلاء غير مسبوقة في تاريخ البلاد، كما وصلت الديون الخارجية لأكثر من 35.7 مليار دولار، إضافة إلى أن تونس مطالَبة بسداد نحو 5.4 مليار دولار منها في العام الجاري، أي ما يزيد على 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
#تونس: حجم الديون الخارجية يهدد تونس بالإفلاس.
ذكر التقرير أن معدل الدين التونسي بلغ حوالي 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021.
في حين لم يتجاوز 40٪ في سنة 2011. و للإيفاء بالتزاماتها المالية ، تعاقدت تونس على ديون جديدة وفقا للمؤسسات المالية الدولية. pic.twitter.com/UEhzeIQyn4— Almagharibia TV قناة المغاربية (@almagharibia_tv) November 13, 2021
وبحسب الميزانية التكميلية لعام 2021، ارتفع عجز ميزانية الدولة لعام 2021 بنسبة 38%، ليبلغ 9792 مليون دينار تونسي (3448 مليون دولار)، مقابل توقعات بعجز في حدود 7094 مليون دينار (2498 مليون دولار) في قانون المالية الأصلي لعام 2021.
الاستثمار العمومي عرف بدوره تراجعًا حادًّا من 7.4 مليارات دينار مرسّمة في الميزانية الأصلية، إلى 4 مليارات دينار في قانون المالية التعديلي، كما ارتفعت حاجات الاقتراض الإجمالي إلى 21.1 مليار دينار مقابل 18.7 مليار دينار مبرمجة في الميزانية الأصلية.
هذا الوضع سيدفع الرئيس وحكومته إلى التعويل في تمويل العجز وتغطية تكاليف الخزينة على تعبئة موارد اقتراض خارجي بقيمة 12.1 مليار دينار، واقتراض داخلي بقيمة 8.1 مليارات دينار (مقابل 5.6 مليارات دينار في الميزانية الأصلية)، فضلًا عن بقية الموارد البالغة قيمتها 801 مليون دينار.
تونس الآن في حاجة ملحّة إلى أكثر من 7 مليارات دينار (2.47 مليار دولار) قبل نهاية السنة الجارية لغلق الميزانية التكميلية للسنة الجارية، وضبط ميزانية عام 2022، في وقت يعرف فيه البلد صعوبات كثيرة مقابل تقلُّص الحلول التي تمكّنه من تجاوز المرحلة الحرجة، خاصة بعد انحسار الإيرادات الضريبية واستنزاف النظام المصرفي المحلي.
تداعيات الانقلاب
من المعلوم لدى التونسيين أن الوضع الاقتصادي قبل انقلاب 25 يوليو/ تموز لم يكن في أحسن أحواله طيلة العشرية التي أعقبت ثورة 14 يناير/ كانون الثاني، إلا أن قرارات سعيّد وإجراءاته عمّقت الأزمة المالية وتسبّبت في خسائر كبيرة على مستوى استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وفي انتشار الشك وعدم اليقين لدى المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي الذي تعطّلت المفاوضات معه نظرًا إلى أن تجميد البرلمان، ما يعني عدم وجود مؤسسة منتخَبة تصادق على الخيارات والإصلاحات اللازمة.
هذه الوضعية الجديدة المعقّدة تواصلت طيلة 3 أشهر، وتعمّقت أكثر بتفرُّد الرئيس التونسي بالسلطة واتخاذ القرارات، وبحالة الضبابية والارتجال التي ميّزت أداءه السياسي، ما أدّى بدوره إلى تكاثُف حالة الغموض حول مستقبل الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
من هنا، فإن اتّباع قيس سعيّد الذي جمع بيدَيه تقريبًا كل السلطات وسياسة المراسيم والأوامر الرئاسية وضعف حكومته الجديدة بقيادة نجلاء بودن، رفعَ من مستويات الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد تراجع الترقيم السيادي للبلاد.
في هذا الصدد، دلّل المرسوم الخاص بقانون المالية التعديلي الذي أصدره سعيّد مؤخرًا، على نهج الرئيس في التعامل مع الملف الاقتصادي والأزمة الراهنة التي تعرفها المالية، فقد جاء القانون ضبابيًّا وغير واضح من ناحية الأرقام، ما أثار جدلًا واسعًا لدى الخبراء والسياسيين على حد سواء.
