“سيأتي يوم في المستقبل نجدُ ملفات سوريا حُذفت من الإنترنت وغير متاحة للاستفادة منها، لأن جيشًا إلكترونيًّا كبيرًا عملَ على إخفاء تلك المواد، لكن أرشفة هذه الملفات ستُنهي أحلام نظام الأسد في محو انتهاكاته لأبناء سوريا”.
هذا ما قاله الشاب تامر تركماني الذي أرشف ووثّق ما يزيد عن 2.4 مليون فيديو من موقعَي يوتيوب وفيسبوك، وأكثر من 200 ألف مقال صحفي من مواقع تكتب عن الثورة وسوريا، كما أرشفَ ما يزيد عن 150 ألف صورة متنوِّعة، وأيضًا عمل على توثيق أغلب الانتهاكات بالمراكز الحيوية في سوريا، أهمها المشافي الميدانية والمراكز الطبية والمساجد والكنائس والمعابد والمدارس والمتاحف ومراكز الدفاع المدني.
عمل توثيق فردي
لم يستثنِ تركماني توثيق عدد كبير من الدراسات والأبحاث التي تخصُّ الثورة السورية الصادرة عن مراكز الأبحاث والدراسات العربية، بالإضافة إلى المجلات الإلكترونية.
لكن التوثيق لم يبدأ الآن فقط، بل منذ عام 2014 عندما عملَ تركماني بشكل فردي على توثيق شهداء الثورة السورية والمجازر التي يقوم بها نظام الأسد وكل الأطراف الفاعلة آنذاك، حيث يقول: “كانت المهمة جمع معلومات عن الشهيد مع صورته، وإن وُجد مقطع فيديو سيكون أفضل للتوثيق، ثم بدأت أجمع ملفات الشهداء وووثائق المجازر من موقع يوتيوب”.
الجيوش الإلكترونية تحذف الانتهاكات
لاحقًا، لاحظ تركماني عام 2017 أن الكثير من قنوات يوتيوب التي زارها في السابق اختفت وحُذفت، بحجّة “انتهاك سياسة يوتيوب، وأنها تحتوي مشاهد صادمة”، فأدرك تركماني أن مهمة جديدة يقوم بها نظام الأسد والجيش الإلكتروني التابع له وروسيا لمحو أدلة الإجرام والقتل.
كل ذلك قادَ تركماني إلى تحويل المشروع إلى موقع إلكتروني يضمُّ مئات الآلاف من الملفات عن الثورة السورية، يستفيد منها الجميع، خاصة طلاب الجامعات والصحفيين والمراكز الإعلامية.
كما أن التوثيق خدمَ بعض المراكز السورية العاملة في ملاحقة مجرمي الحرب في أوروبا وأمريكا، في تأمين ملفات فيديو تدين النظام أو عن حادثة معيّنة يمكنهم الاستفادة منها كما يبيّن تركماني.
ما هو التوثيق؟
كيف يمكن أن يكون التوثيق أداة لإثبات الانتهاكات وفضحها؟ يجيب عن هذا السؤال الصحفي العراقي حسين دلّي، المتحدث باسم مركز أفاد، حيث يعتبر قضية التوثيق عنصرًا أساسيًّا ومركزيًّا في القضايا القانونية التي تروم فضح الجرائم، وإنفاذ العدالة وإرجاع الحقوق لأهلها والانتصار على المعتدين والفاسدين والمجرمين.
ويضيف دلّي أن “إثبات الجرم وكيفيته وزمنه ومكانه يعدّ أول مرحلة في تحديد شخص المعتدي ومقدار تورُّطه في انتهاكات حقوق الإنسان، وعليها تُبنى كل الأدلة، ومنها ينطلق القضاء في تحديد ما إذا كانت الجريمة والانتهاك يستحقان فتح التحقيق من عدمه”.
الأُسُس المهنية للتوثيق
لا يمكن أن تكون عملية التوثيق عشوائية، بل لها أُسُس مهنية يُستنَد عليها كما يبيّن دلّي، وهي:
1- الصورة أو الفيديو، وهما الدليل الرئيسي وينبغي أن يكونا واضحَين لا لبس فيهما، ويُظهِران صاحب الجرم ومكان الجريمة والمعتدى عليه، ويُسعى دومًا للتحقُّق من صدقيتهما وظروف التقاطهما أو تصويرهما، وهل تعرّضا لعملية مونتاج مع ضرورة الحرص على جودة جيدة للصوت والصورة، بل حتى التدقيق في الظرف المناخي الذي يحيطهما، بما يتيح الاستعانة به لتحديد تاريخ الصورة أو الفيديو.
