ترجمة وتحرير: نون بوست
سافر المهاجرون طوال الليل عبر نهر ديسنا، على الحدود مع بلدهم الأصلي بيلاروسيا، وظنوا أنهم يستطيعون العبور عبر المياه المتجمدة، لكن النقطة التي اختاروها للعبور كانت عميقة للغاية لدرجة أنهم اضطروا للسباحة.
على الجانب الآخر، عند الفجر، وجدوا منزلا مضاء وطلبوا من أصحابه الاتصال بالشرطة. كانوا فارين من نظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الاستبدادي، وطلبوا اللجوء في ليتوانيا المجاورة، العضو في الاتحاد الأوروبي. نُقلوا إلى مخيم مؤقت في مركز لحرس الحدود، وانضموا إلى حوالي عشرة عراقيين، وبعض الشيشانين، وشخص آخر من جنوب شرق آسيا. وفقا للبيلاروسي ألكسندر دوبريانيك، أخبرهم أحد المهاجرين “نحن هنا منذ أسابيع وشهور. ونحن نعلم أنك ستغادر هذا المكان في غضون يومين فقط”.
هناك نوعان مختلفان من الهجرة، وشكلان من أشكال اليأس البشري، يتجاوران في وديان وغابات شمال شرق أوروبا. هناك المهاجرون العراقيون وغيرهم ممن يوجههم لوكاشينكو من بيلاروسيا إلى حدود ليتوانيا وبولندا، وهي أزمة هجرة يدبرها حاكم مستبد بهدف استفزاز الغرب. وعلى الجانب الآخر، مواطنون من بيلاروسيا فارّون من قمع نظام لوكاشينكو.
عند العبور من الشرق إلى الغرب، تتشارك المجموعتان لفترة وجيزة نفس المصير، حيث تجتمعان معا في المخيمات الحدودية ومراكز المهاجرين. ولكن سرعان ما يفترقان مرة أخرى، حيث يضمن معظم البيلاروسيين الإقامة في ليتوانيا ويُسمح لهم بالتحرك بحرية، بينما يقضي المهاجرون الآخرون شهورا رهن الاحتجاز في مخيمات ضيقة، في انتظار الرفض شبه المؤكد لطلبات اللجوء التي قدموها.
في الواقع، تؤكد المعاملة المختلفة التي يتلقاها المهاجرون، دعم الغرب للمعارضة البيلاروسية، مقابل الخيارات القاسية للدول الأوروبية في مواجهة الهجرة من القارات الأخرى. تعتبر ليتوانيا، وهي دولة صغيرة متجانسة عرقيا، أبرز وجهة لطالبي اللجوء، وتقدم نفسها باعتبارها معقلا للهجرة في الغرب، حيث تؤوي المعارضين البيلاروسيين، لكنها في الوقت ذاته ترفض دخول المهاجرين من جنسيات أخرى.
تقول إيفلينا جودزينسكايت، رئيسة دائرة الهجرة في ليتوانيا، في حديثها عن البيلاروسيين، إنهم “يندمجون في المجتمع ويتقبلهم الجميع. نحن نكره الأجانب تماما”، وتضيف مازحة: “لكننا أيضا عقلانيون للغاية، على ما أعتقد”.
أصدرت ليتوانيا أكثر من 6700 تأشيرة “إنسانية” لفائدة بيلاروسيا منذ أن أسفرت الاحتجاجات ضد إعادة انتخاب لوكاشينكو سنة 2020 عن حملة اعتقالات واسعة. وافقت ليتوانيا على 71 طلب لجوء من بيلاروسيا هذه السنة، وأشادت وزارة الخارجية الأمريكية بجهود ليتوانيا الأسبوع الماضي “لتقديمها ملاذا آمنا للعديد من دعاة الديمقراطية البيلاروسيين”، بما في ذلك زعيمة المعارضة، سفيتلانا تيخانوفسكايا.
في المقابل، تقول جودزينسكايت إنه من بين 2639 طلب لجوء تقدم به مهاجرون من خارج بيلاروسيا منذ بداية موجة الهجرة الحالية، وافقت السلطات على 10 طلبات فقط. جاء معظم الوافدين قبل شهر آب/ أغسطس، عندما بدأت ليتوانيا في منع المهاجرين من دخول البلاد عبر نقاط عبور غير رسمية، وهي سياسة انتقدتها منظمات حقوق الإنسان على نطاق واسع.
