حالة من الترقب تخيم على الأجواء القاهرية مع اقتراب موعد الانتخابات الليبية المقرر لها في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، في ظل ما تحمله نتائجها من تأثير ملموس وتداعيات مباشرة على الأمن القومي والجيوإستراتيجي المصري.
تحركات دبلوماسية مصرية مكثفة خلال الآونة الأخيرة للحيلولة دون إجراء الانتخابات الرئاسية قبيل تهيئة الأجواء المناسبة، خشية ما قد يترتب على ذلك من تهديدات لمصالح القاهرة وأمنها القومي، وهو ما تعكسه اللقاءات التي عقدها مسؤولون مصريون مع نظرائهم الليبيين، آخرها اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، وذلك على هامش قمة “الكوميسا” المنعقدة حاليًا في العاصمة الإدارية الجديدة بالقاهرة.
وتشهد الساحة الانتخابية الليبية سيولة غير مسبوقة، إذ تجاوز عدد المرشحين لخوض هذا المارثون 90 مرشحًا من أطياف سياسية متباينة، وسط حالة استقطاب حاد بين الفرقاء في البلاد، في ظل شكوك بشأن إمكانية إجراء الانتخابات في تلك الأجواء الضبابية على المستوى الأمني تحديدًا.
وكانت القاهرة خلال مؤتمر باريس الذي عقد مؤخرًا لبحث الأزمة الليبية قد طرحت خطة للخروج من المأزق الراهن ليبيًا، تقضي بإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من البلاد قبيل انطلاق الانتخابات الرئاسية، وهو ما فشلت في تحقيقه حتى الآن، ليبقى المسار السياسي حال التأجيل هو الحل الأمثل وفق الرؤية المصرية.. ليبقى السؤال: ما تخوفات مصر من إجراء الانتخابات الرئاسية الليبية في موعدها في ظل الظروف الراهنة؟
التأجيل.. السيناريو الأمثل
إجراء الانتخابات في هذا التوقيت تراه القاهرة في الاتجاه المعاكس لمصالحها، الأمر الذي ربما يزيد من تخوفاتها ويدفعها نحو الترويج لرؤيتها الخاصة بالتأجيل، باعتبار أن هذا هو السيناريو الأمثل لحين ترتيب الأوراق مرة أخرى بعد المستجدات التي شهدتها الساحة الليبية خلال الآونة الأخيرة.
وتنحصر مخاوف القاهرة من إجراء الانتخابات في موعدها المحدد سلفًا في ثلاثة أبعاد، الأول: عدم الثقة في وجود مرشح قوي قادر على الفوز في الانتخابات، بما يمكن الاعتماد عليه مستقبلًا في بناء تحالف وثيق يراعي مصالح الدولة المصرية ويؤمن حدودها بالشكل الكافي.
وزادت قائمة الأسماء المرشحة لخوض الانتخابات من تأزم الموقف المصري ورهانه على مرشح بعينه، خاصة بعد إعلان كل من المشير خليفة حفتر، ومعه سيف الإسلام القذافي وعقيلة صالح، وأخيرًا رئيس الوزراء الحاليّ عبد الحميد الدبيبة، مشاركتهم في هذا المارثون، إذ إن كل واحد منهم كان مرشحًا – في وقت ما – لأن يكون فرس الرهان المصري.
فشل الجانب المصري في فرض وتمرير رؤيته بشأن ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا ربما يزيد من تخوفات إجراء الانتخابات في موعدها خاصة في ظل ما تملكه تلك الجماعات من تأثير قوي في المشهد
البداية كانت مع حفتر الذي كان يعد المرشح المثالي لمصر ومعها الإمارات لاستعادة الاستقرار وحماية مصالحها الإستراتيجية وتجنب التدخل المباشر والمكلف في البلد الإفريقي، غير أن فشل معركة طرابلس خلال العامين الماضيين دفع البلدين لإعادة النظر في خططهما، ومع ذلك ظل الجنرال في قائمة الرهانات وإن تراجع ترتيبه.
ومن حفتر إلى رئيس البرلمان عقيلة صالح، الذي خرجت بعض التسريبات إلى أنه أحد الأوراق المدعومة من الجانب المصري، كونه يتمتع بشعبية نسبية وتاريخ غير ملطخ بالدماء، هذا بجانب عدم وجود تحفظات محورية بشأنه من القوى السياسية والجماعات المسلحة الليبية.
ثم فرض رئيس الوزراء الحاليّ، الدبيبة، نفسه كأحد الرهانات المحتملة، وذلك قبل أن يهبط نجل القذافي بالباراشوت على المشهد ليعيد ترتيبه من جديد وفق أبجديات مغايرة، مستندًا إلى إرث سياسي وقبلي كبير، ربما يمهد الطريق له نحو استعادة تجربة والده في ظل رغبة الحنين للماضي التي تسيطر على كثير من الليبيين نكاية في الوضع الحاليّ المتردي على المسارات كافة.
خوض كل الأوراق التي كانت تراهن عليها القاهرة في ماراثون واحد لا شك أنه يعكس حالة من عدم التنسيق والانسجام، وهو ما يقلل فرص فوز أي منهم في ظل تعدد المرشحين المنتمين لجذور سياسية وقبلية قد تلعب دورًا في تحديد هوية الرئيس القادم، بما قد يأتي على عكس الهوى المصري.
المرتزقة والفوضى الأمنية.. صداع مزمن في الرأس
فشل الجانب المصري في فرض وتمرير رؤيته بشأن ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا ربما يزيد من تخوفات إجراء الانتخابات في موعدها خاصة في ظل ما تملكه تلك الجماعات من تأثير قوي في المشهد وهو ما اتضح خلال السنوات الماضية.