2- الشهادات المصورة للضحايا أو ذويهم، فهي أبرز معين لعملية التوثيق، وينبغي الاحتراز من مبالغة بعض شهود العيان ومطابقة الشهادات مع بعضها.
3- منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه أوسع الأدلة لكن أكثرها خطورة، لعدم وجود ضوابط عند أصحاب الحسابات، وميل بعض الحسابات الوهمية أو التابعة لجهات معيّنة إلى بث الشائعات أو تشويه جهة بعينها.
4- حديث الجهات الرسمية كالمسؤول الحكومي والناطق الرسمي من باب “تنوع الآراء”، ولكن ينبغي عدم الاعتداد به كليًّا، بسبب ميل معظم التصريحات الرسمية إلى تبرئة الحكومة وأدواتها من التورُّط بالجرائم.
5- الاستعانة بتحقيقات المنظمات الدولية الرصينة غير المنحازة في دعم المنظمات الوليدة ومنها مرصد أفاد، والاستعانة بخبرة الحقوقيين والناشطين من ذوي الخبرة.
التحقُّق من الشهادات
على صعيد آخر، هناك طرق عديدة للتحقق من الشهادات بيّنها دلّي:
1- ضرورة التحقق من مصداقية صاحب الشهادة عبر المراسل الميداني القريب من موقع الحدث (الجريمة) كالقتل والاختطاف والتهجير.
2- مطابقة الشهادات مع بعضها، والاستعانة بتاريخ الحدث (إن كان متكررًا) وطبيعة الجهة المتورطة أو المتهمة بالجريمة، ومحاولة الوصول إلى جهات أمنية ذات مصداقية.
3- الاستعانة بالجهات الحقوقية والمنظمات الإنسانية الأخرى، في ظل صعوبة الوصول لكل بؤر الانتهاكات وسط تشظّي الحالة الإنسانية المأساوية في بلدان مثل العراق وسوريا واليمن.
يطبّق دلّي تلك الأُسُس المهنية في عملية التوثيق بمرصد أفاد العراقي، وقد ساهمت إجراءاته في “لفت الأنظار نحو ملفات كان يخشى الكثير من فتحها والتذكير بها، ما نجح بالوصول لمناطق عَجَزَ آخرون عن الوصول إليها”، كما يبيّن دلّي.
ويضيف أن أعضاء المرصد المؤسِّسين حرصوا على وضع معايير لإصدار بيانات أو حملات تعتمد على نوع الجريمة، والقدرة على الوصول إلى دوافعها وتفاصيلها بالشهادات المعتمدة من وثائق حكومية أو مقاطع فيديو، مع ضرورة أن يكون للمرصد سبق وصور خاصة به.
رغم كل ما يقوم به مرصد أفاد، إلا أنه لا يعوّل كثيرًا على “تدويل الجرائم الإنسانية” رغم أهميته في بعض الحالات، بسبب اعتقاده أن المجتمع الدولي متواطئ مع الحكومات القمعية في المنطقة المتلفّعة بزيّ الديمقراطية زورًا وبهتانًا بحسب وصفه، لكن مع ذلك، يقول دلّي، “توفِّر الجهات الحقوقية المادة الموثَّقة لمن يرى أن لديه القدرة على عرض الجرائم الإنسانية أمام الجهات القانونية الأممية لممارسة الضغط على بعض الحكومات والأجهزة القضائية التي تتستّر على كثير من المجرمين”.
التوثيق فعل مقاوم
“التوثيق شكل من أشكال مقاومة الفعل الراهن، فعل القهر والإحباط والقتل والترهيب من قبل الأنظمة، وهو ما يجعل عملية التوثيق استهدافًا مباشرًا لما تقوم به”، هكذا يختصر الباحث الفلسطيني علي إبراهيم في مؤسسة القدس الدولية ماهية التوثيق وفعلها في مواجهة الأنظمة المهترئة.
كما أن هذه الأنظمة تحتكر كل هوامش الفعل السياسي والمدني على حدّ سواء، ويكون توثيق الأحداث وما يتّصل بها من جرائم واعتداءات فعلًا “يكسر الرقابة التي تفرضها تلك الأنظمة، وخرقًا للفقاعة التي تريد أن تحجب عن العالم والرأي العام المتضامن أي أفعال تقوم بها هذه الأنظمة”، بحسب إبراهيم.
