مساء الأحد الماضي، نشرت منصة “ديسكلوز” الاستقصائية تحقيقًا خطيرًا عن تعاون تقني بين مصر وفرنسا بغرض مكافحة الإرهاب على الحدود الغربية لمصر، تلك الملاصقة لليبيا، ولكن هذا التعاون انحرف مساره لكي يتحول إلى “مقتلة” للناشطين من الأهالي والمهرّبين في تلك المنطقة.
وفقًا للتحقيق الذي كنا من أوائل المنصات العربية التي سلّطت الضوء عليه، فإن هذا الانحراف في جوهر عمل المهمة “سيرلي”، والتي استمرت نحو عامين من 2016 إلى 2018 بطلب مصري، جاء، في البداية، دون علم الفريق التقني الفرنسي الذي أتى إلى مصر بغرض المساعدة في مكافحة تنظيم “داعش”.
يشير التحقيق إلى تورُّط البعثة الفرنسية في المساهمة في الوصول بعدد ضحايا عمليات الجيش المصري في تلك المنطقة إلى 40 ألف قتيل خلال 4 أعوام تقريبًا، شهدت عمليات الجيش المصري فيها نشاطًا في تلك المنطقة، بداية من عام 2014 إلى عام 2018، والتي تقاطعت مع وجود البعثة الفرنسية في مصر بداية من الثلث الأول لعام 2016.
يعدّ هذا التحقيق زلزالًا مدويًا على المؤسسة الحاكمة في مصر، لأنه يتناول ملفًّا شائكًا، ويعتمد على مئات الوثائق الرسمية الفرنسية التي تتحدث عن أنشطة ظلّت مجهولة وبعيدة عن الرأي العام، نظرًا إلى الاهتمام بملف مكافحة الإرهاب على الجانب الشرقي من الحدود في سيناء، ولأنه يوثّق عددًا هائلًا من القتلى، بمعرفة الجانب المصري والفرنسي، بما في ذلك شخصيات تقنية مرموقة جرى قتلها لمجرد الاشتباه.
كأنّ شيئًا لم يكن!
الاستجابة القياسية التي كان ينبغي أن يقوم بها أي نظام طبيعي تجاه هذه الوقائع والتحقيقات، كان أن يتمَّ تشكيل لجنة عاجلة، من المدنيين والعسكريين، لبحث هذه الخروقات الفظيعة في “بروتوكولات” التعامل مع الأنشطة المشبوهة على الحدود المصرية، ومن ثم عاصفة من الإقالات والمحاكمات لكل من تورّطَ في قتل، والتغطية على قتل، 40 ألف مدني، معظمهم من المصريين، على الحدود الليبية.
أما في مصر السيسي بعد 3 يوليو/ تموز 2013، أو ما تُعرَف بالجمهورية الثانية كما يروِّج النظام مؤخرًا، فإن الاستجابة المتوقعة كانت إصدار بيان نفي من المتحدث العسكري الرسمي باسم الجيش المصري، والإشارة إلى محاولات للإيقاع بين الجانبَين المصري والفرنسي، بالنظر إلى التطور اللافت في العلاقات الثنائية خلال الأعوام الأخيرة.
وقع مثل هذا النوع من الاستجابات في حوادث سابقة، وكان يكتفي المتحدث العسكري ببيان نفي مقتضب، من باب ذرّ الرماد في العيون من جهة، ومن باب اضطلاعه الوظيفي بالردّ على أي استفهامات بخصوص المؤسسة العسكرية، وهو الغرض الذي استحدث من أجله العسكريون في مصر هذا المنصب ابتداءً، إذ لم يكن من المتعارف عليه وجود متحدث باسم الجيش حتى وقت قريب بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، والتي شهدت عجزًا واضحًا من المؤسسة العسكرية في إدارة الخطاب الإعلامي.
وفقًا للسِّيَر الذاتية العسكرية السابقة للمتحدّثين باسم الجيش المصري بداية من تدشين هذا المنصب، فإن القائم به يكون ضابطًا رفيع المستوى، معروف عنه القدرة على التواصل والهيئة الملائمة، وقد جرى تأهيله لهذا المنصب من خلال دورات الاتصال العسكري التي يحصل عليها من الخارج عادةً.
ما يجري يشبه نمط التعامل المصري مع حوادث مشابهة وقعت خلال الأعوام الأخيرة، تقاطعًا مع القوى الدولية الكبرى بما في ذلك حادث استهداف الطائرة الروسية، ومقتل الباحث الإيطالي جوليو روجيني.
