دائمًا ما يُبشر الرئيس التونسي قيس سعيد ببدء مرحلة تاريخية جديدة دون أن نرى جديدًا غير مشروعه الشخصي الذي تتوسع دائرة معارضته، حتى ممن كانوا يمسكون العصا من المنتصف مع تأكيد اتحاد الشغل أخيرًا بأنه “لن يمشي في الظلام”.
لذلك ما قد يبدو جديدًا هذه المرة، هو بداية إرهاصات غضب شعبي أوسع، مع بروز تحالفات بدأت عمليًا في الظهور، وقد تتبلور بشكل أكثر تأثيرًا وتنظيمًا مستقبلًا، ستدفع في اتجاه مسار تعديلي يستوعب أخطاء الماضي ويحاول تدارك المأزق الحاليّ مع شعور جميع الكيانات بالتهديد في وجودها، والتحرك على قاعدة رفض وضع ما قبل 25 يوليو/تموز وما بعده، نحو قاسم مشترك عقلاني وواقعي، يبنى على الثوابت وأولها العودة إلى دستور 2014، بعد أن اتضح أن المسار الديمقراطي في البلاد غير محفوظ، رغم نفي تعطيل الدستور في الاتصال الهاتفي الأخير لسعيد مع وزير الخارجية الأمريكي، وشدد على أنه علق أعمال المجلس النيابي مؤقتًا إلى حين زوال “الخطر الداهم” الذي تعيشه البلاد صحيًا وسياسيًا.
مشيرًا في ذات السياق إلى استفحال ظاهرة الفساد، بعد احتكاره السلطتين التنفيذية والتشريعية، ومحاولة الاستحواذ على السلطة القضائية وتعطيل المجلس الأعلى للقضاء بحجة الفساد وتعطل العديد من الملفات المنشورة في المحاكم.
الترقب.. سيد الموقف
دخلت تونس الشهر الخامس منذ الانقلاب السياسي الدستوري الذي لا يزال يعصف بتجربتها الاستثنائية في العالم العربي وربما المتوسطي، وما زالت التهديدات التي تشهدها الديمقراطية الفتية على حالها، وسط محيط سياسي واقتصادي متأزم، وبدء بوادر إرهاصات لغضب اجتماعي عارم قد يُطيح بالسابق واللاحق، ويُرديها في ما لا يُحمد عقباه، لولا أن الرأي العام التونسي في جزء كبير منه، وخاصة النخبة السياسية والنقابية والأكاديمية، له رأي آخر لما يحدث في البلاد، فأغلب الطيف السياسي شدد منذ البداية على أن ما فعله سعيد من إعلان الأحكام الاستثنائية ثم القانون المنظم للسلطات العمومية وإعلان المرسوم 117، ليس إلا بداية تشكل ديكتاتورية ناشئة بدأت مضامينها واضحة للعيان.
واليوم، يُحفظ لوجوه ديمقراطية وشخصيات اعتبارية ووطنية، تصديها منذ البداية وصدعها بمواقفها الصريحة ضد خطوة الرئيس قيس سعيد الالتفافية على الدستور ليلة 25 يوليو/تموز، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي من فرنسا، والسياسي المناضل نجيب الشابي الذي كان من أشد معارضي نظام بن علي قبل الثورة، وكذلك أستاذ القانون المعروف عياض بن عاشور الذي يكاد يكون من أوائل الدستوريين المختصين الذين نبهوا إلى خطورة الخرق، وغيرهم ولو بدرجات، من الوجوه الديمقراطية والعلمانية.
كذلك رغم صدح عدد من الأحزاب – النهضة وقلب تونس – منذ البداية برفض ما فعله سعيد واعتباره انقلابًا على الديمقراطية والدستور، اختارت أغلبية الطيف الحزبي والسياسي في البداية ترقب الأوضاع وانتظار المدة الزمنية الأولى التي حددها سعيد بشهر.
بينما سارعت بعض الدكاكين الحزبية الصغيرة التي لا ترتقي إلى مستوى الحزيبات، لا سيما من أقصى اليسار والقومية إلى الترحيب بالانقلاب على رأسهم “حركة الشعب” الممثلة في البرلمان التي كانت المساند الرسمي لكل قرارات قيس سعيد منذ انتخابه سنة 2019، بل كانت جزءًا مهمًا من الأزمة منذ أن بدأت تطل برأسها خلال مفاوضات حكومة إلياس الفخفاخ.
في الوقت الذي ساند فيه اتحاد الشغل، المكون مكتبه التنفيذي من أغلبية يسارية وقومية، إجراءات الرئيس الاستثنائية منذ البداية بشكل مطلق وقال إنه يثق فيها، لا بل اعتبرها خروجًا من الأزمة.
