ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد عرضه مجموعة من الأدلة أمام البرلمان البريطاني يوم الإثنين، يواجه محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي العديد من التساؤلات من أعضاء البرلمان القلقين من إمكانية غرق الأمة مرة أخرى في أزمة ارتفاع التضخم. وقد علّق بيلي على ذلك ساخرًا: “نحن بعيدون جدا عن السبعينات” في إشارة إلى أن نسبة التضخم الحالية بعيدة عن 24.2 بالمئة التي سُجلت في سنة 1975.
كان محافظ البنك المركزي محظوظا لعدم تطرق أي من أعضاء البرلمان للدروس المستخلصة من أزمة أواخر الستينات عندما بدأت الدولة لأول مرة تفقد السيطرة على الأسعار في فترة ما بعد الحرب، وهي حقبة يزعم بعض خبراء الاقتصاد أنها تكرر نفسها الآن.
بعد يومين، زاد التشابه بين ما حدث في تلك الحقبة وما يحدث اليوم عندما فاجأت أرقام التضخم الجديدة بنك إنجلترا مرة أخرى، حيث ارتفعت الأسعار في المملكة المتحدة بنسبة 4.2 بالمئة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر مقارنة بالسنة السابقة، وسُجل أسرع معدل للتضخم على امتداد عقد مثّل أكثر من ضعف هدف البنك وتقريبا ضعف ما توقعه منذ ستة أشهر.
ولكن بريطانيا ليست الدولة الوحيدة التي تعاني من التضخم. ففي ظل ارتفاع معدل التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عدة عقود في الولايات المتحدة وألمانيا والاقتصادات المتقدمة الأخرى، احتل هذا الموضوع صدارة الأجندة الاقتصادية بسرعة كبيرة، لدرجة أن ما كان في بداية سنة 2021 يمثل مصدر قلق هامشي أصبح الآن جوهر السياسة. وحسب راندي كروزنر، نائب عميد كلية شيكاغو بوث للأعمال والمحافظ السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي، فإنه “للمرة الأولى منذ 30 سنة، أصبح التضخم القضية السياسية الأبرز”.
يواجه محافظو البنوك المركزية انتقادات بشأن فقدانهم السيطرة على الوضع، وألقي اللوم أيضًا على السياسيين بشأن أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة التي كانت الأسر أولى ضحايا، حيث يكافح الناس لمجاراة ارتفاع أسعار الغذاء والوقود والطاقة والإسكان والأسعار العامة في بيئة اقتصادية يطغى عليها عدم اليقين.
تقول جانيت هنري، كبيرة الخبراء الاقتصاديين الدوليين في بنك “إتش إس بي سي”، إن دولا قليلة في العالم لم تعد قلقة بشأن التضخم. ويعتبر التضخم العالمي ناتجًا عن الانتعاش القوي وغير المتوقع للطلب العالمي وسط محدودية العرض”.
هذه التكهنات مقبولة عالميا تقريبًا، ولكن جانيت تقر بأن تشخيص زيادة الطلب في سنة 2021 لا يكشف ما إذا كانت الضغوط التضخمية نفسها ستستمر أو ستتلاشى، مثلما حدث في سنة 2011 في أعقاب الارتفاع العالمي في أسعار المواد الغذائية.
تتباين الآراء بشأن هذه المسألة ومحافظو البنوك المركزية والسياسيون والخبراء الاقتصاديون ملزمون بالانحياز إلى جانب معين. ومع أن المواقف ليست متناقضة عندما يتعلق الأمر بالتضخم، إلا أن “الفريق الذي يرى ارتفاع الأسعار مجرد مرحلة وقتية” يخوض معركة شرسة على نحو متزايد مع “الفريق الذي يرى ارتفاع الأسعار دائمًا”. وحسب ما أفاد به لورنس سمرز، مدير المجلس الاقتصادي الوطني في عهد الرئيس باراك أوباما، هذا الأسبوع فإن “الوقت قد حان ليتنحى جانبًا “الفريق الذي يرى ارتفاع الأسعار مجرد مرحلة عابرة”.
