من بين الحجج التي قدمها الفرنسيون لتبرير احتلالهم للجزائر سنة 1830، التدخل لحماية الأسرى المسيحيين هناك، فقد ادعوا أن الأسرى يعاملون بشدة وقسوة وعنف، لكن بالرجوع لكتب التاريخ نتبين زيف ادعاءاتهم.
الواقع الذي تحدثنا به كتب التاريخ يؤكد أن الأسرى في الجزائر كانوا مكرمين، حتى إن البعض منهم أصبح من كبار القوم، في هذا التقرير الأخير لـ”نون بوست” ضمن ملف الجزائر العثمانية سنتحدث عن الأسرى المسيحيين في الجزائر خلال العهد العثماني، وكيف جرت معاملتهم.
أعداد كبيرة
لم تكن أعداد الأسرى الصليبيين لدى الجزائر مستقرة، فقد قدر عدد الأسرى بين سنتي 1787 و1788 بـ2000 أسير، وكانوا قبل ذلك أكثر عددًا، حتى إنهم وصلوا لأكثر من 500 ألف خلال الفترة الممتدة بين 1520 و1660 وفق بعض المراجع التاريخية، ويعود تراجع عددهم إلى انتشار مرض الطاعون في البلاد.
ينتمي الأسرى إلى عائلات ومجتمعات متباينة الجنسية، ومعظمهم أُسروا في البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي، وتعود أصولهم إلى مختلف الدول الأوروبية، فمنهم من هو من ألمانيا ومن فرنسا والبلاد الإسكندنافية والجزر البريطانية وحتى الأمريكيين.
المعاملة الحسنة التي لقيها الأسرى المسيحيون في الجزائر، جعلت العديد منهم يعتنقون الدين الإسلامي طواعية
كانت حياة أغلبية الأسرى مترفة، فعمل العديد منهم بحرف كالحدادة والبناء والنجارة، وفيهم من عمل في مجال الطب وتقلد مناصب كبرى في الدولة، وفيهم أيضًا من عمل في أعمال شاقة كنقل الحجارة أو شحن السفن وإفراغها من البضائع، لعدم امتلاكهم أي حرفة، وقد كان هذا الصنف يعمل في أوروبا أيضًا بالأعمال الشاقة.
أما طريقة افتداء الأسرى فكانت متنوعة، فمنهم من يعمل ويفتدي نفسه إن امتلك المبلغ المحدد لذلك، ومنهم من يقدم خدمات للدولة ليفتدي نفسه أيضًا، ومنهم من تفتديه دولته الأصلية، وغالبًا يكونون من الوجهاء والمسؤولين الكبار، مثلما فعلت نابولي عندما دفعت أموالًا طائلةً لافتداء ربانين سفينتين تم أسرهما، كما كان لرجال الدين دور أيضًا في افتداء الأسرى.
رعاية حسنة للأسرى
وضعية الأسرى المسيحيين في الجزائر كانت حسنة مقارنة بوضعية الأسرى المسلمين في أوروبا، ففي تلك الفترة كان الأسرى المسلمون في الدول الأوروبية يُعاملون معاملة قاسية وهمجية، أدت إلى وفاة العديد منهم تحت سياط الصليبين.
صنف الأسرى المسيحيون في الجزائر خلال العهد العثماني إلى ثلاث مجموعات: الصنف الأول يحتفظ بهم الحاكم للعمل في القصر ويسمون بأسرى الداي، أما المجموعة الثانية فهي تابعة للدولة وأطلق عليهم أسرى البايلك، فيما تتبع المجموعة الثالثة الخواص.
يسكن العديد من الأسرى في بيوت مالكيهم، وهناك يعاملون معاملة حسنة ويلبسون ثيابًا محترمةً ويأكلون الأكل النظيف ويشربون الماء الصالح للشراب، على عكس ما كان عليه بعضهم في دولهم الأوروبية الأصلية.
سُمح للأسرى بممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ما مكنهم من إنشاء العديد من الكنائس داخل المراكز وقصدها الأسرى كل يوم أحد من الأسبوع وفي أيام رأس السنة الميلادية
فيهم أيضًا من وُضع في مراكز خاصة، فقد خصصت السلطات الحاكمة في الجزائر لهؤلاء مراكز وأماكن خاصة بهم، وكان يُكلف من يُحسن القراءة والكتابة منهم بتدوين الأحداث ويُسمى الكاتب الكبير وبعد مدة زمنية بإمكانه شراء ذمته نظير الخدمة التي قام بها.
