ترجمة وتحرير: نون بوست
في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر، وقعت صدامات بين قوات الأمن ومتظاهرين موالين للفصائل المسلحة خارج المنطقة الخضراء المحصنة وسط بغداد. وعلى غرار العديد من القادة العراقيين، أصدر زعيم عصائب أهل الحق المدعوم من إيران، قيس الخزعلي، بيانا حث فيه على ضبط النفس. وكان هذا البيان واحدًا من بين العديد من البيانات التي أصدرها في ذلك الوقت.
لكن تحذيره من أن الأطراف التي لها صلة بأجهزة الاستخبارات تخطط لقصف المنطقة الخضراء بهدف “إلقاء اللوم على فصائل المقاومة” – الذي تُعرف به الفصائل شبه العسكرية المدعومة من إيران – اكتسب زخمًا جديدًا بعد يومين من تعرض منزل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لهجوم نفذته طائرة مسيّرة.
في ظل تقاذف الاتهامات، مع توجيه الكثيرين أصابع الاتهام نحو عصائب أهل الحق والفصائل المسلحة الأخرى في محاولة الاغتيال المزعومة، وقع تأويل خطاب الخزعلي بطريقتين مختلفتين: يعتقد البعض أنه كان يوفر لنفسه تغطية لشن هجوم مخطط له، بينما يصر آخرون مثل سعد السعدي، عضو المكتب السياسي لحركة عصائب أهل الحق، على أن الفصيل والقوات شبه العسكرية الأخرى كانت مجرد إطار لهذه العملية.
وحسب ما صرّح به السعدي لموقع “ميدل إيست آي”، فإن هذه المكيدة مدبرة من قبل القوى المحلية والأجنبية في محاولة للاستفادة من الفوضى خارج المنطقة الخضراء. وأضاف أن “الهدف من هذا الهجوم هو تشويه سمعة فصائل المقاومة وجرها إلى اقتتال داخلي”. وفي هذا السياق، استعرض السعدي القائمة المعتادة للجناة الذين تحملهم الفصائل المدعومة من إيران مسؤولية ما حدث: وهم الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة. ومن جهته، كان الخزعلي أكثر حذرًا على نحو ملحوظ. وقد صرّحت مصادر لموقع “ميدل إيست آي” بأن المتآمرين الحقيقيين هم رعاة الخزعلي – أي الإيرانيون.
تجنب التصعيد
في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، تصاعدت الاضطرابات والتوترات في العراق. شهدت الفصائل المسلحة المدعومة من إيران هزيمة ساحقة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في تشرين الأول/ أكتوبر، وتجمّع أنصارها خارج المنطقة الخضراء مطالبين بإلغاء النتائج.
لجأت قوات الأمن إلى استعمال العنف مع المتظاهرين عندما حاولوا اقتحام الحي المحصن، حيث تقع مقرات غالبية المكاتب الحكومية والبعثات الدبلوماسية، ولكن بحلول الساعة السابعة مساءً، عم الهدوء المكان. انسحب أنصار الفصائل المسلحة إلى معسكرهم الاحتجاجي المجاور وتنفست جميع الأطراف الصعداء لعدم سقوط قتلى.
أخبر قائد عسكري مشارك في تأمين المنطقة الخضراء موقع “ميدل إيست آي” بأن الاشتباكات كانت “محاولة لجذب الانتباه وإثبات مدى خطورتها من خلال الضغط على الحكومة”. ويبدو أن الرسالة قد وصلت.
بعد مرور ساعة، عمت الفوضى معسكر الاحتجاج، ودوّت أصوات انفجارات والطلقات النارية، وبدأت ألسنة اللهب تأكل خيام المتظاهرين. أظهرت لقطات كاميرات المراقبة رجالا يرتدون زي الشرطة وهم يحرقون الخيام وسيارة من طراز “فان” تابعة لقناة تلفزيونية محلية.
أسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل القيادي البارز في حركة عصائب أهل الحق، عبد اللطيف ماجد الخالدي. وأفاد قادة الحركة لموقع “ميدل إيست آي” بأن الخالدي، الذي قاتل أيضًا في صفوف قوات الحشد الشعبي شبه العسكرية المدعومة من الدولة، قُتل على إثر تلقيه ثلاث رصاصات في ظهره، توفي على إثرها في المستشفى.
مرة أخرى، فعّل الخزعلي والكاظمي ومسؤولون آخرون وضع إدارة الأزمات. وفي ظل انتشار الشائعات، ذهب الخزعلي إلى معسكر الاحتجاج ووعد “بمحاسبة المعتدين على المتظاهرين السلميين”، وتعهد بأن يحاكم الكاظمي والجناة.
في الأثناء، أنكر الكاظمي ومن حوله أي مسؤولية عن مقتل الخالدي. وقال قائد عسكري كان يؤمّن المنطقة الخضراء في ذلك اليوم إن رئيس الوزراء أصدر أوامر صارمة لقوات الأمن تقضي بعدم استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين لأي سبب من الأسباب. وفي محاولة لتهدئة الوضع، أرسل الكاظمي وفدًا يضم وزير الداخلية ورئيس أركان الجيش إلى الخزعلي.
