كثيرة هي تلك الشخصيات التي ساهمت في كتابة تاريخ الجزائر في العهد العثماني، لكن مع ذلك لم يُكتب عنها، ولم تأخذ حقها في الإعلام والدراسات والبحوث ما جعلها شبه منسية وغائبة عن ذاكرة الجزائريين، رغم ما قدموه من مساهمات كبرى لبلادهم في تلك الحقبة التاريخية المهمة.
بعض هذه الشخصيات لم تُساهم في تطور الجزائر خلال الوجود العثماني وحسب، بل أسهمت بقوة في إعلاء راية الإسلام في مناطق عدة، لكن أغفلتها كتب التاريخ وهو ما سنحاول الحديث عنه في هذا التقرير لنون بوست ضمن ملف الجزائر العثمانية.
التلمساني.. أديب الجزائر
أغفلت كتب التاريخ العديد من الشخصيات الجزائرية، التي تميزت خلال العهد العثماني، من بينهم، يجب أن نذكر أحمد بن محمد المقري التلمساني، الذي يعد من أعلام الفكر العربي في الجزائر خلال عهدها العثماني.
يعد التلمساني شخصية متميزة فكريا، فهو صاحب عملين فكريين جادين، بدأ بأوّلهما حياته في التأليف، وهو كتاب “روضة الأنس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس”، وكان الثاني خاتمة مؤلفاته، عشية وفاته، وهو كتاب “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” في أربعة أجزاء، والذي يعد أحد أبرز المراجع العربية المكتوبة حول تاريخ الأندلس.
له كتب أخرى أيضًا أشهرها “أزهار الرِّياض في أخبار القاضي عِياض” في أربعة أجزاء، و”عرف النَّشق في أخبار دمشق” و”حسن الثَّنا في العفو عمَّن جنى” وله أرجوزة سمَّاها “إضاءة الدُّجنَّة في عقائد أهل السُّنَّة” وله في النَّبويَّات “فتح المتعال في وصف النِّعال” نعال النبيّ صل الله عليه وسلم، وله شعرٌ قليلٌ حسنٌ تبدو منه الرِّقَّة والعذوبة.
شيخ الإسلام.. الفكون القسنطيني
من الشخصيات التي وجب استحضارها ونفض الغبار عن سيرتها كذلك عبد الكريم الفكون القسنطيني، وهو عالم من عائلة قسنطينية عريقة في العلم والفتوى والقضاء والسياسة. كان عبد الكريم صوفيًا عالمًا عاملًا اعتمد على نفسه وعائلته في تكوين نفسه ونبوغه في مختلف العلوم الدينية.
اهتم الفكون القسنطيني بالتدريس حيث تخرج على يديه الكثير من المشايخ المشهورين والمغمورين أيضًا، كما اهتم بالتأليف في العلوم الدينية وعلوم اللغة، كما يلاحظ على الفكون اهتمامه أيضا بقضايا عصره خاصة الجانب الاجتماعي.
تولى الشيخ القسنطيني القضاء والتعليم والفتوى والخطابة بقسنطينة ورعاية أوقاف الجامع الأعظم بالمدينة، وهي وظائف ورثها عن والده وجده. كما تولى إمارة ركب الحجيج الجزائريين إلى الحجاز، وكان أول من لقب بشيخ الاسلام فلم يسبقه أحد إلى هذا اللقب من عائلة الفكون.
مثلت كتاباته نموذجًا للفكر النقدي، والإصلاح الاجتماعي والثورة على الوضع القائم، إذ نقد الفكون علماء عصره سواء في الجزائر أو غيرها، وعاب على فقهاء المشرق تساهلهم في المسائل الفقهية وتساهلهم في منح الإجازات وعدم احترام العلم.
مست كتبه مواضيع كثيرة منها الاجتماعي مثل منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية ومحدد السنان في نحور إخوان الدخان، وفيها اللغوي والنحوي مثل فتح اللطيف في شرح أرجوزة المكودي في التصريف وشرح على شواهد الشريف بن يعلى على الجرومية، ومنها الأدبي مثل ديوانه وقصائده الأخرى.