خطط سعيّد
لم يعد خافيًا على أحد في داخل تونس وخارجها أن البلاد على شفير الانهيار الاقتصادي، ما لم تتحرك السلطة الحالية بسرعة لوضع خطة إنقاذ عاجلة تحمل رؤى جديدة وفعّالة في آن واحد، وطمأنة الأسواق المالية الدولية والتواصل مع الدول الصديقة والشقيقة لمحاولة تأمين الموارد المالية اللازمة بالعملة الصعبة.
على الجانب ذاته، في وقت تتزايد التحذيرات من تفاقم الوضع في حال تأخرت مساعي الإنقاذ، فإن جهود قيس سعيّد ورئيسة وزرائه نجلاء بودن الهادفة لحل الأزمة الاقتصادية في تونس، لم تتجاوز حدّ الوعود والتطمينات التي يسوقها في خطاباته لمريديه.
وأمام المعضلة التي تحيق بالاقتصاد التونسي، خاصة بعد أن تأكد من خلال قانون المالية التكميلي توجُّه الدولة نحو تغطية العجز من الاقتراض، فإن سعيّد وفريقه الوزاري أمام خيارات محدودة جدًّا لكبح جماح الانهيار المتسارع لكل المؤشرات التنموية، ومن بينها نسوق التالي:
الاقتراض الداخلي والخارجي: تونس مضطرة لتغطية عجز ميزانيتها إلى التوجه إلى السوق الداخلية التي وقع التركيز عليها في العامَين الأخيرَين، ولكن هذه السوق صغيرة جدًّا ولا يمكنها تغطية العجز، كما أن الإقبال على السوق الداخلية سيزيد في ارتفاع نِسَب التضخُّم وفي عدم الاستقرار المالي.
أما الاقتراض الخارجي، فالظاهر أنه بعيد المنال في الوقت الراهن وفي ظل الظروف الحالية، خاصة بعد تأخُّر أصدقاء تونس وأشقائها، كما وصفهم سعيّد سابقًا، في تقديم الدعم المالي، فمن المستبعَد أن تتلقى تونس دعمًا خليجيًّا من السعودية والإمارات وكذلك مصر، فهذه الدول غير قادرة على تغطية الاستحقاق المالي وتغطية عجز الموازنة، وإن فعلت فهي لن تتعدّى دفعات في شكل هبات أي مسكّنات لا تسمن أو تغني من جوع.
من المعلوم أن تونس تحتاج خلال هذا العام لنحو 7 أو 8 مليارات دينار لغلق ميزانيتها، وبالتالي هي بحاجة في العام القادم إلى أرقام مضاعفة، وهو ما تعجز عن تقديمه هذه الدول وبالتالي إنها مدعوة للبحث عن خيارات أخرى تكون أكثر واقعية ونجاعة.
فيما يخص أوروبا، فإن الأمر بات محسومًا منذ فترة، فالاتّحاد أعلن في وقت سابق عن شروطه لتقديم الدعم المالي لإنقاذ البلاد من شبح الإفلاس والانهيار، ومن بينها عودة الديمقراطية والمؤسسات الدستورية إلى الانعقاد.
الموقف الأمريكي بدوره لا يختلف كثيرًا، حيث صرّح وزير الخارجية أنطوني بلينكن في وقت سابق أن بلاده مستعدّة لمساندة تونس على أن تلتزم بتنفيذ بعض الإصلاحات السياسية، ما يعني أن سعيّد في مأزق حقيقي وهو مطالَب بتنازلات لإقناع الدول الكبرى المساهمة في صندوق النقد الدولي.
قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للرئيس التونسي قيس سعيد إن بلاده ستواصل دعمها لتونس عندما تُضبط مواعيد الإصلاحات التي يتحدث عنها الرئيس التونسي.
تفاصيل:https://t.co/6GvOlSoreV pic.twitter.com/mv2d2iJee7— الجزيرة نت (@ajanet_ar) November 22, 2021
النقد الدولي: في ظل عدم توفر بدائل، فإن تونس بحاجة ملحّة لمساعدة الصندوق الذي لا تعني بدء المحادثات التقنية معه بالضرورة حصولها على قروض في قادم الأيام، فالمفاوضات التي ستخوضها تونس مع هذه المؤسسة المانحة لا تزال تفاصيلها غامضة كغموض المشهد السياسي وضبابية برنامج قيس سعيّد الإصلاحي.