“1984”.. فلسطين
يستعير إبراهيم فكرة وزارة الحقيقة من رواية “1984” لجورج أورويل، حيث كانت مهمة الوزارة الخيالية أن تطوِّع كل ما يصدر من الصحف والمجلات والكتب لتكون مطابقة لرؤية وأفكار بل قرارات وأرقام “الأخ الأكبر”، وكانت تقوم بتحويل كل ما يتمُّ إصداره ليناسب “الحقيقة” التي يريدها النظام الحاكم، وهي صورة ديستوبية تريد الأنظمة الفاسدة أن تطبِّقها، ولكن عبر إلغاء التوثيق وحصر الرواية بما يصدر عنها “رسميًّا”.
ثم يقيس الباحث ما يحصل في الحالة الفلسطينية: “بعض الدول المطبِّعة التي تمتلك سجلّات حقوقية بالغة السوء، عملت على تغطية ما تقوم به بحقّ شعوبها مقابل الترويج لنفسها على أنها من دول “السلام والانفتاح”، ولو كان على دماء الفلسطينيين والتطبيع مع قاتلهم”.
بطء عمل المحاكم الدولية
رغم وجود القرائن والأدلة الدامغة، إلا أن بعض هذه المحاكمات تتطلب نحو 20 عامًا لإصدار حكم ما، لأن “أدوات العدالة الدولية بطيئة وغير فاعلة” كما يرى إبراهيم، وسببها وجود أنظمة فوق المحاسبة، على غرار التعامل الدولي مع جرائم الاحتلال، وأنظمة قمعية أخرى”.
ولأنه لا يمكن ترك الاحتلال الإسرائيلي في ضفة يشرعن فيها جرائمه وانتهاكاته، تقوم مؤسسة القدس بدورها الفاعل بالتوثيق على شكل تقارير ودراسات وأبحاث مختلفة، تتناول قطاعات ومضامين مختلفة، مثل تقرير “عين على الأقصى” السنوي، الذي يرصد تفاصيل واقع المسجد وخطط الاحتلال لاستهدافه سياسيًّا ودينيًّا وأمنيًّا، ويرصد أبرز المشاريع التي تنفّذها سلطات الاحتلال حوله وأسفله، إضافة إلى التفاعل معه.
أما تقرير حال القدس فهو أكثر شمولية، ويتناول إلى جانب المسجد الأقصى رصد هدم منازل الفلسطينيين ومشاريع الاستيطان، وقرارات الاحتلال التي تستهدف الوجود الفلسطيني وغير ذلك من المضامين، إضافة إلى أبحاث تتعلق بدقائق الأحداث على شكل ملفات المعلومات والرصد المباشر.
وتتبع المؤسسة آليات توثيق مختلفة كما يقول إبراهيم، فهي تصدر نشرة أسبوعية تحت عنوان “القدس في أسبوع”، التي ترسم صورة لما يجري في المدينة في أسبوع كامل، وتقدِّم القراءة رصدًا وافيًا لمختلف الأحداث والتطورات.
وإضافة إلى النشرة الأسبوعية، تتابع المؤسسة مختلف المراكز البحثية والجهات التي تصدر معطيات تتعلق بالقدس، وخاصة تلك المتعلقة بأرقام الاستيطان والاقتحامات وغيرها، في سياق الوصول للمعلومة الموثَّقة وإيصالها إلى صنّاع القرار.
مشروع الذاكرة السورية
“مشروع يساهم في تثبيت الذاكرة التاريخية وإحيائها، قائم على أُسُس علمية تضمن النزاهة والموضوعية والدقّة، وعمل على توثيق الأحداث يومًا بيوم منذ اندلاع الثورة، وأرشفة الوثائق والتقارير الدولية والمقاطع المسجّلة التي قام بها الناشطون والإعلاميون والمجالس المحلية والمؤسسات الإعلامية”، بهذا عرّف مدير مشروع “الذاكرة السورية” الدكتور عبد الرحمن الحاج المنصّةَ الجديدة لتوثيق أحداث الثورة السورية.