لكن ما حدث مع هذه الأزمة، كان عودة إلى سياسة “الإخفاء” والتجاهل التي كثيرًا أيضًا ما يعتمد عليها النظام المصري في الملفات الشائكة التي تخرج من يدَيه، فقد وثّقت منصات مهتمة بمراقبة حرية المحتوى الشبكي وجود حظر في مصر على الوصول إلى موقع “ديسكلوز” بما في ذلك القسم الخاص بـ”أوراق مصرية”، وذلك عقب ساعات قليلة من نشر نتائج التحقيق، فيما لم يَدلُ أي مسؤول مصري رفيع، من رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية، بتعليق حيال هذه التطورات.
ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أن صدى هذه التحقيقات الخطيرة وصل إلى المسؤولين الأمنيين في مصر، وهم المسؤولون، بالتنسيق مع القيادات التقنية لوزارة الاتصالات، عن ممارسة “الحجب” لعشرات المواقع المعارضة في البلاد؛ فجاءت التوصية الأولى والرئيسية بالتعتيم الداخلي على الأزمة حتى تنتهي.
يشبه ذلك نمط التعامل المصري مع حوادث مشابهة وقعت خلال الأعوام الأخيرة تقاطعًا مع القوى الدولية الكبرى، بما في ذلك حادث استهداف الطائرة الروسية في شبه جزيرة سيناء على يد جماعات إرهابية في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، والذي أصرَّ خلاله الجانب المصري على نفي هذه الرواية تمامًا، مرجّحًا رواية الخطأ التقني، وذلك إلى أن تبنّى تنظيم ولاية سيناء فعليًّا هذا الحادث وأكّدت السلطات الروسية تلك السردية.
وهو ما حدث أيضًا في قضية التخلُّص من الباحث الإيطالي جوليو روجيني في يناير/ كانون الثاني 2016، الذي نفت السلطات المصرية تمامًا الضلوع في قتله وتقطيعه، اعتمادًا على روايات مختلفة، منها التوصُّل إلى الفاعلين من خصوم النظام، وقتلهم في اشتباك مسلح، ثم نفي تلك الرواية لاحقًا باستحداث رواية أخرى عن ضلوع تنظيم إجرامي متخصِّص في الاعتداء على الأجانب في قتله، ورفض تسليم الضبّاط المتهمين إلى الجانب الإيطالي بناء على ذلك، وعلى هذا النحو التغاضي أيضًا عن إثارة أي ردّات فعل بخصوص نتائج تحقيقات “بيغاسوس” التي قالت إن السلطات السعودية استخدمت هذه البرمجية للتجسُّس على مسؤولين مصريين رفيعي المستوى.
الاستجابة الفرنسية
على مستوى الشكل، اختلفت الاستجابة الفرنسية لهذه الأزمة بعض الشيء عن الاستجابة المصرية، وذلك نظرًا إلى مناخ الحريات المفتوح في باريس، قياسًا على الوضع المعقد في القاهرة، والذي يشهد حالة غير مسبوقة من التضييق منذ يوليو/ تموز 2013.
فقد قالت السلطات الفرنسية إنها مطّلعة على نتائج هذا التحقيق، ولكن بدا أن هناك تضاربًا ظاهريًّا بين الجهات المعنية في كيفية التعامل مع هذا الملف؛ إذ أحال مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التحقيق في هذه التطورات إلى وزارة الجيوش الفرنسية، دون تعليق رسمي واضح عليها.
التحرك الأكثر جدّية من فرنسا بطبيعة الحال، كان من بعض الأصوات المعارضة في البرلمان، والتي طالبت بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وعاجلة في هذه الاتهامات.
فيما أدلت وزارة الجيوش الفرنسية، والتي تحمل حقيبتها حاليًّا السيدة فلورانس بارلي، ببيان غريب، تحدثت فيه عن الشراكة القوية بين مصر وفرنسا في ملف مكافحة الإرهاب، شأنها في ذلك شأن عواصم أخرى، مع الإشارة إلى فتح تحقيق في هذه التطورات؛ دون توضيح لملابسات هذا التحقيق: الجهات المشرفة، والمدى الزمني، والإطار الحاكم.