حمادوش.. احترف التجارة والعلم
يعتبرعبد الرزاق بن حمادوش من علماء الجزائر الذين ظلَّ انتشارهم محصورًا في إطارٍ مكاني محدود، اشتهرت أسرته بالعلم وبالمكانة الاجتماعية المرموقة، وبعمل الدباغة وإن كان هو لم يحترفها بل احترف التجارة التي لم ينل منها إلاّ الفقر.
أخذ بن حمادوش العلم قراءة عن الشيوخ المشهورين وليس عن طريق الإجازة والسماع كما يفعل بعض المعاصرين له، وقد كان ابن حمادوش كثير التنقّل والأسفار، زار بلاد المشرق المختلفة، تارة على ظهور الرواحل وتارة سيرا على القدمين، كما زار تونس والرباط.
نظّم ابن حمادوش الشعر وكتب المقامة وقيّد رحلاته، وألّف في الطب والفلك والهندسة وعلوم البحار، وكان يكتب بسلاسة وتتابع وطريقة مباشرة، كما أنه لم يستعمل السجع والمحسّنات البديعية -على الرغم من شيوعها عند معاصريه- إلاّ في مقامته.
عرف أبي راس الناصري بكثرة رحلاته إلى الأمصار، فقد زار تونس والحجاز والشام وفلسطين
من مؤلّفاته “كشف الرموز” وهو عبارة عن معجم طبّي سار فيه ابن حمادوش على طريقة المعاجم الأبتثية وضمّنه بعد مدخل في أنواع وأوصاف الأدوية، أسماء النباتات والعقاقير والحيوانات والمعادن، وقد أشاد دارسو هذا المعجم بأصالة فكر ابن حمادوش حيث لم يستند إلى الخرافات في عمله، وأنّ فيه إضافات جديدة في المواد الطبيّة التي لا علاقة لها بالأدوية الأوروبية، وفيه ذكر أدوية أوروبية أصبحت شائعة في الجزائر.
له كتاب آخر في الطب أسماه “تعديل المزاج” وهو في الشِيرياء، عالج فيه الأعضاء التناسلية ووظائفها وأمراضها وعلاجاتها، ولابن حمادوش المقامة الهركلية، وكتاب “فتح المجيب في علم التكعيب”، وله تأليف في علم القنبلة، وكتاب “السانح في حواشي المتن والشارح” وتأليف في الطاعون.
المعسكري.. المؤرخ والشاهد على عصره
هو محمد أبو راس بن أحمد بن ناصر الراشدي، وهو علاّمة ومحقق في العلوم الإسلامية وحافظ للحديث النبوي، تعلّم على والده أول الأمر، فحفظ على يديه معظم القرآن الكريم، لكنّه أتقنه على يد الشيخ منصور الضرير، كما تتلمذ على كثير من العلماء والفقهاء في عصره، فنهل من علمهم وارتوى من مشربهم.
له اسهامات كثيرة في علوم الحديث والقرآن والأنساب، وقد ترك بعد وفاته مؤلفات وكتب كثيرة تتجاوز أو تفوق المائة كتاب في الفقه والتاريخ منها “مجمع البحرين، ومطلع البدرين، بفتح الجليل، للعبد الذّليل، في التّيسير إلى علم التّفسير، في ثلاثة أسفار”، و” مفاتيح الجنّة وأسناها، في الأحاديث التي اختلف العلماء في معناها”، و” نفي الخصاصة في إحصاء تراجم الخلاصة.”
ساهمت هذه الشخصيات في تطور الجزائر خلال العهد العثماني، في مجالات عدة منها العسكري والثقافي والديني
عرف أبي راس الناصري بكثرة رحلاته إلى الأمصار، فقد زار تونس والحجاز والشام وفلسطين وقد كانت هذه المناطق مراكز لتلقي العلوم في ذلك العصر، وعٌرف الناصري هناك بعلمه الواسع وكثرة حفظه، حتى لقب في مصر بشيخ الإسلام.
الريس حميدو.. أمير البحار
من الذين لم تنل سيرتهم حظّها في الذيوع، نجد محمد بن علي الشهير بـ”الريس حميدو” أو “ابن حميدو”، الذي يعد من أعظم قادة البحرية الإسلامية، وأوّل مَن صفع الولايات المتحدة الأمريكية على وجهها، إذ أجبر الأمريكان على دفع الضريبة للجزائر مقابل حماية أسطولهم في عرض البحر الأبيض المتوسط.
