كان فيلم “كيارا” أحد أوائل الأفلام التي جذبت انتباه الجمهور لمشاهدتها خلال مهرجان القاهرة السينمائي، فآراء النقّاد الإيجابية بجانب فيلمَين سابقَين للمخرج نافسا في العديد من المهرجانات العالمية، جعلت الجمهور يرفع توقعاته للسماء، ولكن على عكس ذلك، فالفيلم لم يكن كما توقعه البعض، لذا سنتناول بعض النقاط المهمة في الفيلم داخل هذا المقال.
يتميّز المجتمع الإيطالي بخصوصية كبيرة، خصوصية تمكّنه من التلاعب على ثيمات معيّنة لها جذور تاريخية ضاربة في العمق، والجريمة المنظَّمة هي واحدة من تلك الثيمات، الأمر أشبه بالياكوزا داخل المجتمع الياباني، وسلاسل الدم التي تخفق باستمرار مع تمرير الإرث من الآباء إلى الأبناء، مثل عود أبدي لا يمكن مجانبته أو الفرار منه.
يناقش فيلم “كيارا”، وهو الفيلم الثالث من ثلاثية المخرج الإيطالي الأمريكي جوناس كاربينيانو، هذه النقطة من وجهة نظر الجيل الأصغر، ويضع المشاهد أمام فتاة في سنّ المراهقة ما زالت تستكشف الحياة، ويأخذنا في رحلة طويلة يرصدُ فيها تفاعل الفتاة مع المجتمع وتعاطيها مع المشكلة التي تبدو كشيء معتاد في البنية الاجتماعية الإيطالية، بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية في العديد من المدن.
يبدأ الفيلم بمشهد عيد ميلاد صاخب، تظهر فيه العائلة وهي تحتفل بالعيد الثامن عشر لابنتهم جوليا الكبرى (الممثلة جريسيا روتولو)، ويبدو أن الرقم 18 هو رقم الحظ الذي يوفِّر لصاحبه فرصة معرفة أسرار العائلة، لقد أصبح ناضجًا بشكل كافٍ لكي يحمل إرثًا عائليًّا، حتى لو على سبيل المعلومات الشفهية فقط، أما من هم دون الثامنة عشر، فما زالوا أطفالًا، يجب إبقاءهم في أمان، بأقل قدر من المعرفة والمعلومات.
تنقلب الأحداث عندما يهرب والد كيارا فجأة، ولا يعود للمنزل، وبعدها تنفجر سيارة الأب، وتبدأ غيمة من الغموض تحيط بالأحداث تدفع كيارا (لممثلة سوامي روتولو) للتساؤل عن مكان والدها ولماذا لم يَعُد، حتى تقرأ على شبكة الإنترنت أن والدها (الممثل كلاوديو روتولو) تاجر مخدرات هارب، وهنا يسيطر على الفتاة فضول طفولي، وهوس بالكبر، وتقودها رغبة لا نهائية بمعرفة ما يحدث خلف الأبواب المغلقة.
يقع فيلم “كيارا” موقع دراسة الحالة/ الشخصية، يتمركز حول شخصية واحدة، ويمارس فعل الحكي البصري بما يشبه وجهة النظر المتوحِّدة (POV)، وهذا من خلال تطويع الكاميرا والسيناريو ليدورا في مدارات محدَّدة حول شخصية الابنة، وهذا تقييد للقصة، ولكنه محاولة لتوجيه عين المشاهد لنقطة معيّنة، والتركيز عليها لدرجة تدفع الشخصيات الأخرى للغياب بشكل شبه كلي عن الحدث.
لهذا الفيلم هو فيلم شخصية فقط، تمَّ تأسيس سرديته لتتوافق مع كونه ضيّقًا وبطيئًا، بيد أنه في الوقت نفسه يناقش قضية عائلات المافيا، وهي قضية أكثر عمومية وأشد اتساعًا، أي أنه يحاول الانتقال من الحيز العمومي والسطحي إلى البقعة الأكثر خصوصية لفرد من أفراد تلك العائلات.
من الوهلة الأولى، سيتضح مدى التشابه الكبير بين تقنية الكاميرا في فيلم “كيارا” ونظيرها في فيلم Son Of Saul -المصنوع قبله بـ 5 سنوات، والحاصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي-، فمنهجية الكاميرا هي نفسها، توظيف اللقطات المتوسطة والقريبة والشديدة القرب كمنفَذ لروح الشخصية، وفي الوقت نفس كمحبَس له، حيث استغلال تعابير وجه الشخصية الرئيسية لخلق عاطفة اتجاه الحدث، ولجذب انتباه الجمهور، ولكن الحقيقة أنه لم يكن بنفس قوة تنفيذ Son Of Soul، ولا بصرامة الفكرة وتكثيفها في طبقات كما فعل مخرج الفيلم المجري لازلو نيميس، وهذا هو الفارق بين الفيلمَين.
