تخوض الجزائر اليوم أول انتخابات محلية بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019 الذي أحبط محاولة الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة الترشح لولاية رئاسية خامسة، وهي الاستحقاق الذي تقول السلطة إنه المرحلة الأخيرة في عملية تطهير المجالس المنتخبة من بقايا النظام الذي حكم البلاد طيلة 20 سنة الماضية، ورسخ سلوكيات سوء التسيير والفساد في مختلف المستويات، ومن بينها البلديات والولايات.
ورغم أن الانتخابات الحاليّة لم تشهد حملة انتخابية لافتة في بعض الولايات كما كان يحدث في السابق، فإنها تظل تشد اهتمام الجزائريين، خاصة بالمناطق الداخلية والنائية، كونها تتعلق بالمسؤول المباشر للمواطن.
آخر خطوة
تشكل الانتخابات المحلية المسبقة التي كان من المفترض أن تجري في 2022 آخر استحقاق في عملية الإصلاح السياسي التي وعد بها الرئيس عبد المجيد تبون بعد وصوله للسلطة في رئاسيات 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، التي تمثلت في تعديل الدستور في الفاتح من نوفمبر/تشرين الأول 2020، وبعدها الانتخابات التشريعية في 12 يونيو/حزيران الماضي.
وبانتخاب مسؤولين محليين جدد، تقول السلطة الجزائرية إنها استجابت لملايين الجزائريين الذين خرجوا في مسيرات حراك 22 فبراير/شباط 2019، الذين طالبوا بالتغيير الجذري وإنهاء الممارسات التي جثمت عليهم طيلة العقدين الماضيين.
وبالنسبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، فإن استكمال تجديد مختلف المجلس المنتخبة هو تجديد لمؤسسات الدولة وبداية إعادة الهيبة لها، بعدما ضاعت في السنوات الفارطة بسبب فساد رؤساء البلديات وامتزاج المال بالسياسة.
ويأتي انتخاب رؤساء البلديات في ظل قانون انتخابات جديد يعمل على الحد من تزاوج المال بالسياسة، الذي كان محل انتقاد العديد من الأحزاب التي اشتكت من الشروط المشددة التي وضعت لترشيح ممثليها.
تحاول السلطة من جديد بهذا الاقتراع النجاح في اختبار إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة بعيدة كل البعد عن مظاهر التزوير
وبالنسبة للحكومة، فإن أهم اختبار في الانتخابات المحلية يكون بإفراز صندوق الاقتراع رؤساء بلديات يضعون حدًا للملاحقات القضائية التي طالت الكثيرين منهم في العهدة البلدية المنقضية.
وتحاول السلطة من جديد بهذا الاقتراع النجاح في اختبار إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة بعيدة كل البعد عن مظاهر التزوير التي التصقت بالعملية الانتخابية في الجزائر في السنوات العشرين الماضية.
وأكد رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي، الخميس الماضي أن “الجزائر الجديدة” تبنى على الاختيار الحر للشعب لمن يمثله في المجالس المنتخبة، مطمئنًا الناخبين بأن أصواتهم في الانتخابات المحلية أمانة وستكون محفوظة.
حملة باهتة
بخلاف ما كان يحدث في الانتخابات المحلية السابقة، لم تشهد الحملة الانتخابية الحاليّة شدًا للأنظار من المواطنين أو الصحفيين كما كان يحدث في السنوات الماضية، بل إن بعض المدن خاصة الكبرى منها كالعاصمة الجزائر بدت في الأيام الماضية كأنها غير معنية بالانتخابات، إذا استثنينا تجمعات الأحزاب وصورهم المعلقة في مختلف اللافتات التي وضعتها البلدية، وفي بعض مكاتب مندوبياتهم الانتخابية.
وغاب في هذه الحملة الانتخابية الصخب والتنافس الذي كان يصل حد الملاسنة والشجار بين مختلف الأحزاب سابقًا، خاصة بين حزبي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة: جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وذلك بسبب غلق السلطة لحنفية توزيع الأموال بلا رقيب ولا حسيب على المترشحين المحسوبين عليها، وكذا الإقصاء من الترشح الذي مس العديد من المناضلين التابعين لهذين الحزبين، وبالخصوص رؤساء البلديات السابقين بسبب متابعتهم قضائيًا بتهم فساد.
بدورها، لم تعط الصحافة المحلية اهتمامًا كبيرًا للحملة الانتخابية، باستثناء وسائل الإعلام الحكومية الملزمة ببث نشاط الأحزاب وخطابات المترشحين يوميًا، وفق ما ينص عليه قانون الانتخابات.
وحاول بعض المترشحين تغطية عدم اهتمام وسائل الإعلام الخاصة باللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي لدعم برامجهم ومغازلة الناخبين، وذلك بعدما تجاهلت معظم القنوات التليفزيونية الخاصة هذا الحدث بعدم استضافتها رؤساء الأحزاب، وعدم تخصيص برامج تناقش الخطاب الدائر في الحملة الانتخابية.
تحدي المشاركة
تشير أرقام السلطة المستقلة للانتخابات في الجزائر إلى أن عدد قوائم المرشحين الخاصة بالمجالس الولائية بلغ 1158 قائمة عبر 58 ولاية، التي شهدت سيطرة حزبية بـ877 قائمة مقابل 281 قائمة للمستقلين، أما المجالس البلدية، فقد شارك فيها 40 حزبًا قدم 4860 قائمة، فيما قدم المستقلون 988 قائمة.