وُلد الريس ابن حميدو عام 1770 في إحدى قرى الجزائر، وكان أبوه خياطًا بسيطًا، لكن الطفل حميدو كان عاشقًا للبحر، فكان يتردد على السفن ويشارك البحّارة في رحلاتهم، وقد التحق بالبحرية العثمانية وعمره ثلاثة عشر عامًا.
أثبت جدارته العالية مبكرًا ما جعلته يترقّى في المناصب القيادية البحرية، وفي الخامسة والعشرين من عمره أصبح أمير البحرية في الجزائر رغم أن قيادة البحرية كانت تُسند دائمًا للأتراك إلا أنَّ كفاءة ابن حميدو وبراعته جعلت السلطان العثماني يختاره لهذا المنصب المهم.
استطاع حميدو في فترة قصيرة تقوية الأسطول الجزائري، فقُدِّرَ عدد البحارة الجزائريين في عهده بأكثر من 130 ألف بحار، ويذكر أنه استطاع أن يستولي على واحدة من أكبر القطع البحرية للأسطول البرتغالي وأطلق عليها (البرتغالية) ثم أضاف إليها سفينة أمريكية أسماها (الميريكانا).
قاد الريس حميدو، الأسطول الجزائري في جهاده البحري من أجل حماية شواطئ البلاد ومدنها، وساهم في أحكام الجزائر سيطرتها على البحر المتوسط وفرض قوتها هناك وتأسيس نظام الملاحة الخاصة بها لتأميل مرور السفن من هناك.
علي رضا.. الجزائري الذي حكم طرابلس
إلى جانب هؤلاء، علا اسم الجزائريين خارج بلادهم أيضًا، فنجد من ذلك علي رضا باشا الجزائري (1820-1876)، الذي ذاع صيته بحنكته الدبلوماسية والقيادة العسكرية وحكمه لطرابلس في ليبيا، خلال العهد العثماني الثاني.
ولد في الجزائر العاصمة عام 1820، ودرس بالمدارس العسكرية الفرنسية حتى عام 1840، ثم انضم إلى الجيش العثماني برتبة لواء، وسرعان ما صعد في سُلّم الرتب حتى بلغ رتبة مشير عام 1860. أثناء عمله في الجيش العثماني تسلّم مسؤوليات كبيرة، بينها دوره العسكري والدبلوماسي المهم في حرب القرم (1853-1856)، التي تواجهت فيها الدولة العثمانية وروسيا.
كما شغل علي رضا وظائف مدنية عدة، أبرزها محافظ بلغراد في صربيا، ووالي مدينة بروس في فرنسا، وواليا لطرابلس في ليبيا، هناك برزت عبقريته وحنكته في الحكم، فقد قام بعديد الإجراءات والإصلاحات الإدارية، فأنشأ بلدية طرابلس، وأعاد تنظيم تعداد السكان، وحل أزمة مياه الشرب والنظافة والإنارة العمومية وغيرها.
لم يكن علي رضا قائدا عسكريا وسياسيا فقط، بل كانت له كتابات ومؤلفات
كما عرفت فترة حكمه إقرار إجبارية التعليم بمدينة طرابلس ومختلف القرى التابعة لها وافتتاح مدرسة للفنون والحرف. فضلًا عن ذلك حافظ علي رضا على محافظة فزّان من أطماع فرنسا الاستعمارية، وسعى للصلح بين قبائل الطوارق.
لم يكن علي رضا قائدًا عسكريًا وسياسيًا فقط، بل كانت له كتابات ومؤلفات، فبعد وفاته عام 1876 صدر له كتاب “مرآة الجزائر”، باللغة العثمانية (اللغة التركية القديمة)، تناول فيه تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني (1515-1830)، والمقاومة الشعبية ضد المحتل الفرنسي بين عامي 1830 و1847، حسب مراجع تاريخية، كما صدر لعلي رضا أيضًا، مؤلف بعنوان “تذكارات من رحلة إلى قسنطينة” باللهجة المحلية الجزائرية، وتمت ترجمته إلى اللغة الفرنسية.
هذه الشخصيات المنسية أو المُهمَلة بقصد أو دون، ساهمت في تطور الجزائر خلال العهد العثماني، في مجالات عدة منها العسكري والثقافي والديني، حتى أصبحت الجزائر مركزًا مهمًا في شمال إفريقيا.