من نادلة تعمل في إحدى الحانات خلال دراستها الجامعية بلايبزيج (شرق)، إلى متحدثة باسم آخر حكومة في ألمانيا الشرقية عام 1990 ثم زعيمة الحزب المحافظ 2000، وصولًا إلى المستشارية في نوفمبر/تشرين الثاني 2005، ومنها إلى الحصول على لقب “المرأة الحديدية”.. مسيرة حافلة بالإنجازات والمحطات للمستشارة الألمانية المنتهية ولايتها، أنغيلا ميركل.
وبباقة ورد مقدمة من المستشار الألماني الجديد أولاف شولتس، ودعت المرأة الحديدية زملاءها خلال آخر اجتماع لمجلس الوزراء الذي عقد الأربعاء 24 نوفمبر/تشرين الثاني، تاركة خلفها إرثًا كبيرًا من الإنجازات والإخفاقات على مدار 15 عامًا، كانت خلالها أقوى زعماء أوروبا.
في هذه الإطلالة السريعة نلقي الضوء على أبرز المحطات في تلك المسيرة الحافلة بالأحداث والمواقف التي كانت لها تداعياتها على رسم سياسة ألمانيا الخارجية وجدار سمعتها الدولية على مدار عقد ونصف، مع تعريج استثنائي على تشابكات تلك المسيرة مع القضايا العربية لا سيما قضيتي اللاجئين والقضية الفلسطينية.
النادلة النابغة
نشأت أنغيلا، ابنة هورست كاسنر، ذلك القس المتدين، في بلدة هامبورغ، بألمانيا الغربية، نشأة مضطربة نسبيًا بسبب الأوضاع السياسية التي كانت تعاني منها ألمانيا في ذلك الوقت، ونتيجة لطبيعة عمل والدها اضطرت للانتقال إلى الشرق الشيوعي، وهنا كانت المعاناة.
كانت الطفلة الصغيرة تخفي طبيعة عمل والدها، فتلك الدولة الملحدة التي تقيم بها من الصعب الاستمراربها في ظل كشف وظيفة والدها الدينية، حتى وصل الأمر إلى أنها كانت تبلغ الناس أن والدها يعمل “سائقًا” خشية ردود الفعل القاسية من سكان المنطقة، وفق ما ذكرت الصحفية الألمانية باتريشيا ليسنير كراوس في كتابها المعنون بـ”ميركل.. السلطة.. السياسة”.
انتهجت ميركل سياسة “الأبواب المفتوحة” حين فتحت حدود بلادها أمام اللاجئين والمهاجرين، في 2015، وهو القرار الذي فتح عليها النار
هذه الأجواء أثقلت شخصية أنغيلا ودفعتها لتحمل المسؤولية مبكرًا، فكان لا بد من مساعدة نفسها وأسرتها في الإنفاق، وبالفعل وفي سن مبكرة لجأت إلى العمل في إحدى الحانات كـ”نادلة”، فكانت تتقاضى قرابة 15 دولارًا شهريًا، وهو ما ساعدها في دفع إيجار المنزل الذي تقيم فيه.
حصلت الطالبة النابغة على الثانوية بدرجات متفوقة، وكان حلمها أن تصبح معلمة، لكن رغبة والديها في دراسة الفيزياء حالت دون ذلك، وبينما لم تبلغ من العمر 23 عامًا، تزوجت من زميل لها يكبرها بعام واحد، يدعى أولريش ميركل، وهو الرجل الذي لا تزال تحتفظ باسمه حتى الآن.
سقوط جدار برلين.. بداية الانطلاق
يعد عام 1989 – العام الذي سقط فيه حائط برلين الشهير الذي يفصل بين الألمانتين -، نقطة البداية نحو انطلاق ميركل في الحياة السياسية، إذ التحقت بأحد الأحزاب الديمقراطية الجديدة وكانت تعمل في مجال تخصصها كباحثة للفيزياء ولديها دراية كبيرة بالحاسوب، لكن سرعان ما انضمت فيما بعد لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي قبل شهرين من توحيد ألمانيا.
وفي عام 1990 ترشحت للانتخابات الاتحادية عن دائرة شترالزوند – نوردفوربوميرن – روغن الانتخابية، في مقاطعة فوربوميرن-روغن، واستطاعت أن تحجز لنفسها مقعدًا دائمًا دام لأكثر من 6 انتخابات لاحقة، وهو ما فرض اسمها على الساحة السياسية الألمانية، فأعجب بها المستشار هليموت كول الذي عينها في منصب الوزيرة الاتحادية للنساء والشباب، ثم الوزيرة الاتحادية لشؤون البيئة والسلامة النووية، ما أعطاها الفرصة لتوسيع رؤيتها السياسية ومنصة لبناء حياتها السياسية.