ورغم أن أكثر من 23.7 مليون جزائري معني بالتصويت في انتخابات اليوم، لاختيار من يمثله في المجالس البلدية والولائية، فإن شبح المقاطعة يظل يشكل هاجسًا للسلطة والأحزاب معًا، التي تأمل في عدم تكرار سيناريو العزوف الذي ميز الانتخابات التشريعية الماضية التي سجلت أقل مشاركة في تاريخ الانتخابات في البلاد بنسبة لم تتعد 23%، وبمقاطعة 18 مليون ناخب للاستحقاق البرلماني.
ولا يستبعد مراقبون أن يتكرر مشهد المقاطعة الانتخابية في اقتراع السبت، بالنظر إلى ضجر الجزائريين وبالخصوص الشباب من كل ما هو سياسي سواء كان مصدره السلطة أو المعارضة، رغم أن الانتخابات الحاليّة ستعرف مشاركة أحزاب قاطعت استحقاق 12 يونيو/حزيران الماضي.
شددت مختلف الأحزاب السياسية على ضرورة توسيع صلاحيات المنتخب المحلي، ممثلًا في رئيس البلدية قصد التمكن من القيام بالمهمة المنوط بها
ويشارك في الموعد الانتخابي الحاليّ أقدم حزب معارض في البلاد جبهة القوى الاشتراكية “الافافاس” الذي له قاعدة نضالية واسعة بمنطقة القبائل المعروفة بعزوفها الانتخابي، إضافة إلى مشاركة حزب العمال الذي قاطع هو الآخر الانتخابات التشريعية الماضية.
أما حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية فقد تمسك بموقفه الراديكالي وقرر عدم المشاركة في الانتخابات الحاليّة، غير أن مشاركة غريمه الافافاس تجعل مقاطعته دون تأثير، خاصة أن لجوء أنصاره وتنظيم “ماك” إلى العنف لمنع الناخبين من التوجه إلى صناديق الاقتراع كما كان يتم سابقًا، أصبح مستبعدًا بعد تشديد العقوبات على من يمنعون المواطنين من تأدية واجبهم الانتخابي، وكذا بعد تصنيف حركة الماك ضمن الجماعات الإرهابية.
غير أن الطابع الذي تتميز به الانتخابات المحلية، خاصة بالنسبة للمجالس البلدية التي تمثل السلطة المعنية مباشرة بحياة المواطن، وخضوعها أيضًا لاعتبارات عشائرية وعصبية هي عوامل قد تمكن من رفع نسبة المشاركة في الاستحقاق والتقليل من حجم الصائمين عن التصويت.
قضية صلاحيات
خلال الحملة الانتخابية، شددت مختلف الأحزاب السياسية على ضرورة توسيع صلاحيات المنتخب المحلي، ممثلًا في رئيس البلدية قصد التمكن من القيام بالمهمة المنوط بها، ووضع حد للفساد الذي شهدته العديد من الإدارات المحلية.
وقال مدير الهيئة الانتخابية لحركة البناء الوطني عبد الوهاب قلعي: “من الضروري بعث الدور التنموي لرئيس البلدية وإنهاء مركزية القرار وبيروقراطية الإدارة التي تعتبر أهم العراقيل التي تواجه التنمية المحلية”.
ودعا قلعي إلى “وجوب إعادة النظر في الدوائر وتقليص صلاحيات رؤسائها، باعتبارها المعرقل الحقيقي لمهام رئيس البلدية ومختلف المشاريع المحلية”.
وبسبب قانوني البلدية والولاية الحاليّين، يفشل رئيس البلدية في الغالب في تنفيذ أي برنامج يحاول تطويره محليًا، بسبب خضوع تحركه لسلطة مسؤولين معينين متمثلين في رئيس الدائرة والوالي (المحافظ).
تراهن الحكومة من خلال مراجعة قانون الضرائب على رفع عائدات الجباية المحلية والخزينة العمومية، وهو الهدف الذي تضمنه برنامج الرئيس تبون
وتعترف الحكومة الجزائرية بوجود نقائص في قانون البلدية، لذلك قام الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمان في 5 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، بتنصيب ورشات مراجعة قانون البلدية وقانون الولاية، التي ستقدم عملها للحكومة قبل نهاية العام الحاليّ، أي بعد شهر من الانتخابات الحاليّة.
وأكد الرئيس تبون في مقابلة تليفزيونية الجمعة عشية الانتخابات المحلية أن القانون الجديد سيعرف “تغييرًا جذريًا“، بحيث سيتم منح صلاحيات أوسع للمنتخبين، وقال تبون: “الصلاحيات دون إمكانات لن يكون لها معنى، لذلك ستتم مراجعة قانون الضرائب”.
وتراهن الحكومة من خلال مراجعة قانون الضرائب على رفع عائدات الجباية المحلية والخزينة العمومية، وهو الهدف الذي تضمنه برنامج الرئيس تبون.
ورغم التغييرات التي طرأت على قانون الانتخابات وينتظر أن تمس قانون البلدية، فإن تحقيق التنمية المحلية المرجوة تبقى مؤجلة برأي كثيرين، لأن صناعة رئيس البلدية الذي يمثل السلطة المباشرة للدولة مع المواطن تبقى حتى اليوم رهينة العصبية الضيقة والعشائرية التي ما زالت تهزم أي عامل آخر يحاول أن يكون سببًا في فوز أي مترشح بالانتخابات المحلية.