هل هي مرحلة عابرة؟
لا شك أنّ الرهانات عالية. فإذا كان خوف المشرعين من أن يصبح التضخم المرتفع دائمًا مرة أخرى في حياة الناس غير مبرر، فإن لجوءهم إلى الحد من الإنفاق العام سيؤدي إلى إضعاف الاقتصادات التي لا تزال تتعافى من أزمة كوفيد-19، وهو ما سيتسبب في تراجع دخل الأفراد وتدمير الوظائف. أما إذا فشلوا في إدراك التهديد الحقيقي لاستمرار التضخم، سوف يضطرون حينها إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة تمامًا كما حدث في نهاية الستينات وسيكون لذلك عواقب وخيمة مماثلة أيضًا.
خلال هذه السنة، ارتفعت توقعات متوسط التضخم في الاقتصادات المتقدمة لسنة 2021 و2022 على خلفية تفاجئ الاقتصاديين بالزيادات في الأسعار. ففي الولايات المتحدة، بدأ متوسط توقعات التضخم لسنة 2021 التي جمعتها “كونسنسوس إيكونوميكس” في الارتفاع بشكل حاد من 2 بالمئة في شهر كانون الثاني/ يناير إلى 4.5 بالمئة في الوقت الحالي. وبالنسبة لسنة 2022، ارتفعت التوقعات من حوالي 2 بالمئة إلى 3.7 بالمئة. وشهدت بقية دول مجموعة السبع باستثناء اليابان، توقعات مماثلة لمستوى التضخم.
يرى الفريق الذي يرى ارتفاع الأسعار مجرد مرحلة عابرة أن معدل التضخم سيتراجع قريبا لأنه ناجم عن اضطرابات العرض أو عوامل خاصة ستتلاشى قريبا، مما يجعل هذه الواقعة مجرد ضغط شديد ولكنه مؤقت على دخل الأسرة.
سلطت دراسة أجراها بنك التسويات الدولية هذا الأسبوع الضوء على حقيقة أن “اضطرابات الإمداد الناجمة عن الوباء كانت سببًا رئيسيا للاختناقات”، مما خلق نقصًا في المكونات الرئيسية في تصنيع العديد من السلع، إلى جانب قلة اليد العاملة نتيجة اضطرار الناس إلى الانعزال في منازلهم بسبب تفشي الفيروس. ويعتقد مؤلفا الدراسة، دانيال ريس وفيوريشاي رونغشارونكيتكول أن “تأثير التقلبات” دفع الشركات المصنعة إلى تخزين بعض هذه المكونات بمجرد أن تحصل عليها، مما أدى إلى تفاقم المشكلة بالنسبة للشركات الأخرى.
وعلى حد تعبير المؤلفين، بمجرد حلّ هذه الاختناقات فإن الأسعار لن تستمر في الارتفاع بل ربما ستتراجع مما يحد من معدل التضخم. وهذا الأمر يتطلب أن تكون السلطات أكثر يقظة وشجاعة للتأكد من أن الأسر والشركات لا تتوقع استمرار التضخم وتطالب بناءً على ذلك بإعادة مراجعة مطالب الأجور وقرارات التسعير.
مع ذلك، يعتقد الفريق الذي يرى أن ارتفاع الأسعار مجرد مرحلة عابرة أن الدليل على توقعات ارتفاع التضخم ضعيف وأن تسجيل ارتفاع ضئيل سيكون مفيدًا على أي حال، بالنظر إلى أن توقعات التضخم كانت منخفضة للغاية قبل انتشار الوباء.
في هذا السياق، أوضحت جيتا جوبيناث، كبيرة الخبراء الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، أن البنوك المركزية كانت محقة في توخي الحذر بشأن التعامل مع مستوى التضخم المرتفع لأننا “كنا نريد حل مشكلة كنا نواجهها خلال العقد الماضي، ألا وهي انخفاض معدل التضخم بشكل كبير”.