أهم تشكيل سياسي تكون ضد انقلاب الرئيس، هو مجموعة “مواطنون ضد الانقلاب” التي بدأت كحراك احتجاجي مدني
كذلك فعل حزب التيار الديمقراطي الذي ساند الخروج عن الدستور، عبر مباركته ما فعله الرئيس رغم تردده في البداية والتعبير عن مخاوفه من الخروج عن ظاهر نص الفصل 80 من الدستور.
استفاقة متأخرة وتحالفات جديدة
بعد انقضاء مُهلة الشهر ودخول البلاد في حالة من الانسداد مع غموض مواقف الرئيس وتواصل خطاباته المتشنجة، لا سيما بعد إعلانه المرسوم “117” الذي عطل من خلاله أغلب أبواب وفصول الدستور، إلى جانب تواتر البيانات الدولية التي تدعو سعيد إلى ضرورة العودة إلى المسار الديمقراطي، وفتح قنوات حوار سياسي جاد مع جميع الأطراف، بدأت أغلبية الأحزاب سواء الممثلة في البرلمان وغير الممثلة فيه، في التحرك تعبيرًا عن رفض الأمر الواقع والدعوة إلى توضيح الرؤية السياسية للمرحلة القادمة، وخاصة مطالبة الرئيس بتسقيف زمني لمرحلة “الأجل غير المسمى”.
ورغم أن بعض هذه الأحزاب تصرفت من منطلق الانتهازية السياسية والإيديولوجية لتسجيل نقاط ضمن حسابات سابقة، وليس من باب المبادئ الديمقراطية والتقييم الجدي للمرحلة دون صبيانيات سياسوية، فإن بداية تحالفات جديدة تشكلت وبدأت تخرج من حالة الاستحياء التي كانت ترغب في حشر ما يسمى “الإسلام السياسي” في الزاوية، للتعبير عن رفض سياسي وحزبي واسع للحالة التي دخلتها البلاد بعد إجراءات 25 يوليو/تموز، خاصة من تلك الأحزاب التي كانت منذ البداية تعارض الحزام السياسي لحكومة الفخفاخ والمشيشي.
وكانت أهم هذه التحالفات تحالف أحزاب التيار الديمقراطي الذي غير موقفه وأصبح معارضًا لإجراءات سعيد بعد 22 سبتمبر/أيلول والمرسوم 117، والحزب الجمهوري والتكتل وآفاق تونس، فقد أعلن هذا الرباعي تكوين جبهة ديمقراطية ضد توجهات الرئيس سعيد في ندوة صحفية بالعاصمة، وبعد اتصالات ومشاورات مع أحزاب أخرى وكذلك منظمة الشغيلة.
إلى جانب تحالف الحزب الشعبي الجمهوري وحراك تونس والإرادة وحركة وفاء وحزب المحبة، وأصدروا بيانات تنديد ضد الانقلاب منذ الأسابيع الأولى، إضافة إلى معارضة أحزاب أخرى منفردة على غرار حركة أمل وعمل، التي يترأسها النائب ياسين العياري، وذلك دون اعتبار أحزاب ونواب الائتلاف الحاكم الذي أسقطته إجراءات سعيد، وهم تحديدًا النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة.
غير أن أهم تشكيل سياسي تكون ضد انقلاب الرئيس، هو مجموعة “مواطنون ضد الانقلاب” التي بدأت كحراك احتجاجي مدني، ثم أصبحت تحمل اسم “المبادرة الديمقراطية” وتطرح حلولًا للخروج من المأزق، من خلال تنظيمها مسيرات كبيرة على مدى الأشهر الثلاث الأخيرة ضد الرئيس سعيد، مطالبة بعزله كان آخرها يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، وهي تجمع عدد من الشخصيات السياسية المستقلة، وعدد من النواب انضم إليهم مؤخرًا المستشار السابق للرئيس سعيد ومدير ديوانه الرئاسي عبد الرؤوف بالطبيب، الذي تحول إلى خصم سياسي ومعارض يطالب سعيد بالرجوع إلى الشرعية.
المنظمة الشغيلة.. يد تعارض ويد تعانق
بعد إعلان سعيد تجميد المجلس النيابي وتعليق عمل الحكومة، اتجهت كل الأنظار نحو اتحاد الشغل كمنظمة قوية ولها وزنها وتاريخها في البلاد، إلا أن المنظمة لم تخيب ظن الانقلابيين وساندت ما فعله سعيد منذ البداية نظرًا إلى حسابات سياسية وإيديولوجية لمكتبها التنفيذي، فأغلب قادة المنظمة من أقصى اليسار من بقايا الأحزاب الشيوعية ومن التيار القومي، وقلة قليلة من العاشوريين الذين ينتسبون لأحد مؤسسي ورواد العمل النقابي في تونس الحبيب عاشور.
