دخل التوتر الحدودي بين السودان وإثيوبيا نفقًا جديدًا من التصعيد إثر هجوم شنته القوات الإثيوبية في منطقة الفشقة الحدودية المتنازع عليها، أسفر عن مقتل 6 عسكريين داخل صفوف الجيش السوداني، حسبما نقلت “رويترز” وبعض المواقع الصحفية المحلية، عن مصادر عسكرية سودانية.
الجيش السوداني في بيانه قال إن قواته التي تعمل على تأمين الحصاد بالفشقة في منطقة بركة نورين، تعرضت لاعتداء من ميليشيات إثيوبية استهدفت ترويع المزارعين بهدف إفشال موسم الحصاد والتوغل داخل الأراضي السودانية، وأضاف البيان “تصدت قواتنا للهجوم بكل بسالة، وكبدتهم خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، واحتسبت القوات المسلحة عددًا من الشهداء”.
يأتي هذا التصعيد في وقت تشهد فيه الساحة الإثيوبية نزاعًا مسلحًا هو الأخطر منذ عقود، فقد اقتربت قوات التيغراي من العاصمة أديس أبابا، الأمر الذي يضع مستقبل حكومة آبي أحمد على المحك، ما أثار الكثير من التساؤلات عن فتح جبهة جديدة للصراع مع السودان في هذا التوقيت ودوافع هذه الخطوة التي ربما تشتت تركيز وقوة الجيش الإثيوبي الذي يتعرض لهزائم قاسية على أيدي المتمردين خلال الآونة الأخيرة.
آبي أحمد في مأزق صعب
تلقى الجيش الإثيوبي النظامي وحكومة آبي أحمد العديد من الهزائم على أيدي جبهة التيغراي التي باتت على بعد أقل من 200 كيلومتر من العاصمة، وسط حشد غير مسبوق لقوات الجيش النظامي من أجل التصدي للهجمات المتوقعة والزود عن معقل الحكم في البلاد.
التطور الأبرز في هذا المسار كان إعلان آبي أحمد ارتداءه بزته العسكرية والانضمام لصفوف الجيش في مواجهة مقاتلي الجبهة، ودعواته المستمرة لأبناء وطنه بالزود عن عاصمة بلادهم، محذرًا من أن التخاذل عن الدفاع عنها سيوقع بلاده في آتون “الانهيار” على حد قوله.
يبدو أن رهانات رئيس الحكومة التي كان يستند عليها خلال العامين الماضيين في التصدي لمثل تلك الأزمات قد خارت سريعًا، سواء كان تحالفه مع إريتريا والرئيس أسياس أفورقي عقب اتفاق السلام المبرم بين البلدين في 2018، في مواجهة الجبهة، أم العزف على وتر الاقتصاد كعامل محوري في ضمان حضوره الجماهيري والتفاف الشعب حوله، خاصة بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام.
سياسة رئيس الحكومة الإقصائية كانت عاملًا مهمًا في سحب البساط من تحت أقدامه في معركة التصدي للتيغراي، وصل الأمر إلى انسحاب قومية والده، الأورومو، من دعمه، بعدما مال ناحية القومية الأمهرية التي تنتمي إليها والدته، وهو ما دفع تيارًا كبيرًا من الأوروميين إلى الانصمام لجبهة التيغراي.
وأمام النجاح الذي حققه مقاتلو التيغراي منذ يونيو/حزيران الماضي، وقدرتهم على استعادة السيطرة على معظم أجزاء الإقليم والاقتراب من العاصمة، كل هذا أسال لعاب عدد من الجماعات المسلحة التي انضم بعضها للجبهة في تمردها ضد الحكومة، فيما يتوقع أن ينضم آخرون خلال الأيام القادمة.
بينما كان يفترض أن يركز آبي أحمد جهوده على ميدان المعركة مع التيغراي وحلفائهم من الجماعات المسلحة، إذ به يفتح جبهة جديدة للنزاع الحدودي مع السودان، عبر استهداف غير مبرر، زمنيًا وظرفيًا
اليوم لم تعد التيغراي تلك الجبهة المتمردة التي تقاتل الجيش الإثيوبي بمفردها، لكنها استطاعت توظيف فشل الحكومة في تعزيز تحالفاتها، فانضمت لها عدد من العرقيات، فضلًا عن بعض الجماعات المسلحة أبرزها “جيش تحرير أورومو” و”الحزب القومي الديمقراطي العفري” و”الحركة الشعبية لتحرير بني شنقول” و”الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين”.
وإزاء هذا التطور أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، منتصف الأسبوع الماضي أنه سيتوجه إلى جبهة القتال من أجل قيادة جنوده الذين يقاتلون ضد الجبهة – التي استطاعت توحيد خصوم رئيس الحكومة تحت راية موحدة -، مخاطبًا في بيان نشره على حسابه على “تويتر” ما أسماهم “أولئك الذين يريدون أن يكونوا من أبناء إثيوبيا الذين سيفتح التاريخ ذراعيه لهم” بأن يدافعوا عن بلدهم، قائلًا “لاقونا في الجبهة”.
جدير بالذكر أن الكثير من المتابعين للشأن الإثيوبي والإفريقي بصفة عامة، توقعوا مع وصول آبي أحمد لرئاسة للحكومة قبل 3 أعوام، أنه سيكون قادرًا على تبريد الأجواء الساخنة في البلد الإفريقي المشتعل بنيران القبلية، وفرض المزيد من الاستقرار الذي يساعد في الخروج من دائرة العنف التي لا تتوقف طيلة العقود الماضية.