وفقا لحرس الحدود الليتواني، تم منع سبعة آلاف محاولة لدخول البلاد منذ شهر آب/ أغسطس. لكن البيلاروسيين لا يُمنعون من العبور، حسب ما يؤكده آمر حرس الحدود الليتواني، روستاماس ليوبايفاس، فعندما يتم القبض عليهم عند محاولة العبور بصورة غير قانونية، يُسمح لهم بالبقاء وطلب اللجوء. ويضيف ليوبايفاس أن “هذا الوضع يختلف تماما عن غيرهم من المهاجرين”.
يجادل المدافعون عن المهاجرين بأن التمييز بين المهاجرين لأسباب اقتصادية وغيرهم من اللاجئين غالبا ما يكون خاطئا، وأن العديد من الأشخاص الذين يسافرون عبر بيلاروسيا يفرون من الدول التي تشهد صراعات، وينبغي أن يحصلوا على الحماية الدولية. وتؤكد جمعية كاريتاس الخيرية التي تدعم المهاجرين المحتجزين، إن الكثير من المهاجرين ليسوا فارين من مناطق الصراعات.
ويقول ديمانتي بوكيكيت، الأمين العام لجمعية كاريتاس في ليتوانيا إن “المشكلة الكبرى في أزمة المهاجرين هي وجود الكثير من المهاجرين الاقتصاديين، والذين يتم استغلالهم لأغراض سياسية”.
يستفيد البيلاروسيون من الخدمات التي تقدمها المنظمات التي تعمل مع السلطات. في المقابل، لم يكن في ليتوانيا مع بداية العام الحالي أكثر من 69 عراقيا.
خلال الصيف الماضي، قامت حكومة ألكسندر لوكاشينكو بزيادة عدد رحلات الطيران من الشرق الأوسط وخففت الشروط المفروضة على منح التأشيرات بهدف جذب المهاجرين الذين يسعون للعبور لاحقا إلى دول الاتحاد الأوروبي المجاورة مثل ليتوانيا وبولندا ولاتفيا. ومعظم هؤلاء، يتطلعون إلى الوصول في آخر المطاف إلى دول غرب القارة، مثل ألمانيا.
كانت ليتوانيا، التي تبعد ساعتين بالسيارة من العاصمة البيلاروسية مينسك، الوجهة الرئيسية للمهاجرين. وفي الأسابيع الأخيرة، أكد مسؤولون غربيون أن بيلاروسيا وجهت معظم المهاجرين نحو بولندا. تصدرت الاشتباكات بين المهاجرين والشرطة البولندية على الحدود مع بيلاروسيا عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم خلال الفترة الماضية.
وسط موجة الهجرة الجديدة، التقى البيلاروسيون والمهاجرين الآخرون في مخيمات الاحتجاز في جميع أنحاء ليتوانيا. في أحد المخيمات، أكد حلاق سوري لمهاجر بيلاروسي يسكن بجواره أن أسرته أنفقت المدخرات التي جمعتها طوال حياتها للوصول إلى أوروبا، لذلك لايمكنهم في الوقت الحالي تكبّد مشقة العودة. التقى دوبرينيك برجال فارين من الشيشان، بسبب انتقادهم سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وجدت ليتوانيا، التي يبلغ عدد سكانها أقل من ثلاثة ملايين نسمة، صعوبات في التعامل مع الآلاف من الوافدين الجدد، وأعلنت الحكومة خلال هذا الشهر حالة الطوارئ بسبب تدفق اللاجئين من بيلاروسيا. في هذا الإطار، وصف عدد من المسؤولين الليتوانيون المهاجرين بأنهم “سلاح هجين” يستخدمه لوكاشينكو “للهجوم على الدول الديمقراطية”.
من جانبه، يقول إياد، وهو سوري يبلغ من العمر 25 سنة، وصل من بيلاروسيا إلى ليتوانيا في شهر تموز/ يوليو، تعليقا على المزاعم بأن اللاجئين يُستخدمون كأسلحة، أنه لا يرى نفسه كذلك. ويوضح إياد في مقابلة داخل مركز للمهاجرين في بلدة روكلا، وسط ليتوانيا: “كُتب على فيسبوك أن اللاجئين أسلحة. لكن هذا لا يعني أنني كذلك”.
