“سندويتشات خبز فارغة”، ظاهرة باتت تنتشر داخل المدارس الرسمية، فهذه “العروسة” الصغيرة باتت زوّادة الطالب طوال نهاره الدراسي، ما يكشف عن وضع معيشي صعب: مدارس رسمية تعجُّ بالتلاميذ، نقص كبير في الكادر التعليمي، جوع يضرب الطلاب وسط أزمة وإرباك غير مسبوقَين.
ترى بعض الأطفال يتوسّلون أصدقاءهم ممّن يحملون ساندويتش الجبن أو الزعتر لإعطائهم لقمة، حيث يروي كثير منهم أن ثلاجاتهم فارغة ولم يأكلوا منذ أيام، ومنهم لم يشبع من سندويتشته الفارغة.. جوع لم يعهده لبنان منذ عشرات السنين، فالأزمة اللبنانية يشتدُّ وطيسها مع مرور الأيام وأبرز ضحاياها اليوم طلاب المدارس.
للبنان تاريخ طويل مع المجاعة، لكن هذه المرة أبطالها ليسوا عوامل بيئية أو حروب، بل فسادًا سياسيًّا وأزمة اقتصادية بقيت دون حل وما زالت تتفاقم.
مظاهر العوز والجوع تحديدًا بين الأطفال ذكّرت بمجاعة لبنان الشهيرة، تلك المجاعة التي أدّت قبل قرن من الزمن إلى هلاك أكثر من ثلث سكانه، نتيجة حصار فرضته قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، وبفعل اجتياح الجراد الذي قضى على الأخضر واليابس، وتفشّي الأوبئة والأمراض في الشوارع والأزقة التي امتلأت بجثث الراقدين.
تنوّعت أسباب المجاعة يومها، بين العوامل السياسية والطبيعية والاجتماعية، إلّا أن النتيجة كانت واحدة: جوع وألم وموت، كأنه مكتوب على لبنان أن يعيش الويلات والمصائب عينها كل 100 عام.
بين عامَي 1914 و1918 عانى لبنان ويلات الحرب العالمية وأهوالها، إذ سُدّت طريق الاستيراد، فقلّت البضائع وخلت الأسواق من ضروريات الحياة، وارتفعت الأسعار ارتفاعًا جنونيًّا وانهارَت العملة، وبرز شبح المجاعة المخيف ليزيد الطين بلة، فكان البؤس شاغل الناس وعنوان أيامهم، وطالَ معظم المدن والقرى اللبنانية.
وما أشبه اليوم بالأمس، حتى بعد مرور أكثر من قرن على تلك المأساة التي حفظها طلاب لبنان في كتاب التاريخ عن ظهر قلب، يعيش هؤلاء الطلاب التجربة المرة ذاتها ويروونها، فالماضي بات حاضرًا معاشًا.. أدوية وأغذية اختفت من الأسواق تمامًا، ارتفاع جنوني بالأسعار، وبات من يملك زيت الزيتون والجبن من الطبقة الميسورة، ناهيك عن الليرة التي وصلت حتى هذه اللحظة 25 ألفًا مقابل دولار واحد، ما يعدّ انهيارًا تاريخيًّا للعملة الوطنية، فإلى أي حدٍّ سيحتمل هذا الشعب المبتلى بطبقته السياسية الفاشلة؟
حملات تبرُّع بـ”ساندويتش” لطلاب المدارس
بعد ظاهرة الساندويتشات الفارغة وطلب الكثير من الطلاب من زملائهم طعام، أطلق بعض الأساتذة والمعلمين في القطاع الرسمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي حملات تبرع بسندويتشات، خاصة بعد أن رصدوا الظاهرة وكتبوا عنها، حيث كتبت معلمة أن هناك تمييزًا واضحًا في “زوادة” الأطفال، فمنهم من لا يملك طعامًا إطلاقًا، ومنهم من لديه خبز فارغ (حاف)، خاصة في الصفوف الابتدائية، ووصفت هذه الظاهرة بالبشعة والمخيفة، كما تمنّت عبر صفحتها “أن ترسل كل أمّ تعيش وضعًا ماديًّا مستورًا صنف طعام إضافيًّا علَّ زميله في الصف يكون جائعًا”.
بينما أطلقت مجموعة من الشبان في لبنان حملة للتبرع بساندويتشات (شطائر) لطلاب المدارس الرسمية الذين لا يستطيعون إحضار وجبة طعام معهم، بسبب الظروف القاسية التي تخيّم على البلاد.
وفي منشور له، كتب خليل دياري، منظِّم الحملة، عبر صفحته على فيسبوك: “مشروع ساندويتش تلميذ، الهدف منه توزيع أكبر عدد من سندويتشات جبنة للطلاب من المدارس الرسمية الذين لا يستطيعون تأمين وجبة طعام”، وأضاف دياري: “سنجمع التبرعات خلال أسبوع من الآن وسنبدأ بالتوزيع بعد معرفة عدد الطلاب”.
وطلب دياري في المنشور أن يتضمّن الساندويتش الجبن والخيار مع موزة؛ ويعتبر الكثير أن التضامن والتكاتف اليوم هما سبيلنا للخلاص من الأزمات التي تعصف بنا، وحظيت هذه الحملة بإعجاب عدد كبير من الناشطين، مؤكدين أن على اللبنانيين التضامن في هذه الأزمة، وسط عجز حكومي واضح.
