“من أراد الغاية لا يعدم الوسيلة”.. يمكن إطلاق هذه المقولة على واقع المقاومين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، خصوصًا أولئك الذين اتجهوا لتنفيذ العمليات بطابع فردي في ضوء حالة التغييب القسرية لفصائل المقاومة الفلسطينية منذ عام 2007.
العمليات الفردية ظاهرة بدأت في أعقاب عدوان غزة عام 2014، وتنامت عقب انتفاضة القدس عام 2015، وبدأت بأشكال متمثلة في الدهس والطعن فقط، وكانت تعتمد على عنصر المباغتة والمفاجأة لجنود الاحتلال، أو عناصر وحداتهم المختلفة أو حتى المستوطنين.
في أعقاب هذه العمليات، تطورت أشكال المقاومة الفردية لتأخذ أشكالًا أخرى، كإطلاق النار أو العبوات اليدوية المعروفة فلسطينيًّا بـ”الملتوف”، أو حتى إلقاء الحجارة الكبيرة من أعالي المباني على رؤوس الجنود خلال تنفيذ عمليات الاقتحام الليلية في مدن وقرى الضفة.
ومع الأدوات التقليدية القديمة ظهر سلاح “الكارلو”، وهو سلاح رشاش أوروبي المنشأ، قُلِّد في مصر عام 1956، وأُطلق عليه اسم “بور سعيد” قبل أن يطوِّر الفلسطينيون نسختهم الخاصة التي استخدموها في مواجهة الاحتلال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وصُمِّم السلاح بواسطة المصنِّع السويدي كارل غوستاف الذي استلهمَ تصميمه من سلاح كارل غوستاف م/45.
ومع غياب التسليح، أصبح بعض المقاومين يلجؤون إلى استخدام هذا السلاح البدائي لاستهداف جنود الاحتلال ومستوطنيه، نظرًا إلى سهولة صناعته وتوفير الرصاص الخاص بإطلاقه مقارنة مع اقتناء سلاح رشاش آلي متطور في حالة الضفة والقدس.
ورغم بساطة هذه الأدوات مقارنة مع العمليات المنظمة التي اعتادت الفصائل والمقاومة على تنفيذها خلال انتفاضة القدس، إلا أنها أسهمت في إرباك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، تزامنًا مع حديث إسرائيلي شبه رسمي عن العجز في تطويق هذه الظاهرة.
فشل في تطويق العمليات الفردية
استنزفت العمليات الفردية الاحتلال في بعض الفترات، نظرًا إلى تتاليها في فترات متقاربة، وتسجيل قتلى وإصابات في صفوف الاحتلال، عدا عن أن قرار المنفّذين الفردي واللحظي في بعض الأحيان يمنع إحباط هذه العمليات، حتى لو كان المنفِّذ مسلحًا.
الخلايا العسكرية التابعة للمقاومة عادةً ما تكون على شكل هرمي مكوَّن من مسؤول وأفراد وقنوات اتصال، وهو الأمر الذي يمكن إحباطه عبر جمع المعلومات ومراقبة الاتصالات.
الخبير في الشأن العسكري رامي أبو زبيدة، يقول لـ”نون بوست” إن المقاومة الفردية أصبحت رقمًا صعبًا وهاجسًا يخيف قادة أجهزة الأمن في دولة الاحتلال، فأغلب العمليات لا يوجد لها طابع تنظيمي أو مرتبطة بخلايا تابعة للفصائل الفلسطينية.
ويوضّح أبو زبيدة أن الخلايا العسكرية التابعة للمقاومة عادةً ما تكون على شكل هرمي مكوَّن من مسؤول وأفراد وقنوات اتصال، وهو الأمر الذي يمكن إحباطه عبر جمع المعلومات ومراقبة الاتصالات الخاصة بالمجموعة، بعكس العمليات الفردية.
ويعتقد الباحث في الشأن العسكري أن ظهور عمليات المقاومة الفردية جاء كسبب لتراجع المقاومة المنظمة بسبب الاعتقال والتجسُّس وكاميرات المراقبة، وجدار الفصل العنصري، وعمليات المطاردة، وسياسة الباب الدوار التي انتهجتها السلطة عبر سياسة التنسيق الأمني.
ويضيف أبو زبيدة: “بالنسبة إلى الكيان، من ينفّذ هذه العمليات هم أشخاص خارج دائرة الخطر، إلى جانب أنه لا يوجد تنسيق مع أفراد، وعملية تحديد الهدف قد تكون لحظية وغالبًا المنفذ لا يشارك أحدًا في تفكيره، فليس هناك مقدرة للاحتلال للولوج إلى العقل ومعرفة طريقة تفكير كل إنسان”.