فالقصة هنا أشد تكثيفًا وأكثر صدامية من القصة في فيلم “كيارا”، الذي يحاول في كل مشهد أن يجعل المُشاهد يتعاطف مع شخصيته الرئيسية الساذجة الصغيرة والبريئة، ولكنه في الوقت نفسه لا يعطينا الإيقاع المطلوب لمثل هذه الأحداث، فالقصة جوفاء من الداخل، تفتقد للتأسيس المطلوب، كان من الممكن تطوير الإيقاع لأن الفيلم في كثير من الأوقات يسقط ببطء دون سبب.
وعلى الناحية الأخرى لم يطوِّر المخرج أي من الشخصيات الأخرى، ولم يمنحنا نظرة أكثر عمقًا لمجتمع الجريمة، ولا لعائلاتهم حتى، اقتصر الأمر على بعض المخابئ والسراديب في أماكن مجهولة، وبعض الأحلام، لدرجة أنه يمكن حذف بعض الشخصيات تمامًا من سياق الفيلم، ولن يشعر المُشاهد بأي تأثير.
والغريب أن الفيلم مكتظّ بالشخصيات التي تحاول الشخصية الرئيسية التفاعل معها في جوّ العائلة المشحون بالتوتر، ولكن المخرج في كل مرة كان يفضّل وجه الشخصية الرئيسية، ووجهة نظرها غير المكتملة وردود أفعالها لأنها الجزء الأساسي من القصة، وهذه مغامرة كبرى، لأن أفلام الشخصية الواحدة يجب أن يتمَّ تكثيفها وتطويرها بشكل خاص جدًّا بحيث تجذب الأنظار، ويتمّ تفريغها في نصٍّ بصري هائل، فالشخصية الواحدة لا تعتمد فقط على السيناريو الأدبي أو الحكاية، ولكن على الناحية البصرية ربما أكثر من أي شيء آخر، لأن فيلمًا يتجاوز الساعتَين لا يمكن ملأه بسطحية دون النزول إلى الدرك الأسفل.
على عكس المتوقع، قامت الممثلة سوامي روتولو بأداء تمثيلي جيد جدًّا، الأمر يفوق القدرات التمثيلية، ويصل إلى الشجاعة وعدم الخوف من تحمُّل المسؤولية، فقد حملت الممثلة الفيلمَ بشكل شبه كامل، وأخذت على عاتقها مسؤولية وضع المُشاهد داخل الفيلم من خلال تعابير الوجه والجسد، ومنعته من السقوط بشكل كلي.
تقوم هذه الممثلة الشابة بهذا العمر بدور استثنائي في مسيرتها الفنية التي ربما بدأت من هذا الدور، والغريب في الأمر أن أغلب الممثلين في الفيلم من عائلة واحدة، ربما من أسرة واحدة، وهذا في الأغلب ساعد الممثلة على القيام بدورها دون خوف من العواقب.
ينتهي الفيلم مثلما بدأ، ولكن بأشخاص مختلفين، عدا كيارا نفسها، التي فضّلت الحياة على الانغماس في سلسلة الدم والخطر، حفلة عيد الميلاد ذاتها تقريبًا، الأصوات الصاخبة نفسها، وصرخات المحبة والاستمتاع، ولكن في بيئة أقل توترًا، وهذا ما أراده المخرج جوناس كاربينيانو، أن يخلق عالمَين، متشابهَين قليلًا، ولكن بينهما 3 سنوات من الزمن، وفي هذه الفترة من الزمن، أي بين الخروج من عائلة والذهاب لأخرى، يدور الفيلم، بكل صراعاته الداخلية والخارجية، ومحاولته لخلق بُعد أخلاقي للجريمة من خلال الأب ذي العلاقة الوثيقة بابنته الصغيرة، وفي الوقت نفسه دفاع الفتى عن الأب بسبب المشكلة الأخلاقية ذاتها تقريبًا.
لن تستطيع عائلات المافيا أن تنشأ إنسانًا سويًّا بشكل اجتماعي أو أخلاقي، ولكن ذلك الصراع لم يظهر على الشاشة في أوجه، صحيح أن هناك بعض اللمحات الجيدة، بيد أن الفيلم في المجمل لم يخدم تلك اللحظات بشكل يحفِّز لما بعده، في بعض المشاهد ستشعر أنها أطول من اللازم، وهناك بعض اللقطات التي استعمل فيها المونتاج بشكل أسرع من الإيقاع نفسه، وهذا يبدو غريبًا وأنت تشاهده في السينما.
تستمدّ شخصية كيارا قوتها الكبيرة من فضولها الهائل لمعرفة أسرار عائلتها وحقيقة والدها، وهذا الفضول لا يدفع الشخصية فقط ولكنه يدفع الفيلم بشكل كامل، ومحاولة بنائه كانت جيدة ولكنها لم تكن كذلك حتى نهاية الفيلم، بل كانت تخبو من وقت لآخر، وهذا كما قلنا سابقًا سبب مشكلة بالإيقاع، لأن الفيلم هو فيلم شخصية فقط، ولا يمنح قوة كبيرة للشخصيات الأخرى بحيث تقدر على تغيير مسار الأحداث، فالمشاهدين لا يرون إلا الفتاة طوال الساعتَين.