حملات التبرع بالأغذية والألبسة الشتوية تتكرر يوميًّا، فالمجتمع من ذاته يرتّبها ويطلقها لإنقاذ الكثيرين ممّن يقبعون تحت خط الفقر، كما أننا نرى مظاهر العوز في كل مكان، حيث من أبسط حقوق الإنسان أن يجد قوت يومه من طعام وشراب، وهذه الحالة وصل إليها الكثير من العائلات، خاصة مع بقاء المداخيل على وضعها الحالي دون تغيير، ما رفع منسوب البطالة وزاد من حدّة الفقر.
تقارير وتحذيرات اليونيسف
أظهر استطلاع جديد أجرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في لبنان، زيادةً في عدد الأطفال الذين يعانون من الجوع، واضطرارهم إلى العمل لإعالة أسرهم وعدم الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها، وأشارت المنظمة الأممية إلى أن التأثير على الأطفال يزداد سوءًا بشكل تدريجي.
ويشير تقرير اليونيسف الذي جاء بعنوان “البقاء على قيد الحياة بدون أساسيات العيش؛ التأثير المتفاقم للأزمة اللبنانية على الأطفال”، إلى أن 77% من الأسر لا تملك ما يكفي من غذاء أو من مال لشرائه، كما أن أكثر من 30% من الأسر التي شملها الاستطلاع تقوم بتخفيضات في نفقات التعليم، واضطرَّت 7 من كل 10 أسر إلى شراء الطعام عن طريق الائتمان أو اقتراض المال لشراء الطعام.
يشير تقرير “مرصد الأزمة” إلى حقيقة مؤلمة مفادها أن لبنان لم يبلغ بعد عصف الأزمة العميقة في حدِّها الأقصى، لكن الأخطر من ذلك هو أن التقرير يخلص إلى انعدام كافة سبل المواجهة المفترضة للأزمة.
وفقًا للتقرير، فإن للأزمة تأثيرًا خطيرًا على صحة الأطفال، وإن ما زاد الأمر سوءًا هو أزمة المياه التي تشكّل تهديدًا للصحة العامة، حيث لم يتحصل أكثر من 45% من الأسر على مياه الشرب مرة واحدة على الأقل.
ودعت ممثلة منظمة اليونيسف في لبنان، يوكي موكو، الحكومة إلى ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة لحماية مستقبل الأطفال، “وهذا يتطلب تنفيذ توسُّع كبير في تدابير الحماية الاجتماعية، وضمان الوصول إلى التعليم الجيد لكل طفل وتعزيز الرعاية الصحية الأولية وخدمات حماية الطفل”.
وكان في وقت سابق قد صدر عن “مرصد الأزمة” التابع للجامعة الأميركية في بيروت، تقرير رُصد فيه التضخم “غير المسبوق” الذي لحق بأسعار المواد الغذائية الأساسية في البلاد خلال شهر يونيو/ حزيران 2021، مقارنًا إياها بمعدل وسطي لرواتب اللبنانيين، مقدِّمًا نتيجة بالأرقام لتكلفة إعداد الأسرة اللبنانية وجبة واحدة خلال النهار تحتمل أن تكون غداء أو عشاء.
يشير تقرير “مرصد الأزمة” إلى حقيقة مؤلمة مفادها أن لبنان لم يبلغ بعد عصف الأزمة العميقة في حدِّها الأقصى، لكن الأخطر من ذلك هو أن التقرير يخلص إلى انعدام كافة سبل المواجهة المفترضة للأزمة.
صمت دولي وعزلة عربية
يعاني اليوم لبنان وحيدًا دون اهتمام يُذكر، فالبلد الصغير بمشكلاته الكبيرة صار معزولًا عن جيرانه وعن المجتمع الدولي، رغم أن كل من هبَّ ودبَّ يتدخل في قراراته ويعبّر عن رأيه إذا استدعت الحاجة، والكثير من الدول تضمن تواجدها في لبنان وتسطر حضورها.. فأين الجميع اليوم من معاناة الشعب اللبناني؟
ليس من الغريب على هكذا سلطة فاسدة أن تعزل لبنان، حتى أنها لم تبقِ له حبيبًا ولا صديقًا كما يقال؛ فتصريحات غير محسوبة من هنا وقرارات غير موزونة من هناك، جعلت لبنان يعيش في خندق مظلم لا نهاية له، وحيدًا عربيًّا وعالميًّا، وهو البلد المعروف بشعبيته الواسعة.
لقد قضت السلطة السياسية على آخر مورد للبنان، وهو السياحة وصداقاته بالدول، ودمّرت الصناعة والزراعة وقطاع الخدمات، وأخذته نحو عزلة منقطعة النظير، وفي نهاية المطاف الخاسر الوحيد والمتضرر الأكبر هو الشعب اللبناني.
فالسياسيون ما زالوا في أماكنهم وعلى كراسيهم، يجمعون ما تبقّى من فتات ويعتصرون شقاء الشعب اللبناني الذي بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، وما يزيد الطين بلة أن الهروب والهجرة صارا حلمًا صعب المنال مع إغلاق أغلب سفارات أوروبا والخليج العربي أبوابها أمام طالبي التأشيرات، وباتت شروط القبول شبه مستحيلة وتحتاج إلى أشهر من الانتظار الطويل وقلة قليلة من يتمّ قبولهم.
باختصار شديد، يدير العالم ظهره للبنان فيما يعيش اللبنانيون تحت سلطة فاسدة لا مبالية، حتى جاعت البطون وضاعت الأحلام.