ترجمة وتحرير: نون بوست
تجمع عائلة “آي” الكستناء أسفل جبل أولوداغ الثلجي في تركيا. يقذف أفرادها حبات الجوز ذات اللون البني والبراق مثل الورنيش في سلال من الخيزران. تكون وتيرة هذه العملية سريعة نظرا لقصر موسم الجمع الذي يمتد من منتصف تشرين الأول/ أكتوبر إلى منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، يوميا إلى أن يجتاح المتزلجون الجبل.
رافقتُ مسعود آي عبر أشجار السفرجل وأشجار البشملة والهواء البارد النظيف، والحديقة الرطبة. عاشت العائلة هنا منذ أجيال، وهي تبيع 250 كيلوغرامًا فقط سنويًا، وهو جزء ضئيل مقارنة ب 60 ألف طن تنتجها تركيا كواحدة من أكبر البلدان في إنتاج الكستناء في العالم. مع ذلك، فإن مكسرات عائلة “آي” الجبلية تحظى بتقدير كبير لدرجة أن التجار يسافرون إليها ما يقارب ثلاث ساعات بالسيارة من اسطنبول.
في تركيا، تلقب الكستناء بـ”كيربي”، أي القنفذ. يصر مصطفى، وهو والد مسعود، على أن النتوءات الشائكة التي تشبه قنافذ البحر والخضراء مثل أستروتورف، يجب أن تتساقط بشكل طبيعي من الأشجار، بدلاً من أن يتم ضربها بالعصي. تقلل هذه الطريقة من الضرر، لأن الضرب بالعصي يجب أن يتم فقط على الجوز الأكثر صلابة.
حين اقتربت نازير، والدة مسعود، بسلة ممتلئة بالكستناء، أخبرتني أنها كانت دائما جزءًا من حياتها. عندما كانت صغيرة، كانت توقع خطابات لأصدقائها في المدرسة تُترجم باللغة الإنجليزية “كستناء محمص، جيد للأكل، أنتظر ردا سريع”.
في بريطانيا، تُأكل الكستناء عادة في الأعياد، أو تُستخدم للحشو. مع ذلك، فهي متعددة الاستخدامات: يمكن أن تكون مقلية بالزبدة مع البردقوش، أو أن تتحول مع الريزوتو، أو أن تُمزج مع الحساء واليخنات كما هو الحال في فرنسا وإسبانيا والبرتغال.
لطالما مثلت الكستناء جزءًا من الثقافة التركية منذ آلاف السنين. ازدهرت أشجار الكستناء في ساردس القديمة، عاصمة ليديان في غرب الأناضول. في اليونان القديمة، اعتبرها المفكر ديفيلوس رائعة ومغذية وأطلق عليها لقب ” بلوط ساردس”. حذر الطبيب الأثيني منيسيثيوس من أن تناول الكثير منها يسبب عسر الهضم.
أعاد الرومان تسمية جوز الكستناء، والتي دمجت كلاً من الاسم التركي الحديث “كيستان”، والاسم النباتي الإنجليزي “كاستانا ساتيفا”. ينتظر الطهاة الأتراك اليوم وصول الكستناء مثلما ليتم وضعها في أوراق الملفوف مع لحم الضأن، وخلطها مع الطحينة التركية “هيلفا” واستعمالها في البوزا.
في مدينة بورصة الصناعية، بالقرب من جبل أولوداغ، تتصاعد هتافات البائعين “كيستان، كيستان!” (“الكستناء، الكستناء!”). يتصاعد الدخان أمام المحلات التي تبيع صناديق الكستناء المحلاة، لكن لا يمكن لأي من هذه المتاجر منافسة “أولوس” في أنقرة.
قد يأتي بعض الزبائن لتناول راحة الحلقوم التركية التي ظهرت في سنة 1928، لكن معظمهم يصطفون في طابور الكستناء المحلاة، خاصة في فصل الشتاء عندما تملأ رائحة الكراميل الحلوة واللذيذة المكان. توجد صور في كل مكان لمؤسس المطعم، الراحل راسم أوستات، مرتديًا معطفًا من الصوف الأسود الثقيل.
تتذكر أكيل أوستات والد زوجها بوقار، وتقول من خلف المنضدة: “لقد قدم من يوغوسلافيا وهو صبي صغير، وبدأ في بيع الحلويات في البازار، بصينية محمولة على الرأس. في البداية قام الناس بمضايقته، لكن تجارته نمت حتى أصبحت سمعة أولوس كبيرة لدرجة أن أتاتورك اشترى الكستناء من هنا”.
اعتاد المتزلجون أخذ صندوق تذكاري من الكستناء المحلاة عندما يعودون من جبل أولداغ. هذا هو الوقت الذي يقوم فيه مصنع الكارديلين (“قطرة الثلج”)، المتخصص في العلب المزخرفة والصناديق الفاخرة من الكستناء المحلاة، بعمل كثيف. في حديقة المصنع المليئة بثمار الكاكي، التقيت بالمالكين دنيز أوتكو أوزدمير ومومين أكغون. هناك القليل الذي لا يعرفه هذان الزوجان عن الكستناء.
