بعد أن تحدثنا في مقالنا الأول، عن الديموغرافيا والأصول التاريخية والتديُّن والثقافة الشعبية للأكراد عمومًا وأكراد سوريا خصوصًا، نشرع في هذا المقال بالحديث عن جذور المشكلة الكردية، وانعكاساتها على الواقع السوري، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية عهد الانتداب، تلك المشكلة التي لم تجد طريقها للحل إلى يومنا هذا.
معاهدة لوزان والشتات الكردي
تعود بداية المشكلة الكردية إلى سقوط الدولة العثمانية وظهور الدولة القومية الحديثة، فرغم وجود أبعاد تاريخية للقضية كإدراج قسم من كردستان في الدولة الصفوية في معاهدة غالديران (1514)، وكذلك وجود حركة رفض للمشاركة في الخدمة العسكرية في الجيش العثماني في أيام الحرب العالمية الأولى؛ إلّا أن بداية مشكلة الأكراد التي نرى آثارها إلى اليوم كانت مع توقيع معاهدة لوزان.
ذلك أنه، بعد انتهاء الحرب العالمية وسقوط الدولة العثمانية على إثرها، عُقد مؤتمر الصلح في باريس (1919)، الذي كان يهدف إلى تقسيم تركة الدولة العثمانية وألمانيا اللتين خسرتا الحرب. وقد لعبت بريطانيا وفرنسا في هذه الحقبة دور الأمّ العطوف على شعوب المنطقة، فوعدت بريطانيا الأكراد بحقهم بفصل كردستان عمّا تبقى من الدولة العثمانية، كما دعمت ذلك مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون التي تنص على “حق الشعوب في تقرير مصيرها”.
وبالفعل، فقد شارك وفد غير رسمي من الأكراد برئاسة الجنرال شريف باشا في المؤتمر، وذلك مع محاولة عرقلة تركية-إيرانية لهذه المشاركة، وقد حاول الوفد الكردي بالتعاون مع الوفد الأرمني، الذي كان له أهداف استقلالية مشابهة، إقناع فرنسا وبريطانيا بضرورة استقلالهما عن الدولة العثمانية، فقد جاء في نص الاتفاق الذي أرسله الوفدان إلى رئيس الوزراء الفرنسي كليمانصو، بوصفه رئيسًا لمؤتمر الصلح، ما يلي:
“سيادة الرئيس: نحن الموقعين أدناه، الممثلين للشعبَين الأرمني والكردي، لنا الشرف أن نَبلُغ مؤتمر السلام، فشعبانا لهما المصالح نفسها، ويرميان إلى الأهداف نفسها، ويدركان حريتهما واستقلالهما وبالأخص للأرمن وانعتاقهم من السيطرة القاسية للحكومة العثمانية، أي تحررهم من نير الاتحاد والترقي. ونحن موحَّدون جميعًا في الطلب من مؤتمر السلام أن يقرر استنادًا على قاعدة مبادئ القوميات خلق أرمينيا موحدة مستقلة وكردستان مستقلة مع المساعدة من إحدى الدول العظمى”.
كانت نتيجة هذا المؤتمر الخروج بمعاهدة سيفر التي وُقِّعت عام 1920 بين الدول المنتصرة والدولة العثمانية، وقد تمَّ تخصيص القسم الثالث من الباب الثالث من المعاهدة لمعالجة المسألة الكردية، وحمل هذا القسم عنوان “كردستان”، ويتألف من المواد 62، 63، 64 التي هدفت إلى إنشاء دولة كردية مستقلة في تركيا، يمكن أن ينضمَّ إليها أكراد كردستان العراق (ولاية الموصل) إذا أرادوا ذلك.
كما تطرقت المعاهدة إلى القضية الكردية أكثر من مرة، خلال مناقشة قضايا المنطقة، مثل الفصل السابع الذي حمل عنوان “سوريا، ميزوبوتاميا (العراق)، فلسطين”، وقد حملت هذه المواد بطيّاتها بوادر تحقق الأمل الكردي بإنشاء دولة مستقلة.
ولكن هذه الإرادة بالاستقلال تصادمت مع الواقع الذي فرضته حكومة كمال أتاتورك الرافضة لهذه المعاهدة، لأنها رأتها مجحفة، وستعمل على منع تنفيذها، وعلى إخراج الأوربيين بقوة السلاح من الأراضي العثمانية في الأناضول.
ولأن الدولة الأوروبية كانت مرهَقة بعامل الحرب العالمية الأولى التي انتهت مؤخرًا، لم تشأ الدخول في حرب استنزاف جديدة، فانتهت حركة المقاومة بقيادة كمال أتاتورك بتوقيع معاهدة لوزان (1923) التي اعتبرت الضربة القاصمة للأكراد، فقد نصّت هذه المعاهدة على تقسيم حدود المنطقة بين ما سيُعرف بعد الآن بسوريا والعراق وتركيا، دون أي ذكر للدولة الكردية.
عهد الانتداب الفرنسي
منذ ذلك الحين لم تهدأ الثورات الكردية في تلك المنطقة، وقد خرجت بأشكال ودوافع مختلفة، فبعضها كانت ردًّا على سياسة التتريك التي انتهجتها حكومة كمال أتاتورك، وبعضها كانت بدوافع دينية، بدءًا من ثورة الشيخ سعيد بيران (1925) وانتهاءً بثورة سيد رضا (1938).