ويضيف الحاج أن وجود المعلومات وأرشيف الوثائق بأشكالها المختلفة لا يشكّل الرواية التي تمثل الهدف النهائي للذاكرة، من دون تنظيمها وتقديمها ضمن تسلسل زمني ورؤية عامة لحركة الأحداث، فقد قامت المؤسسة بأمرَين: “الأول تكوين منصة إلكترونية قادرة على الاسترجاع والاحتفاظ بالكرونولوجي (التسلسل التاريخي)، تعمل بمنطق الذاكرة الإنسانية الطبيعية في استدعاء الأحداث وربطها، فضلًا عن سهولة الوصول إلى أدق التفاصيل بأسهل الطرق؛ والثاني كتابة تاريخ الثورة نفسها بناءً على هذا الحجم الهائل من المعلومات الموثقة والمدققة”.
ويعتبر الحاج أن مشروعًا بهذا الحجم “تجربة غير مسبوقة”، فهو يقدِّم أحداثًا تفصيلية هائلة ووثائق مدققة خضعت لفحص وتدقيق مصحوبة بسياق تاريخي، بالإضافة إلى تاريخ شفوي كبير تمَّ تسجيله خلال سنوات.
التوثيق أداة لتحقيق العدالة الانتقالية
وكما يجد الحاج أن هذه التجرية ستتيح لمواطني الدول الأخرى القيام بمثلها، “لا شك أنها يمكن أن تستخدَم كأدلة في الكشف عن الجرائم، وبشكل خاص تلك التي لم تلقَ حظها من الاهتمام، والتحقيق في الانتهاكات وفي العدالة الانتقالية”.
ويتّفق الحاج مع الباحث علي إبراهيم باعتبار عملية التوثيق والحفظ للذاكرة من “أهم أسلحة مقاومة تزوير التاريخ، حيث إن دول الأزمات وأنظمة الحكم الفاسدة عدوّة الحقيقة، تسعى على الدوام لتزوير التاريخ ليناسبها، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن وجود أدلة ووثائق مدققة ومحققة بهذه الطريقة يتيح فرصة للباحثين عن العدالة استخدامها في المحاكم الدولية من دون شك”.
صحّة المصادر ومحتوى المواد
الباحث منقذ عثمان آغا في مشروع “الذاكرة السورية”، يفصّل آليات عملية التوثيق التي تبدأ من عملية التثبُّت من صحة المواد على مستويَين: “صحة المصادر الخاصة بالمواد، وصحة محتوى المواد نفسها. يعطي الفريق أولوية للحصول على المواد من المصادر الرسمية نفسها التي أنتجت هذه المواد، وفي حالة عدم توفرها إلا من مصادر ثانوية، فيتمُّ مقاطعة محتواها من مصادر متعددة ما أمكن ذلك”.
يتمُّ بعد ذلك إخضاعها لمراحل متعددة من المقاطعة مع المواد المحفوظة في الأرشيف سابقًا، ومجريات الأحداث على الأرض، ويتم إرفاق جميع المصادر والمراجع المتعلقة بكل مادة في الأرشيف، وذلك لإتاحة المجال أيضًا للباحثين والمستخدمين في المستقبل من التثبُّت من صحة المواد بأنفسهم.
وكما يبيّن عثمان آغا، إن مشروع “الذاكرة السورية”، الذي سينطلق قريبًا، يسعى إلى تشجيع عملية التفاعل الجماهيري مع المواد، وهو ما يتيح المجال لجميع المستخدمين من ترك تعليقات أو اقتراح تصحيحات على كل مادة بشكل منفرد، ما يساهم في سدّ أي فجوات قد لا تزال موجودة.
لا يقف مشروع “الذاكرة السورية” على توثيق جزيئات معيّنة من الثورة السورية، بل تميّز بـ”الشمولية” كما يبيّن عثمان آغا، وذلك في “تغطية كل ما يتعلق بالثورة السورية ابتداءً من الحراك المدني، والأعمال العسكرية، والانتهاكات، فضلًا عن توثيق جميع الكيانات والشخصيات المنخرطة بالثورة على المستوى المحلي والدولي، وحفظ شهادات الأشخاص ذوي الانخراط الأكبر في الثورة على جميع المستويات”.
إذن.. هل يساهم التوثيق في حفظ السردية التاريخية لثورات الشعوب بكل انتهاكاتها، كي تمثّل مرجعًا تستند عليه المحاكم الدولية في سبيل محاسبة مجرمي الحرب؟ أم سيبقى مرجعًا يعلوه الغبار يزوره من له ذكرى مؤلمة تحتضنه أوراقه؟