هناك نقطة أخرى مهمة جدًّا، وهي أن تونس ستفاوض الصندوق للحصول على 4 مليارات دولار ستُصرَف على 4 سنوات أي بمعدل مليار دولار سنويًّا، في حين أن تونس سجّلت عجزًا تجاريًّا في حدود 8.5 مليار دولار خلال الـ 10 أشهر الأولى من السنة الحالية، ولم تتّخذ أي إجراءات لترشيد التوريد، ما يعني استمرار الأزمة.
من جهة أخرى، إن الذهاب إلى الصندوق النقد الدولي يعني الرضوخ لشروطه، ما يعني أن قيس سعيّد الباحث عن موارد مالية عاجلة لإنقاذ ماء وجهه، لم يعد له من خيار سوى الاستجابة لتنفيذ إصلاحات هيكلية، منها الضغط على الميزانية من خلال التقليص في كتلة الأجور ومنح التقاعد والاعتمادات المسندة للمرافق العمومية مثل الصحة والتعليم والنقل وخصخصة الشركات العمومية.
رضوخ قيس سعيّد لهذه الوصفة القاسية قد تدفع البلاد إلى ثورة اجتماعية لاحَت بوادرها مع حراك الشارع الأخير الرافض لانقلابه والمطالب بالتشغيل والتنمية، كما سيجد معارضة كبيرة من الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية في البلاد) التي أعلنت رفضها لشروط صندوق النقد، خاصة فيما يخصّ رفع الدعم وخصخصة المؤسسات العمومية.
التقشُّف وطباعة العملة: في محاولة يائسة لتعبئة خزائن الدولة الخاوية، طالبَ الرئيس التونسي بضرورة اعتماد سياسة التقشُّف وهو ما يخالف وعوده الإصلاحية، كما دعا في وقت سابق المواطنين في الداخل والخارج إلى مساعدة مجهودات الدولة في تحصيل الحاجيات المالية من أجل تجاوز الأزمة التي باتت خطرًا داهمًا قد يفتح باب الاضطرابات الاجتماعية.
رمضان بن عمر : حديث الرئيس عن التقشف ينسف محاولات تصوير المشهد السياسي الجديد بأنه في قطيعة مع مسارات ما قبل 25 جويلية، بما أنه لا يقترح حلولًا بديلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
— تونس 360 (@Tunisia360view) November 22, 2021
قال سعيّد أثناء ترؤّسه اجتماع مجلس الوزراء: “سنعمل على تشريك المواطنين للخروج من هذه الأزمة (..) أتوجه بدعوة كل المواطنين للمساهمة في إيجاد التوازنات المالية المطلوبة”، لكنه كعادته لم يشر إلى طبيعة هذه المساهمة أو وسائل تنفيذها، مكتفيًا بالقول: “هذه الأموال التي يمكن أن نخفّف بها وطأة الأزمة المالية ستكون تحت الرقابة المباشرة لرئاسة الدولة والحكومة”.
الطريقة الثانية التي من الممكن أن تعتمدها الحكومة في وقت لاحق لمجابهة الأزمة هي طباعة الأوراق النقدية، ورغم توصيات البنك المركزي التونسي بضرورة “تجنُّب التمويل التقليدي (طباعة العملة) بسبب تأثيره السلبي على مستوى التضخم”.
عادل سمعلي خبير بنكي : طبع النقود يمثل كارثة على الإقتصاد التونسي منها إنهيار الدينار الذي يعني بالضرورة تخفيض الرواتب
— جلول هذيلي (@JalloulHdhili) November 18, 2021
هذا الخيار المطروح حذّر منه بشدة خبراء تونسيون، حيث أكّد أحد أعضاء مجلس إدارة البنك المركزي التونسي سابقًا، معز العبيدي، أن طباعة العملة تعدّ خيارًا جبانًا بالمعنى السياسي للكلمة، وأن سياسة الهروب إلى الأمام ستعمِّق التضخم وتدفع الترقيم السيادي لتونس نحو مزيد من التراجع.
يبدو أن مجهود قيس سعيّد لإصلاح الأزمة المالية والاقتصادية التي تهدِّد البلاد وقف عند الوعود والدعوات، وبات المثل الشعبي التونسي “المنجل وحِل في القلة” خير تعبير عن المأزق الذي تعيشه مؤسستا الرئاسة والحكومة وعجزهما عن تقديم الحلول، فإن أرادتا تخليص المنجل كُسرت القلة، وإن تركاها لن تجدا ما تحصدان به.