يؤكد محافظو البنوك المركزية الأوروبية أن أسعار الطاقة من المرجح أن ترتفع بشكل مؤقت نتيجة نقص مخزونات الغاز الطبيعي، وانخفاض سرعة الرياح هذا الخريف، ناهيك عن بعض الأحداث الجيوسياسية التي شهدتها الساحة العالمية مثل التوتر بين روسيا وأوكرانيا الذي يشكل تهديدًا لإمدادات الغاز هذا الشتاء. كل هذه الأمور خارجة عن نطاق السيطرة إلى حد كبير. وستُترجم كل هذه التطورات إلى ضريبة على الدخل سيدفعها ثمنها المواطن بشكل كامل، الأمر الذي سيؤثر بدوره على قاعدة الطلب.
دفعت هذه الضغوط غير المتكررة كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إلى المجادلة ضد رفع أسعار الفائدة للتعامل مع التضخم. وقد صرحت يوم الجمعة: “ينبغي ألا نندفع إلى تشديد سابق لأوانه عندما نواجه أزمات تضخم عابرة أو مدفوعة بالعرض”.
تقول ليديا بوسور، كبيرة الاقتصاديين الأمريكيين في أكسفورد إيكونوميكس، إنه حتى في الولايات المتحدة سيؤثر التحسن القادم في المعروض من السلع والعمالة على التضخم خلال السنة المقبلة. وأضافت: “ما زلنا نعتقد أن “النسبة الثلاثية لقوة التسعير والإنتاجية والمشاركة في القوى العاملة ستحد من مخاطر تنامي تضخم الأسعار والأجور”.
قلق دائم
لا يرفض معظم الاقتصاديين في “الفريق الذي يرى أن ارتفاع الأسعار دائم” هذه الحجج ويقبلون الطبيعة المؤقتة لبعض ارتفاعات الأسعار، لكنهم يحذرون من أن العوامل المؤقتة التي تدفع الأسعار إلى الارتفاع ليست القوة الوحيدة.
أشار توماس فيليبون، أستاذ المالية في كلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، إلى أنه “من الطبيعي أن ينظر الناس أولاً إلى تغيرات الأسعار الفردية، لكن عندما يتعلق الأمر بالتضخم على نطاق أوسع، لا سيما في الولايات المتحدة، فالأمر ليس كذلك، لأنه لا يعكس الطلب الزائد الموجود في الواقع”.
وأضاف فيليبون أنه “عندما نسمع أسئلة من قبيل ‘لماذا ينبغي أن يتحرك الاحتياطي الفيدرالي؟’ وكيف سيساعد ذلك في تحسين سلاسل التوريد؟’ تدرك فجأة أن الناس كانوا مخطئين في السبعينيات”، وذلك في إشارة إلى الأخطاء التي وقعت فيها السلطات في معظم البلدان عندما اعتبرت أزمات أسعار النفط عابرةً، مما تسبب في ارتفاع الأسعار إلى المستوى الذي توقعه الجميع.
بالنسبة إلى الفريق الذي يرى ارتفاع الأسعار دائما، تنبع المخاوف المتزايدة بشأن استمرار التضخم من الانتعاش الحاد في الإنفاق، الذي غالبًا ما يتأثر بالتحفيزات المالية الضخمة المقدمة في وقت تفشي الجائحة. لكن لم يتم التصدي لهذه الظاهرة من خلال توفر العرض الكافي للسلع أو العمالة، أو كبح بعض السياسات النقدية التي فشلت في تخفيف الطلب.
بغض النظر عن الاختناقات التي تعاني منها سلاسل الإمدادات، فإن الطلب العالمي على جميع السلع والمكونات التي تشهد نقصًا قياسيًا، مع توريد أشباه الموصلات (وهو منتج يعاني من نقص حاد) كان أعلى بكثير من مقارنة بسنة 2019.