ويحتل هذا الملف أهمية كبيرة لدى القاهرة التي ترى في بقاء واستمرار تلك القوات خطرًا يهدد أمنها القومي، حتى إن لم يكن هناك تهديد مباشر، فمجرد وجودهم داخل الأراضي الليبية صداع في رأس السلطات المصرية خاصة في ظل حالة الفوضى التي تشهدها البلاد التي ربما تسمح لهؤلاء المرتزقة بدور مستقبلي قد يحمل مخاطر ذات كلفة باهظة.
وجود بعض الأسماء المختلف عليها من بعض التيارات السياسية والقبلية ربما يكون عاملًا مؤثرًا لعرقلة الانتخابات، لحين البت في هذا الأمر، وهو ما اتضح من خلال الرفض الشعبي لترشيح نجل القذافي
وبالتوازي مع ذلك فإن بقاء اللاعبين الإقليميين والدوليين داخل الملعب الليبي حتى إجراء العملية الانتخابية يمثّل تحديًا كبيرًا وتهديدًا محتملًا لمصر، خاصة في ظل تضارب وتباين الأجندات لدى معظم تلك القوى مع الأجندة المصرية، وهو ما يفسر مساعي القاهرة الحثيثة لتفريغ الساحة السياسية الليبية من كل اللاعبين قبل الانتخابات.
الوضع الأمني الهش في ظل حالة الاستقطاب الحاد بين الفرقاء في البلاد، يمثل مصدر قلق للقاهرة، سواء في أثناء عقد الانتخابات أم بعدها، فاستمرار هذا الوضع سيجعل البلاد عرضة للفوضى والتدهور من جديد بعد الماراثون الانتخابي أيًا كان الفائز، وهو ما يمكن أن يمثل خطرًا على الأمن القومي المصري.
وأمام تلك الصورة الضبابية، فقدان الثقة في مرشح واحد قادر على الفوز، وتشابك الأجندة المصرية مع لاعبين إقليميين ودوليين آخرين مؤثرين، بجانب الفوضى الأمنية المحتملة في ظل تلك الوضعية، تتصاعد المخاوف المصرية من إجراء الانتخابات في موعدها، ومن هنا تأتي التحركات الدبلوماسية المصرية المكثفة خلال الأيام الماضية.
تحديات وسيناريوهات ثلاث
حتى كتابة هذه السطور تبقى عملية إجراء الانتخابات في موعدها محل شك في ظل العديد من العقبات التي تعترض طريقها، أبرزها عرقلة العديد من القوى لإتمامها في الموعد المقرر لما يتعارض ذلك مع مصالحها، هذا بخلاف الجدل القانوني والدستوري بشأن قانون الانتخابات الذي أصدره مجلس النواب الليبي (البرلمان) الذي قوبل باعتراضات عدة من بعض القوى والكيانات.
انتشار الجماعات المسلحة ربما يكون عائقًا أمام إتمام الانتخابات في موعدها، خاصة أن تلك الجماعات تملك السلاح الذي يمكنها من تعويق إجراء الانتخابات أو التلاعب في نتائجها حال يقينها بالهزيمة أو هزيمة مرشحيها، وهو الأمر الذي ربما ينسف الانتخابات من جذورها ويعيد البلاد إلى المربع صفر مرة أخرى.
وجود بعض الأسماء المختلف عليها من بعض التيارات السياسية والقبلية ربما يكون عاملًا مؤثرًا لعرقلة الانتخابات، لحين البت في هذا الأمر، وهو ما اتضح من خلال الرفض الشعبي لترشيح نجل القذافي، مع التحفظات الكبيرة التي أبداها البعض على ترشح الجنرال حفتر، المتورط في إراقة دماء المئات من أبناء الشعب الليبي.
ومن ثم فالمشهد أمام ثلاث سيناريوهات محتملة للانتخابات، تتراوح بين التفاؤل والتشاؤم، الأول يتعلق بإجرائها على جولتين، الأولى في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، والثانية مع الانتخابات البرلمانية بعد 52 يومًا من الجولة الأولى، في ظل تعدد الأسماء المرشحة ما يصعب حسمها من الجولة الأولى.
أما السيناريو الثاني فعلى النقيض من الأول، حيث تأجيلها أو إرجائها لوقت آخر، حال تصعيد الاحتجاج على بعض المرشحين وعدم البت في مشاركة الأسماء التي عليها تحفظات، وهو السيناريو الذي يخشى معه الولوج في آتون العنف مرة أخرى حال تم استخدام السلاح كأداة لفرض الأمر الواقع.
فيما يأتي السيناريو الثالث وسط بين السيناريوهين الأولين، حيث تجرى الانتخابات في موعدها، غير أن النتائج تكون محل جدل وشك من بعض القوى التي ربما تتدخل لتغيير النتيجة أو رفضها، وهو ما يفسد المشهد برمته، وهنا قد يكون للمجتمع الدولي دور محوري لفرض نتائج الانتخابات أو النظر في إعادتها إن كانت الضغوط أقوى من القدرة على المواجهة.
وفي النهاية.. فإن الأيام المتبقية على موعد الانتخابات من المتوقع أن تشهد حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا من قبل القاهرة للتوصل إلى توافقات إقليمية بشأن مرشح بعينه، مع وضع بدائل أخرى، هذا إن لم يتم التأجيل، وإن كان هو السيناريو الأقرب وفق عدد من الشواهد مالم تتغير الوضعية الحالية، وسط ترجيحات بأن تتسع الساحة الليبية لمزيد من اللاعبين الإقليميين والدوليين، وهو ما يضع الجانب المصري في مأزق حقيقي.