وعن دور الفصائل في هذه العمليات، يرى أن دورهم قد يكون ضعيفًا، ويقتصر حاليًّا على التحريض والتوجيه وتعليم الشباب عبر توجيه إعلامي، وقد يكون فنيًّا من خلال نشر طرق تنفيذ عمليات دهس أو طعن ناجحة بتوجيهات معيّنة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ويعتقد الباحث في الشأن العسكري أبو زبيدة، أن هناك تطورًا حقيقيًّا في عملية المقاومة الفردية، ما أربك حسابات الاحتلال، وهو الأمر الذي ينبئ بتطور في المستقبل، خصوصًا أن العمليات الفردية أصبحت ذات سجلّ كبير خلال السنوات الماضية.
فشل استخباراتي وأمني للاحتلال
المختص في الشأن الإسرائيلي محمود مرداوي رأى أن العمليات الفردية تعكس الفشل الأمني والاستخباراتي الإسرائيلي، لا سيما في مدينة القدس المحتلة التي تشهد غيابًا للسلطة وأجهزتها الأمنية، وغيابًا لسياسة التنسيق الأمني الموجودة في الضفة.
ويقول مرداوي لـ”نون بوست” إن ثمة عدة عوامل عززت من الفعل المقاوم الفردي في الضفة المحتلة، إذ جاءت استجابة لتحديات تمثلت في إجراءات الاحتلال، وسياسة التنسيق الأمني، ونجحت هذه العمليات في تجاوز الكثير من العقبات.
ويستكمل المختص في الشأن الإسرائيلي: “هذه الخيارات تعويض عن العمل الفدائي المنظَّم، فمن غير المعقول أن يتمَّ تفكيك التنظيمات والمجموعات بناءً على نهج التنظيم الهرمي، دون أن يوجد فعل مقاوم فردي يكسر العقبات”.
ويوضّح مرداوي أن هناك تراكمًا مستمرًّا للعمل المقاوم في ساحتَي الضفة والقدس المحتلتَين، بما في ذلك العمل الفردي الذي أضحى غير مترابط، ويخدم استمرار العمل المقاوم دون نجاح الاحتلال في الولوج إلى المقاومين والمنفّذين.
هذه العمليات في تطور دائم بالأسلوب وبالأدوات واختيار الأهداف والزمان والمكان.
ويواصل قائلاً: “عملية التوعية والتعبئة نجحت في ساحة الضفة والقدس ويمكن البناء عليها لتجاوز سياسة جز العشب التي قام بها الاحتلال بحقّ المقاومة، إلى جانب سياسة “الفلسطيني الجديد” التي دشّنها رئيس وزراء السلطة السابق سلام فياض لمنع مقاومة الاحتلال لصالح الاحتلال ومستوطنيه”.
ويتوقع مرداوي أن تشهد الفترة المقبلة توسعًا في العملية الفردية وتطورًا أكبر، لا سيما على صعيد القدس التي تمتلك خصوصية أكبر في ضوء غياب السلطة، وهو عامل إيجابي لصالح المقاومة، إلى جانب أن العمليات في المدينة المقدسة لها رسائل ميدانية وسياسية.
عمليات مؤثرة معنويًّا وأمنيًّا
من جانبه، يؤكد اللواء المتقاعد والخبير العسكري واصف عريقات أن قيمة العمليات الفردية تكمن في تأثيرها المعنوي على المستوطنين وجنود الاحتلال الذين يمارسون القمع ضد الشعب الفلسطيني، وتعمل على إرباك العمل الأمني.
ويقول عريقات لـ”نون بوست” إن هذه العمليات تستنفر الأجهزة الأمنية، وتظهر عجزها عن مواجهة هكذا عمليات، وتراكم إبقاء القضية حية في العالم، وتخيف الاحتلال، وتعمل على رفع الحالة المعنوية للشعب الفلسطيني وتعزيز حالة المقاومة.
ورأى الخبير العسكري الفلسطيني أن هذه العمليات في تطور دائم بالأسلوب وبالأدوات واختيار الأهداف والزمان والمكان، وهذا ما يرهق الأجهزة الأمنية والاستخبارية ويثير القلق عند الإسرائيليين، ويجعل منها أسلوبًا ناجعًا في حالة الضفة والقدس.
يبدو الواقع في الضفة يميل إلى عودة خلايا المقاومة، تزامنًا مع تنفيذ عمليات فردية بطابع منفرد حتى من بعض المحسوبين على الفصائل لتفادي المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تعتمد على أعلى عوامل المراقبة والتسجيل وجمع المعلومات.
وقد أثبت الفلسطيني خلال تاريخ نضاله الممتدّ منذ الانتداب البريطاني، وما لحقه من الاحتلال الإسرائيلي، أن التضييق لا يعني في قاموس مقاومته شيئًا، بقدر ما يعني التغيُّر في وسيلة المقاومة، ومحاربة المقاومة الجماعية لا يعني بالمطلق في عُرف الفلسطيني تجريد الفرد من واجبه الوطني.