بعد سقوط حكومة هيلموت كول في الانتخابات الاتحادية لعام 1998 اقترح رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي آنذاك فولفغانغ شويبله، على ميركل أن تتولى منصب الأمين العام للحزب، فكان لها دورها المؤثر في تحقيق سلسلة من انتصارات الاتحاد الديمقراطي المسيحي الانتخابية في قرابة ستة من أصل سبعة انتخابات للولايات عام 1999، وبذلك كانت فرس الرهان نحو كسر سيطرة حزبي الخضر والديمقراطي الاشتراكي طويلة الأمد على مجلس الولايات.
مستشارة ألمانيا المخضرمة
مني حزب ميركل المسيحي الديمقراطي بهزائم متتالية، لم تتوقف عند حاجز السقوط في الانتخابات فقط، بل جاءت فضيحة تمويل الحزب لتطيح بزعمائه وكبار شخصياته، من بينهم هيلموت كول نفسه وخليفته فولفغانغ شويبليه، وهنا طالبت أنغيلا بثورة تطهير كبيرة لإعادة الحزب للواجهة مرة أخرى.
وفي عام 2000 انتخبت زعيمة للحزب لتصبح أول أنثى ترأس حزب سياسي في البلاد، قوبل انتخابها حينها بانقسام بين مؤيد ومعارض، لكن أداءها السياسي كان لافتًا للنظر ومثيرًا لإعجاب الكثيرين، الأمر الذي زاد من شعبيتها داخل البورصة السياسية في البلاد، ودفع الكثير من الشعب الألماني لمطالبتها بالترشح في الانتخابات والظفر بمنصب مستشارة البلاد.
وبعد منافسة حامية الوطيس، فازت ميركل بمنصب مستشارة ألمانيا في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، ليواصل حزبها بفضل إدارتها للمشهد، سيطرته على المستشارية لأربع دورات متتالية، آخرها الفوز الكبير الذي حققه في انتخابات 2017 لتسطر المستشارة الحديدية اسمها في سجلات تاريخ بلادها.
تمحورت سياسة ميركل الداخلية حول الارتقاء بمستوى الشعب الألماني وتعزيز حضوره الثقافي بين أقرانه من الشعوب الأوروبية، فيما ركزت السياسة الخارجية على تعزيز التعاون الأوروبي واتفاقات التجارة العالمية، وبلغ تأثيرها القاري أن عرفت بأنها “حاكم الأمر الواقع للاتحاد الأوروبي” في جميع المجالات.
تبنت المستشارة المخضرمة سياسة برغماتية بحتة في التعامل مع شتى الملفات، فقد حرصت على عدم الصدام مع الكيانات السياسية والدولية، فيما أرست قواعد التعددية والتمايز الثقافي والفكري داخل الشارع الأوروبي، وفتحت الباب أمام الحوار مع الثقافات الأخرى رغم الانتقادات التي تعرضت لها بداية الأمر حين أشارت إلى فشل مشروع “بناء مجتمع متعدد الثقافات في ألمانيا”.
في 2016 كانت ألمانيا من أوائل الدول المرحبة بقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي أدان الاستيطان وأفضى إلى تبني الاتحاد الأوروبي (بدعم ألماني) سياسة التفريق بين منتجات المستوطنات الإسرائيلية في مناطق 1967 وتلك المنتجة في مناطق 1948
اللائجون.. سياسة الأبواب المفتوحة
عام 2015 انتهجت ميركل سياسة “الأبواب المفتوحة” حين فتحت حدود بلادها أمام اللاجئين والمهاجرين، وهو القرار الذي فتح النار عليها من العديد من تيارات المعارضة، حينها قالت المستشارة عبارتها الشهيرة “سننجح في المهمة” فيما انتقد سياسيون هذه الخطوة بزعم مخاوف أمنية محتملة وقلق من اختلال التوازن الثقافي في البلاد.
وبعد أسابيع قليلة من فتح الحدود دخل عشرات الآلاف من اللاجئين إلى ألمانيا بشكل أساسي عن طريق البلقان، الكثير منهم ظلوا في البداية عالقين في المجر، ليتجاوز العدد اليوم أكثر من مليون ونصف، هذا بخلاف أضعاف هذا العدد من طالبي اللجوء معظمهم من سوريا ودول شمال إفريقيا وأفغانستان.