غالبا ما يتم تعيين شخصية عسكرية تسهر على حسن تدبير مراكز هؤلاء الأسرى وتوزيع المهام بين القاطنين فيه، ويدعي الحارس باشا وهو برتبة ضابط عسكري، أكبر المراكز كانت في مدينة الجزائر وتسمى سجن البايلك، أما المركز الثاني فهو سجن سيدي حمودة.
في هذه المراكز يتعلم الأسرى الطب واللغات وغيرها من العلوم، ففيها كتب ميغيل دي سرفانتس أحسن تأليف في الأدب العالمي وهي رواية دوكيشوت التي تُرجمت إلى عدة لغات، وكان سرفانتس قد أسر لدى البحرية الجزائرية سنة 1575 وبقي أسيرًا 5 سنوات.
كما سُمح للأسرى بممارسة شعائرهم الدينية بحرية، فقد تمتعوا بحرية المعتقد، فلا أحد يتدخل في هذا الأمر، ما مكنهم من إنشاء العديد من الكنائس داخل المراكز وقصدها الأسرى كل يوم أحد من الأسبوع وفي أيام رأس السنة الميلادية، من ذلك كنيسة الثالوث المقدس في سجن الباشا أو ما عرفوا بالماثويين وكنيسة روش في سجن علي بتشين وكنيسة القديس كاثرين.
اعتناق الإسلام
هذه المعاملة الحسنة التي لقيها الأسرى المسيحيون في الجزائر، جعلت العديد منهم يعتقون الدين الإسلامي طواعية، عكس ما روج له الرهبان والقساوسة في إطار حملتهم المغرضة ضد الجزائر والخلافة العثمانية لتشويه صورتها أمام العالم.
في الفترة الممتدة بين 1609 و1619 مثلًا، اعتنق 867 أسيرًا ألمانيًا الدين الإسلامي، فيما اعتنق 300 أسير إنجليزي الإسلام، بينما كان عدد الأسرى الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام في نفس الفترة 130، وهو نفس عدد البلجيك، أما الأسرى البولونيون فكان عدد الذين اعتنق الإسلام منهم 250 أسيرًا.
على عكس الادعاءات الفرنسية والأوروبية، لقي هؤلاء الأسرى الاحترام والتقدير، ما جعلهم يساهمون في نهضة الجزائر والخلافة العثمانية
أغلب هؤلاء الأسرى تركوا المسيحية واعتنقوا الإسلام قناعةً منهم بالدين الإسلامي، إذ برهنوا على ذلك واندمجوا في المجتمع الجزائري وقدموا إضافات كبرى، لكن منهم أيضًا من اعتنق الإسلام نتيجة فقدان الأمل في الحصول على الفداء بعد تنكر الدول الأوروبية له، كما كانت هناك سيدات تزوجن بأسيادهن ودخلن الإسلام عقب ذلك.
تجربة الحاج حسين باشا ميزومورتو
يعتبر الحاج حسين باشا ميزومورتو، أبرز مثال على حسن معاملة الجزائريين للأسرى، فرغم قدومه إلى الجزائر أسيرًا، كان له دور مهم في سياسة البلاد العامة، إذ تولى الباشوية (تمثيل السلطان) والدايليك (الحكم الحقيقي) ثم تخلى عن الوظيفة الأخيرة إلى نائبه (كاهيته) إبراهيم خوجة.
تولى فيما بعد قيادة الأسطول البحري وطائفة الرياس (جمع ريس باللهجة الجزائرية وتعني مجاهد بحري)، يلقبه المسلمون بالحاج حسين فيما يسميه الأوروبيون ميزومورتو أي نصف الميت، فقد جرح في إحدى الغزوات البحرية جرحًا بليغًا وكاد أن يموت.
شارك الحاج حسين في العديد من الهجمات ضد الصليبيين في عرض البحر الأبيض المتوسط وكبدهم خسائر كبرى، وساهم في سيطرة الأسطول البحري الجزائري على المتوسط وفرض سياستهم هناك ودفع الدول لتقديم الإتاوة مقابل حمايتهم.
تقلد الحاج حسين هذه المناصب المهمة في الجزائر، وكرمه السلطان العثماني محمد الرابع وقلده رتبة الباشا وعينه السلطان سليمان الثاني قبودان باشا أي قائد عام للأسطول البحري العثماني، رغم كونه جاء الجزائر أسيرًا على غير إرادته.
يؤكد هذا الأمر الرعايا الكبيرة التي حظي بها الأسرى النصارى لدى الجزائريين خلال العهد العثماني، فعلى عكس الادعاءات الفرنسية والأوروبية فقد لقي هؤلاء الأسرى الاحترام والتقدير، ما جعلهم يساهمون في نهضة الجزائر والخلافة العثمانية.