كانت نتيجة هذه الثورات والثورات المضادة هجرة آلاف الأكراد، إلى جانب عدد من المسيحيين الآشوريين والسريان والأرمن إلى سوريا الانتدابية، وبالتحديد منطقة الجزيرة السورية، والتي سيتكرّس اسمها لاحقًا بمحافظة الحسكة، وقد انقسمت حركة الهجرة هذه إلى: الهجرة الكبرى الأولى (1925-1938)، والهجرة الكبرى الثانية (1945-1963) التي كان لها دوافع اقتصادية أيضًا.
وقد أصبحت منطقة الجزيرة بعد ذلك صاحبة أكثرية كردية خلافًا لما كانت عليه سابقًا، وقد وصف التقرير الفرنسي السنوي المقدَّم لعصبة الأمم عام 1937 التوزُّع السكاني في محافظة الجزيرة على النحو الآتي:
– 82 ألفًا من الأكراد، وكلهم قرويون.
– 42 ألفًا من العرب المسلمين.
– 32 ألفًا من المسيحيين سكان مدن بالدرجة الأولى.
وهذا يدلّ على أن التواجد الكردي في سوريا كان بسبب الهجرة وعدم تضمين الحركات القومية الكردية، التي ستنشأ فيما بعد، المناطق الكردية السورية (الجزيرة، عفرين، عين العرب) في خريطة كردستان الكبرى (خرائط عامَي 1927 و1948)، إلا جزءًا من عفرين.
وبالرجوع إلى معاهدة لوزان، نجد أن نتائجها لم تتوقف على الناحية السياسية، بل خلقت شرخًا اجتماعيًّا واضحًا وفروقًا ثقافية بين الأكراد أنفسهم، فقد قُسِّمت الأراضي التي يشكل الأكراد فيها غالبيةً بين 4 دول انتهجت النهج القومي في إذابة الهوية والثقافة الكردية، وفي سوريا خلقت هذه المعاهدة، التي رسمت الحدود اعتباطيًّا، مجتمعات كردية صغيرة في شمالي وشرقي سوريا مبتورة عن مجتمعاتها الأكبر.
ولكن بالمقابل ظهرت نتيجة لهذه الهجرة ثورة زراعية ممكننة في الجزيرة السورية، عمّدها رؤساء العشائر الأكراد الذي جاءوا باليد العاملة الكردية التركية لشحّ السورية منها، وبهذا حصل لمٌّ للشمل خجول بشكل من الأشكال، عبر وساطة فرص العمل ومشاريع الثورة الزراعية، وقد عمل المهاجرون على الحصول على الجنسية السورية لشرعنة وجودهم، وهروبًا من الواقع المأساوي في تركيا آنذاك.
كان هناك عدد من الشخصيات الكردية التي اندمجت في الحياة السياسية كسوريين وطنيين بعيدًا عن القومية الكردية، كإبراهيم هنانو، الذي كان من أهم الشخصيات في إشعال وقيادة الثورة السورية ومواجهة الانتداب الفرنسي.
وكانت فرنسا، التي كانت تحتلّ سوريا آنذاك، قد شجّعت حركة الهجرة هذه، بسبب سياساتها الإثنية التي بنت عليها تقسيم سوريا إلى سلسلة دويلات على أساس إثني، طائفي، ديني أو مذهبي، وفق نظام الاستقلال الذاتي.
وأما من الناحية الكردية، فقد عمل بعض الأكراد على تنمية شعورهم القومي، فمثلًا في عام 1928 طلبَ بعض رؤساء العشائر من الحكومة الفرنسية استعمال اللغة الكردية إلى جانب اللغات الأخرى في التعليم في المناطق الكردية الثلاث، وفي فترة الثلاثينيات ظهر زعيم كردي هو حاجو آغا، رئيس اتحاد هفيركان، فتقرّب من الفرنسيين، وكان وسيلتهم لاستتباب الأمن في منطقة شمال شرقي سوريا، وقد عمل على استقلال الأكراد عن سوريا، وعلى إيقاظ الشعور القومي بين العشائر الكردية.
وفي عام 1938، عُقد مؤتمر الجزيرة برئاسة حاجو آغا، وقد ناشد فرنسا منح الحكم الذاتي للأكراد، وهذا ما فعلته عندما رسمت للأكراد حكمًا ذاتيًّا في شمال شرقي سوريا (1939)، هذا المشروع الذي انتهى بانتهاء الوجود الفرنسي على الأراضي السورية.
ويلخِّصُ حالة التجاذبات الكردية هذه المؤرخ محمد جمال باروت، بقوله: “تعتبر المسألة الكردية (السورية) بمعناها الراهن من الناحية التاريخية الصرف مشكلة تركية تساقطت آثارها في سورية أكثر ممّا هي مشكلة سورية، وإن أعادت القوى السياسية الكردية في المراحل الزمنية السياسية اللاحقة صياغتها تدريجًا على شكل مشكلة كردية سورية”.
وختامًا، نؤكد أنه على النقيض من ذلك، كان هناك عدد من الشخصيات الكردية التي اندمجت في الحياة السياسية كسوريين وطنيين بعيدًا عن القومية الكردية، كإبراهيم هنانو الذي كان من أهم الشخصيات في إشعال وقيادة الثورة السورية ومواجهة الانتداب الفرنسي، وحسني الزعيم ومحسن البرازي وفوزي سلو وخالد بكداش، إلى جانب محمد علي العابد وأديب الشيشكلي اللذين يُعتبرَان كرديان حسب البعض، وغيرهم الكثير.