هرب إياد، الذي طلب عدم نشر اسمه بالكامل خوفا على والديه في سوريا، من بلده إلى روسيا سنة 2018. شعر إياد بالإحباط بصفته مهاجرا غير شرعي في موسكو، وعمل في المصانع والمطاعم، إلى أن قرأ على إحدى صفحات الفيسبوك خلال الصيف الماضي أن لوكاشينكو فتح حدود بلاده مع الاتحاد الأوروبي.
وجد مع العديد من رفاقه المهاجرين سائقًا ينقلهم إلى مينسك. بحث إياد في صور الأقمار الصناعية عن معبر يسهل اختراقه على الحدود بين بيلاروسيا وليتوانيا، واستقل سيارة أجرة من مينسك، ثم أكمل طريقه مشيا عبر الحدود. ويقول إياد: “لقد كانت فرصة ذهبية بالنسبة لي”.
يعتبر إياد من بين قلة من المهاجرين غير البيلاروسيين الذين تمت الموافقة على طلبات اللجوء التي قدموها. تم نقله منذ أسابيع من مركز للمهاجرين في سجن سابق إلى مركز في روكلا، حيث يوجد أكثر من 100 حاوية زرقاء ورمادية وبيضاء تضم أكثر من 700 مهاجر.
عندما وصل أندريه سوشا، وهو مواطن بيلاروسي، إلى مركز روكلا في شهر نيسان/ أبريل، كان يضم أقل من 100 شخص. دبّر سوشا، الذي يواجه عقوبة السجن بسبب مشاركته منشورات معادية للسلطات على الإنترنت، إحدى عمليات الهروب الأكثر جرأة هذا العام من بيلاروسيا: بعد تلقيه استدعاءً من الشرطة، قاد طائرته الشراعية الآلية عبر حقل يبعد حوالي 10 أميال عن الحدود.
طار سوشا على ارتفاع منخفض فوق الأشجار لكي لا يُكتشف أمره، وتأكد أنه وصل إلى ليتوانيا عندما رأى اللغة المستخدمة على لافتات الطرق. بعد تسليم نفسه، مكث في مركز روكلا لأنه لم يكن لديه المال ليذهب إلى مكان آخر.
في الصيف، بدأ المركز يمتلئ بالمهاجرين. أصبحت الغرفة التي كانت تؤوي سوشا ورفيقه في البداية، تضم سبعة أشخاص بحلول شهر آب/ أغسطس، وباتت الأسرّة مكدسة فوق بعضها البعض. كان بعض جيرانه الجدد من من الأويغور القادمين من الصين، والأكراد القادمين من تركيا، والسيخ الوافدين من أفغانستان، والمسلمين من ميانمار.
يقول سوشا: “لقد فقدت أعصابي لأن ظروف العيش أصبحت لا تطاق. في شهر آب/ أغسطس، تمكنت من العثور على غرفة للإيجار في مدينة كاوناس المجاورة”.
خلال الأسبوع الماضي، تمت الموافقة على طلب اللجوء الذي قدمه سوشا، وهو الأمر الذي طال انتظاره بالنسبة للعديد من البيلاروسيين بسبب كثرة طلبات اللجوء. في مركز روكلا، كان عدد من الإريتريين من بين مجموعة صغيرة من المهاجرين غير البيلاروسيين الذين مُنحوا حق اللجوء.
أكدت شابة تبلغ من العمر 21 سنة أنها فرت أولاً إلى إثيوبيا هربا من أداء الخدمة العسكرية لمدة غير محددة في إريتريا، ثم سافرت إلى بيلاروسيا مع اندلاع الحرب الأهلية في إثيوبيا. ظلت المرأة، التي لم ترغب في الكشف عن هويتها خوفا على عائلتها في إريتريا، في بيلاروسيا لعدة شهور حتى تمكنت من دخول ليتوانيا. تقول المهاجرة الإرترية: “جئنا هاربين من حكومة دكتاتورية، لكنا علقنا في أيدي حكومة دكتاتورية أخرى”.
المصدر: نيويورك تايمز