لا شك أن تنسيقًا رسميًّا غير معلَن بين الدوائر الأمنية في السلطات المصرية ونظيرتها في فرنسا لبحث سبل التعامل مع هذا الملف قد وقع في الساعات الأخيرة، وذلك استنادًا إلى العلاقة المتينة بين الجانبَين، والتي كان الرئيس المصري على إثرها مدعوًّا إلى زيارة باريس مرتَين خلال الشهور العشرة الأخيرة، وتوقيع عقود جديدة لشراء مزيد من طائرات “رافال” التي تعدّ درّة الصناعات الجوية الفرنسية بقروض ميسّرة من فرنسا نفسها.
التحرك الأكثر جدية من فرنسا بطبيعة الحال، كان من بعض الأصوات المعارضة في البرلمان، والتي طالبت بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وعاجلة في هذه الاتهامات، ولكن ذلك يظل مرهونًا بالطبع بمدى تعاون السلطات الرسمية الحاكمة في فرنسا حاليًّا، خاصة قبل وقت قصير من الانتخابات الرئاسية.
ترجيح التعتيم
لا يستند القول إن هناك تنسيقًا مشتركًا وتواطؤًا للتعتيم على هذا الملف إلى قرينة وجود مصلحة لدى الطرفَين في هذا الموقف، أو إلى تفسير الموقف الفرنسي الباهت إزاء هذه التطورات وحسب؛ وإنما إلى مضمون ما ورد في أوراق مصر المنشورة في “ديسكلوز” أيضًا.
فوفقًا لما جاء في التحقيق، فإن السلطات العليا في باريس كانت على علم بالخروقات الرسمية المصرية لطبيعة المهمة بعد حوالي شهرَين فقط من بدايتها، ومع ذلك فإنها فضّلت استمرار ذلك التعاون، رغم إبلاغ الفريق الفرنسي الموجود في مصر باكتشاف هذا الجنوح في طبيعة المهمة.
ومن المفترض أن وزارة الجيوش الفرنسية نفسها، وفقًا لما جاء في التحقيقات، قد أطلعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 22 يناير/ كانون الثاني 2019 على هذا الموقف، وذلك قبل زيارته إلى مصر، بحيث يمكن أن يتّخذ موقفًا من قبيل إثارة تلك القضية مع المسؤولين المصريين، أو مراجعة أمر تلك الزيارة برمتها.
بالنسبة إلى السيسي، فإن هذا التحقيق يُضاف إلى السجلّ الثقيل لاتهاماته بالتوسع في استخدام “القوة الغاشمة” ضد المصريين، على النقاط الحدودية شرقًا وغربًا، من سيناء إلى مطروح، مرورًا بميادين التظاهر في القاهرة.
ولكن ذلك لم يحدث؛ بل العكس، استمرَّ التنسيق بين الجانبَين في الأمور العسكرية والمدنية على أعلى مستوى. ووفقًا لما ورد في التحقيق، فإن هذه البعثة ما زالت تباشر مهامها في الأراضي المصرية إلى الآن، كما أن الطرف المصري تجاهلَ أيضًا توقيع اتفاقية عسكرية ثنائية بخصوص إعلان ذلك التنسيق، بداية من وزارة صدقي صبحي وإلى اليوم، بحسب التحقيق.
ومع ذلك، قد يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه خاضعًا للمحاكمة الجنائية بموجب تورُّطه في التعتيم على هذا الملف، وموافقته على استمرار البعثة في العمل، رغم تحذيرات المؤسسة البيروقراطية في فرنسا، وهو ما حدث مع قيادات دولية رفيعة سابقًا، ناهيك عن استدعاء الرئيس السابق فرانسوا هولاند إلى المحاكمة على خلفية قضايا أخرى مشابهة في الوقت الحالي بالفعل، وهو ما يعني أن المجال القضائي مهيَّأ في فرنسا لذلك نوعًا ما، وهو ما تقوله الصحافة الفرنسية نفسها.
وبالنسبة إلى السيسي، فإن هذا التحقيق يُضاف إلى السجلّ الثقيل لاتهاماته بالتوسع في استخدام “القوة الغاشمة” ضد المصريين، على النقاط الحدودية شرقًا وغربًا، من سيناء إلى مطروح، مرورًا بميادين التظاهر في القاهرة، ومن المفترض أن هناك مزيدًا من الخلاصات سينشرها الموقع الفرنسي تحت عنوان “أوراق مصر”، إذ لم تكن الإفادات السابقة إلا الحلقة الأولى من تسريبات خطيرة عن العلاقات المصرية الفرنسية توصّل إليها هذا الموقع.