لكن شهرًا تلو الآخر، جاء الواقع مغايرًا تمامًا لما كانت عليه التوقعات، فمنذ وصوله في أبريل/نيسان 2018 وحتى يوليو/تموز 2021، تصاعدت أحداث العنف بصورة كبيرة، فقد شهدت البلاد خلال تلك الفترة نحو 1628 حادثة، أسفرت عن مقتل نحو 13 ألف شخص في مختلف المدن والولايات.
الفشقة.. الورقة الأخيرة
وفي تلك الظرفية الجيوسياسية التي باتت عليها الدولة الإفريقية والتغير الواضح الذي شهدته خريطة التوازنات السياسية والعسكرية بعد التقدم الملحوظ لحلف جبهة التيغراي، رفض آبي كل المقترحات المقدمة، سواء من وسطاء الداخل أم الخارج، المتعلقة بتشكيل حكومة انتقالية لعبور تلك المرحلة الحرجة، مهددًا كل من يروج لمثل تلك المقترحات بالاعتقال، في إشارة واضحة على الإصرار في طريق المواجهة العسكرية.
وبينما كان يفترض أن يركز آبي أحمد جهوده على ميدان المعركة مع التيغراي وحلفائهم من الجماعات المسلحة، إذ به يفتح جبهة جديدة للنزاع الحدودي مع السودان، عبر استهداف غير مبرر، زمنيًا وظرفيًا، وهو ما يمكن قراءته من خلال حزمة من الأهداف التي يسعى رئيس الحكومة المرتدي البزة العسكرية تحقيقها من وراء تلك الخطوة.
أولًا: تجييش القوميات الإثيوبية من أجل الزود عن الوطن الذي يواجه تهديدات حدودية، الأمر الذي يتطلب تنحية أي خلافات سياسية من أجل التصدي لهذا الخطر، عبر الالتفاف حول القيادة السياسية للبلاد، وبهذا ينجح آبي أحمد في توسيع حاضنته السياسية الشعبية، بما يقوي موقفه في حربه ضد التيغراي، خاصة بعد تراجع معنويات جيشه إثر الهزائم المتتالية التي يتعرض لها.
يحاول آبي أحمد توظيف كل أوراق الضغط التي بحوزته لتعزيز موقعه داخل ميدان المواجهة مع التيغراي الذين باتوا على مشارف بضعة كيلومترات من العاصمة، يقينًا منه أنه في حال نجاحهم دخول العاصمة فإن المعادلة ستتغير بالفعل
هذه السياسة ليست بالجديدة على آبي أحمد، فقد لجأ إليها أكثر من مرة خلال الآونة الأخيرة فيما يتعلق بسد النهضة، حيث كان يوظف هذا المشروع توظيفًا سياسيًا من خلال التعبئة العامة والعزف على أوتار الشعبوية، لخدمة أجندات خاصة وطموحات داخلية، بعيدًا عن جدوى المشروع برمته.
ثانيًا: تحذير السودان من التحالف مع التيغراي.. وهنا رسالة تحذير غير مباشرة تبعث بها الحكومة الإثيوبية للسلطات السودانية بتجنب التحالف مع المتمردين، خاصة في ظل العلاقات الدافئة بين زعماء الجبهة والسودانيين من جانب، ومساعي التيغراي توسيع دائرة تحالفاتهم الداخلية والإقليمية من جانب آخر.
ولأجل هذا الهدف تصعد أديس أبابا ضد الخرطوم بين الحين والآخر، في محاولة لجعلها تحت ضغط بصورة دائمة، ما يدفعها لتوخي الحذر إزاء أي تحالف مع مقاتلي الجبهة، يذكر أنه في سبتمر/أيلول الماضي اتهمت إثيوبيا السودان بالضلوع وراء محاولة هجوم – وهمية – على سد النهضة.
الرسالة التحذيرية هنا لا تقتصر على السودان فقط، بل تشير إلى أطراف أخرى لم تسمها أديس أبابا، وإن كانت تلمح إلى مصر، إذ إن هناك هواجس إثيوبية قديمة بشأن تورط القاهرة في إشعال التوتر الحدودي بين السودان وإثيوبيا، بجانب دعم عسكري ولوجستي تقدمه مصر للمتمردين المناهضين لحكومة آبي أحمد على خلفية تباين وجهات النظر إزاء مفاوضات سد النهضة.
ثالثًا: ابتزاز المجتمع الدولي.. فتح أكثر من جبهة نزاع مسلح في نفس الوقت يحمل مضامين غير معلنة تشير إلى امتلاك أديس أبابا لأكثر من ورقة ضغط يمكن توظيفها لابتزاز المجتمع الدولي والضغط على القوى الإقليمية لدعم الحكومة في مواجهة المتمردين.
كثير من قوى العالم ذات التأثير والثقل السياسي لها مصالح كبيرة في وسط القارة الإفريقية، وفي ظل الدور الذي تلعبه إثيوبيا قاريًا، فإن تهديد أمنها واستقرارها سيضع مصالح تلك الدول على المحك، وهو الوتر الذي يعزف عليه آبي أحمد بين الحين والآخر للحصول على المؤازرة الدولية ضد أي تهديدات تتعرض لها حكومته.
وهكذا يحاول آبي أحمد توظيف كل أوراق الضغط التي بحوزته لتعزيز موقعه داخل ميدان المواجهة مع التيغراي الذين باتوا على مشارف بضعة كيلومترات من العاصمة، يقينًا منه أنه في حال نجاحهم دخول العاصمة فإن المعادلة ستتغير بالفعل، وحينها قد لا يجد رفاهية القبول والرفض التي يحياها الآن.. فهل ينجح في إستراتيجيته تلك؟