يحذر جيسون فورمان، أستاذ الاقتصاد في كلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد والمستشار السابق لأوباما، من أن حجج سلسلة التوريد “مبالغ فيها إلى حد كبير. شهدت سلاسل التوريد بعض التدهور، وطال النقص سوق الرقائق الدقيقة. لكن معظم ما يتحدث عنه الناس في علاقة بـ “سلاسل التوريد” هو في الواقع زيادة هائلة في الطلب لم تؤد إلى زيادة ضخمة في العرض، ليترتب عن ذلك ارتفاع في الأسعار. هذا ما يحدث مع أسعار الشحن والخدمات اللوجستية العالمية التي تشهد تزايدًا بقدر لا يرغب الناس في حدوثه”.
مع وجود مؤشرات على أن بعض العمال الأكبر سنًا قد تركوا سوق العمل للأبد فيما أصبح يُعرف باسم “موجة الاستقالة الكبرى”، فإن هذه المستويات المرتفعة من الإنفاق من شأنها أن تزيد حجم الضغوط المسلطة في العديد من البلدان، ومن المرجح أن تدفعها إلى اتخاذ إجراءات مؤقتة.
ينتقد “الفريق الذي يرى أن ارتفاع الأسعار دائم” محافظي البنوك المركزية، متهمًا إياهم بارتكاب خطأ كبير في الحفاظ على سياسة نقدية تخدم حالات الطوارئ في وقت كانت فيه مستويات الإنفاق أعلى بكثير مما كان متوقعًا.
يوضح روبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي: “عاد الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي في الولايات المتحدة إلى مستوى ما قبل كوفيد، وهو أمر لم يحدث أبدًا بعد الأزمة المالية العالمية”، ويفسّر التعافي بالاستجابة السياسية السريعة التي وقع اتخاذها على الصعيدين المالي والنقدي. لكن بروكس يؤكد أن المشهد على مستوى العالم غير متسق في ظل امتلاك الولايات المتحدة أقوى قاعدة طلب خاص، في حين أن دولا مثل اليابان لم تتأثر أبدا بالتطورات التي تشهدها الساحة العالمية.
وحتى لو لم تكن هذه الصورة واضحة لبقية البلدان، فإن الاقتصاديين الذين يخشون من استخفاف البنوك المركزية بمستوى الضغوط التي يفرضها التضخم المالي واستمراره، يطالبون الآن بفرض سياسة أكثر صرامة تقتضي تقليص برامج شراء الأصول ورفع أسعار الفائدة في وقت مبكر وتثبيط الإنفاق تدريجيا.
يرى الاقتصاديون أن البنك المركزي يتبع نهجًا حذرًا لأن سنوات من العمل على تعزيز مصداقية جهوده في التحكم في الأسعار يمكن أن يخسرها بسرعة. ويؤكد ريكاردو ريس، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، أن “الاختبار الرئيسي الذي تواجهه البنوك المركزية في الوقت الحالي هو “مدى مصداقية وقوة التزامها بخفض مستوى التضخم إلى الهدف المنشود”.
ويضيف ريس أن “هذه التوقعات تشوبها حالة من عدم اليقين، لكن هذا لا يعفي محافظي البنوك المركزية من ضرورة اتخاذ بعض القرارات الصارمة. لا يمكن حاليا الاعتماد على الحظ والمهارة لاختبار مدى صحة تحاليلهم والتزامهم باستقرار الأسعار. فالعالم يمر بفترة عصيبة والحظ السعيد ليس مضمونًا”.
وينبّه ريس إلى أنه “إذا كان الحظ عاثرًا… ستستمر البنوك المركزية هذه السنة في إعطاء الأولوية للتوظيف والاستقرار المالي على حساب مكافحة التضخم. وعلى هذا النحو، سيفقد الناس بالتأكيد الثقة في جديّة الإجراءات المتبعة لخفض مستوى التضخم، وستبدأ مساومات على الأجور ستشمل إجراء تعديلات في تكلفة المعيشة، وهو ما سيتسبب في ارتفاع نسبة التضخم من جديد”. هذا الأمر من شأنه أن يقوض الثقة في قيمة المال، وهو أمر لم يكن على مئات الملايين من الناس الذين يعيشون في البلدان المتقدمة القلق بشأنه طوال الثلاثين سنة الماضية.
المصدر: فايننشال تايمز