القرار كان محل تشكيك وانقسام بين ساسة البلاد، فبينما وصفته السياسية من حزب الخضر إيرين ميهاليك بأنه كان “قرارًا صائبًا” حمى أوروبا من حدوث فوضى عارمة كانت كفيلة باندلاع صراع دامي، كان للسياسي المتخصص في شؤون السياسة الداخلية لدى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لارس كاستلوتشي، رأي آخر، بزعم أن هذه السياسة سببت صعوبات كبيرة لدى المواطن الأوروبي بصفة عامة حتى اليوم، أمنيًا واقتصاديًا، رغم نجاح العديد من المهاجرين في تحقيق إنجازات في شتى المجالات وقدرتهم على الاندماج في المجتمع الأوروبي بصورة لافتة للنظر.
القضية الفلسطينية.. تأرجح برغماتي
مرت السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية في عهد ميركل بثلاث محطات، الأولى عقب تسلمها السلطة في 2005، حيث التقارب الشديد مع “إسرائيل”، وتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية تردي الأوضاع، فيما وصل هذا التقارب حد وصف رئيس الحكومة العبرية إيهود أولمرت عام 2006 ألمانيا بأنها الدولة الأقرب إلى “إسرائيل”، وفي عام 2008 كانت ميركل في قلب الكنيست تلقي كلمة أمام أعضائه.
ومع تشكيل ميركل لحكومة الائتلاف الكبير مع الديمقراطيين الاجتماعيين، نهاية 2009، بدأت إرهاصات المرحلة الثانية، حيث التغير النسبي في موقف الحكومة الألمانية من القضية الفلسطينية، وتوجيه اللوم والانتقاد للحكومة العبرية بقيادة بنيامين نتنياهو.
عارضت المستشارة الألمانية سياسة التوسع الاستيطاني التي انتهجها نتنياهو في القدس الشرقية، كذلك انتقدت الهجمات التي شنتها القوات الإسرائيلية ضد قطاع غزة واستهدافها المدنيين الفلسطينيين في 2014، وفي 2016 كانت ألمانيا من أوائل الدول المرحبة بقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي أدان الاستيطان وأفضى إلى تبني الاتحاد الأوروبي (بدعم ألماني) سياسة التفريق بين منتجات المستوطنات الإسرائيلية في مناطق 1967 وتلك المنتجة في مناطق 1948.
استطاعت ميركل أن تضع على مدار 15 عامًا من القيادة، بصمة مؤثرة في مسيرة بلادها الخارجية والداخلية، لتبقى سيرتها علامة فارقة في تاريخ ألمانيا
وساعدت الأجواء الدولية في ذلك الوقت ميركل على المضي قدمًا في تبني سياسة أكثر توازنًا إزاء الوضع في فلسطين، مقارنة بالتحيز المطلق قبل ذلك، حيث الصدام الواضح بين نتنياهو وزعماء العالم وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما على خلفية الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 الذي دعمته ألمانيا بقوة.
لكن مع تولي دونالد ترامب وصعود اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في أوروبا والغرب عمومًا، بات الموقف الألماني إزاء الدولة العبرية أكثر مرونة مما كان عليه قبل ذلك، فقد مارس المتطرفون في ألمانيا ضغوطًا على الحكومة لتبني مواقف مؤيدة وداعمة لدولة الاحتلال، وهو التوجه المتوقع أن يستمر خلال المرحلة القادمة وإن كان بصور متفاوتة نسبيًا.
نجحت “ماما ميركل” كما يلقبها الألمان في كسر الصورة النمطية للمرأة وإرساء قواعد جديدة تمهد الطريق أمام المرأة للوصول إلى منصات التتويج على المسارات كافة، ولم يكن ذلك على حساب تخليها عن سماتها الأنثوية الراقية، فقد كانت عاشقة للفن، موسيقى وغناء وموضة، ما دفع المصورة الفوتوغرافية الشهيرة هيرلينده كولبل، لتخليد ذكراها في مجموعتها التي أسمتها “آثار السلطة”، وهي المجموعة التي تضم كبار الشخصيات التاريخية في ألمانيا من بينهم المستشار غيرهارد شرودر ووزير الخارجية الأسبق يوشكا فيشر.
وهكذا استطاعت ميركل التي غادرت منصبها طواعية وفي هدوء، وسط ترحاب كبير من مؤيديها ومعارضيها، وباقات ورد من خلفائها على كرسي الحكومة، أن تضع على مدار 15 عامًا من القيادة، بصمة مؤثرة في مسيرة بلادها الخارجية والداخلية، لتبقى سيرتها – رغم ما بها من جدل وتساؤلات – علامة فارقة في تاريخ ألمانيا وأوروبا بصفة عامة.