يقول أوزدمير: “تعتبر الكستناء المجمدة سلعة فرنسية في كل مكان في العالم، باستثناء تركيا. نحن لم نأخذ الفكرة من الفرنسيين. لنفترض الأمر على هذا النحو، إذا كان لديك فراولة في بلدك، فإنك في النهاية ستصنع المربى. بالتالي فهي طريقة تتعلق بالحفظ. لسنا بحاجة إلى نقاش أو محاولة إثبات ذلك”
ازدهرت الكارديلين منذ سنة 1991، حيث تصدر إلى إيطاليا ودول الخليج وحتى محلات السوبر ماركت الباريسية. يتابع أوزدمير: “لقد استقطبنا فرنسا قليلاً، كما أن الشباب يحبون الكستناء المحلاة، بالقليل من السكر ونكهة كستناء أقوى. لكن العديد من كبار السن يعارضون فكرة تغيير قطعة الحلوى الشهيرة، ولو قليلاً”.
في شتاء اسطنبول، ينتشر الضباب بين العبّارات والمآذن، ويخرج بائعو البوزا، التي تعد علامة مميزة على هذا الفصل، وهو مشروب ساخن مخمر سميك بلون الكسترد، مغطى بالحمص المجفف وقليل من القرفة.
في ميناء كاديكوي، نجد فكرت غونار وعمه صبري أكايا، من مدينة كاستامونو الواقعة على البحر الأسود، الذين يأتون من قريتهم بكستناء برية أصغر من الغابات البرية. إنهم يقومون بتحميص الكستناء بموقد للشواء وبعض الفحم في هذا المكان بالذات منذ 75 سنة.
يقول غونار، وهو يضع حبات كستناء دافئة في يدي: “انضم إلينا لتناول الشاي”. إنهم يرفضون المكسرات الشهيرة في بورسا، ويقول غونار: “لا تُفتح كستناء بورسا بشكل جيد، فهي جيدة فقط لصنع الحلوى”. لا يؤيده الجميع في ذلك. ففي القرن السابع عشر، لاحظ الباحث والرحالة العظيم إيفيليا جلبي أن كستناء بورسا لا مثيل لها في جميع أنحاء العالم.
ينتظر موسى داغديفيرين، مالك سلسلة مطاعم تشيا، والذي ظهر مؤخرا في سلسلة نتفليكس الوثائقية “طاولة الشيف“، موسم الكستناء بفارغ الصبر. يعتبر داغديفيرين صيادا وجامعا للوصفات التركية المفقودة، ويقوم بعمل ميداني يشبه إلى حد كبير عالم آثار – لا يترك قرية بعيدة أو أعشابا أو توابل أو بذورا. قد تجد في “تشيا”، كل الأكلات التركية التقليدية التي قد تخطر على بالك.
مثل المحامص المجاورة، تأتي كستناء تشيا من منطقة البحر الأسود. يقول داغديفيرين: “الكستناء الصغيرة البرية في البحر الأسود، التي تنمو بين أشجار البلوط القديمة، هي الأفضل على الإطلاق، بدون مواد حافظة أو مبيدات، مباشرة من الشجرة إلى المائدة. أما إذا وضعت في المستودعات، يمكن أن تكون الديدان مشكلة”.
يتواصل تقديم الأطباق الشهية على المائدة، بما في ذلك كرات لحم الضأن مع الكستناء والفلفل، التي يقع تحميصها على الفحم، ثم يتم طهيها مرة أخرى في عصير الرمان. في الأسبوع الماضي، تناولنا طبقًا من السفرجل والمشمش والكستناء ولحم الضأن.
في الماضي، كان لديهم سلطة كستناء فاخرة مع الريحان والبقدونس والبصل الأخضر مغطى بزيت الزيتون، بالإضافة إلى حلوى يتم فيها لف المكسرات أولاً في كيس من القماش، ثم يتم غليها في شراب الليمون قبل تقديمها مع رشة من القرفة.
يتنهد داغديفيرين وهو يتذكر وصفة كردية عثر عليها على حدود العراق، وهي حساء الشعير مع لحم الضأن والكستناء، ولكن كل ذلك أصبح من الماضي. يقول داغديفيرين: “المشكلة هي أن الطعام ليس محميًا مثل قطاعات الثقافة الأخرى. يستغرق تطوير أكلة معينة قرونًا، لكن يمكن أن يختفي بسهولة”.
في طبق كرات اللحم الذي وضعته أمامي، تتناغم حبات الرمان الحلوة مع لحم الضأن المدخن بشكل جميل، وتتناثر حوله الكستناء الساخنة. إنه طبق بسيط ورائع يشعرك بالدفئ في ليالي الشتاء.
المصدر: فاينانشال تايمز