بيد أنه بعد أشهر من الانتظارات وتفاقم حالة الغموض والضبابية واستفحال الأزمة الاقتصادية دون أفق وحلول ممكنة، بدأ الاتحاد يتململ ويعلي صوته ويغير مواقفه ومواقعه، فعاد أمينه العام نور الدين الطبوبي للعلن مجددًا، وهو يحذر من الوضع الذي باتت عليه البلاد.
كما تواصل الاتحاد مع عدد من الأطراف والأحزاب السياسية للتشاور بخصوص الأزمة، كذلك، رغم رفض الاتحاد، مع عدد من الأحزاب المساندة للانقلاب، بدايةً قبول دعوة أعضاء الكونغرس الأمريكي الذين أدوا زيارة رسمية إلى تونس في أول شهر سبتمبر/أيلول، بعد شهر أي مع بداية أكتوبر/تشرين الأول استقبل السفير الفرنسي في إطار التشاور بشأن الأوضاع العالقة، ثم بداية الشهر الحاليّ استقبل السفير الأمريكي.
لكن التحول الأكبر في مواقف المنظمة الشغيلة يأتي أيضًا على لسان أمينها العام الطبوبي، فقد رفض صراحة مساندة القيادة النقابية الكاملة والمطلقة لقيس سعيد بعدم قبولها السير في الظلام، وقبل ذلك استقبل الطبوبي قيادات سياسية وحزبية مناهضة لانقلاب سعيد.
وهو ما يعتبر تغيرًا واضحًا في إستراتيجية تعامل المنظمة الشغيلة مع أزمة البلاد، منهم أمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي الذي صرح أن الاتحاد يعتبر اليوم في المعارضة.
كما بدا الطبوبي معارضًا لقيس سعيد عندما طالب مؤخرًا الدولة باحترام تعهداتها تجاه تنفيذ القانون 38 لتشغيل من طالت بطالتهم، الذي وقعه قيس سعيد ثم اعتبره مجرد أوهام، أيضًا دعا الطبوبي إلى ضمان حق التظاهر السلمي في الجنوب بعد قمع مظاهرات عقارب بولاية صفاقس، ومع تهديد تنسيقية الكامور بتطاوين بالعودة إلى الاحتجاجات لتنفيذ تعهدات الحكومة السابقة بتشغيل نسبة من المعطلين عن الشغل.
آفاق لتحالفات جديدة
هذا المنحى التصاعدي للأحداث في تعاطي مختلف الحساسيات الحزبية أو الشعبية أو حتى الفردية مع الانقلاب بعد فراغه من أي مضامين ومع التذبذب النسبي في مواقف اتحاد الشغل كما سبق وذكرنا، قد تفتح الآفاق نحو قيام مبادرات لتحالفات سياسية جديدة تجمع عددًا من الوجوه والأحزاب المعروفة بمساندتها للمسار الثوري، وقد تجمع خصوصًا طيفًا سياسيًا معارضًا للانقلاب الدستوري، في شكل جبهة ديمقراطية معارضة، وفي ذات الوقت، معارضة للمنظومة القديمة التي وقع عليها الانقلاب، التي كانت بدورها من ضمن المشهد السياسي المسؤول عن الأزمة الماضية والراهنة، أو حتى بإعادة تموضع لقيادات محسوبة على أحزاب سابقًا.
وقد سبق وأن وُلدت تجارب مثل الجبهة الديمقراطية في سبتمبر/أيلول المنقضي، إضافة إلى تأسيس تحالف مدني شبابي يدعو لحل الأزمة السياسية ورفض احتكار السلطات مع العودة إلى الدستور والدعوة إلى تنظيم انتخابات عامة مبكرة.
وأخيرًا وليس آخرًا، وفي انتظار ارتفاع وتيرة هذا الزخم أكثر، شهدنا ولادة تحالف مدني يوم أمس أصدر بيانًا رفض فيه جر البلاد إلى المجهول وعسكرتها، مع النضال السلمي لاستعادة النسق الدستوري الطبيعي.
كما أنه من المنتظر أن يعود إلى البلاد الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، الذي صدرت في حقه بطاقة جلب دولية من الإنتربول بعد اتهامه بالخيانة بسبب تحريضه على عدم إقامة منتدى الفرنكوفونية في تونس.
بالتالي، مئة يوم على الانقلاب كانت كافية لظهور زخم شعبي كبير ومتراكم ومنظم يوازيه تأرجح لسلطة الانقلاب وبقيت كالمعلقة، مع قرب موعد 17 ديسمبر/كانون الأول الذي يصادف احتفالات ذكرى الثورة التونسية، وهو ما يعني أن المشهد السياسي التونسي سوف يكون متغيرًا ومتحركًا الأسابيع القادمة ومفتوحًا على العديد من الأحداث والسيناريوهات، خاصة المفاجآت التي عُرف بها التونسيون حتى في انتخابهم لقيس سعيد نفسه، في سابقة لرئيس مستقل وغير متحزب.