صرّح أحد القادة البارزين في قوات الحشد الشعبي لموقع “ميدل إيست آي” بأن “الكاظمي كان حريصًا على شرح موقفه للخزعلي والتأكيد على عدم إصداره أي أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين”. وحسب ما أفاد به قائد قوات الحشد الشعبي، وعد الخزعلي الكاظمي بعدم تصعيد الوضع أكثر، وأنه سينتظر نتائج التحقيق الذي فتحه.
وأضاف نفس المصدر أن “الجميع يعلم أن الخزعلي يحترم وعوده وأنه أكثر حكمة من توريط نفسه بشكل مباشر في عمل متهور كهذا”. ولكن في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر وفي تمام الساعة الثانية صباحا، استيقظت بغداد على وقع المزيد من الانفجارات وأصوات إطلاق النار ليتبين فيما بعد أن الكاظمي تعرض لمحاولة اغتيال، حسب ما صرحت به السلطات.
لكن رئيس الوزراء كان يقيم في مكان آخر ولم يصب بأي أذى، وإحدى الطائرات المسيرة الثلاث التي تم إرسالها لم تسقط، وتسببت في أضرار طفيفة عندما انفجرت على السطح.
بعد هذه الضجة، بدأت أصابع الاتهام تُوجّه إلى عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، إلى جانب الفصائل الأخرى المدعومة من إيران. وكان الخزعلي قد تلقى تحذيراً قبل يومين من إلقاء القبض عليه.
الخزعلي كان على علم بالعملية، ولكن الأمر غير واضح فيما يتعلق بشأن تورطه مع آخرين في التخطيط لتنفيذها
وقال ضابط عسكري كبير مطلع على سير التحقيقات لموقع “ميدل إيست آي” بأن “جميع التحقيقات والمعلومات الاستخباراتية المتاحة لنا تؤكد أن العملية نفذتها إحدى الفصائل المسلحة المدعومة من إيران”.
وأضاف “من الواضح أن الخزعلي كان على علم بالعملية، ولكن الأمر غير واضح فيما يتعلق بشأن تورطه مع آخرين في التخطيط لتنفيذها”.
مرت ثلاثة أسابيع على الهجوم، لكن السلطات لم تكشف بعد عن أي نتائج بشأن تحقيقاتها في العملية.
مع ذلك، كشف تقرير حصل عليه موقع “ميدل إيست آي” أعده مصدر عسكري له علاقة برئيس أركان الجيش، وتم تداوله داخلياً، أن الهجوم تم تنفيذه بطائرة مسيرة رباعية المراوح قصيرة المدى، وهو طراز زهيد الثمن تم استخدامه كثيراً من قبل الفصائل المسلحة المدعومة من إيران في العراق منذ تموز/ يوليو 2020.
كانت المسيرة التي ضربت منزل الكاظمي تحمل صاروخًا وزنه ثلاثة كيلوغرامات، وتطير بسرعة 60-70 كيلومترًا في الساعة.
وحسب التقرير، قطعت الطائرة المسيرة مسافة 7 كيلومترات. وتشير التقديرات إلى أن قطع هذه المسافة بتلك السرعة أثناء حمل الصاروخ يدل على أنه تم تعديلها بشكل احترافي.
وقال أحد كبار قادة الحشد الشعبي لموقع “ميدل إيست آي” أن “هذه الطائرات المسيرة بدائية الصنع، ولا يمكنها الطيران لمسافات طويلة بأوزان ثقيلة”.
وأضاف بأن “الفرضية المطروحة هي أن الطائرة إما أقلعت من داخل المنطقة الخضراء، أو جاءت من منطقة قريبة جداً، وقامت بالتحليق على طول السياج، وصولاً إلى منزل الكاظمي المطل على النهر”.
وأشار إلى أن “الاحتمالين قائمان إلى أن نحصل على صور الأقمار الصناعية أو يزودنا فريق التحقيق في محاولة اغتيال الكاظمي بالمعلومات التي حصلوا عليها”.
وخلص التقرير إلى أن المسيرة المعدلة مزودة بأربعة محركات كهربائية بسعة 320 كيلوفولت، كما أنها استخدمت أنظمة توزيع الطاقة البدائية وحزم بطاريات 18500 ملي أمبير في الساعة، لتتمكن من قطع 40 كيلومترا في 120 دقيقة.
وجاء في التقرير أن المعلومات المتوفرة حتى الآن حول الحادث، تُفضي إلى أن الهجوم كان تحذيريا، وليس تدميريا.
وأشار التقرير إلى أنه من المحتمل أن تكون الطائرات المستخدمة لاستهداف منزل الكاظمي قد تم توجيهها من قبل نفس الشخص الذي نفذ هجمات سابقة بنفس نوع هذه المُسيّرات في أربيل وبغداد في آذار/ مارس وتموز/ يوليو الماضيين.
من هو المشتبه به؟
قالت مصادر في مكتب رئيس الوزراء لموقع “ميدل إيست آي” أن الرئيس الأمريكي جو بايدن والاتحاد الأوروبي قد عرضا مساعدة العراق في التحقيق في الهجوم، لكن الكاظمي رفضهما.
يحاول الحشد الشعبي إجراء تحقيق خاص به، لكن قادة الحشد قالوا لموقع “ميدل إيست آي” إنهم يتعرضون للعرقلة، حيث يرفض الكاظمي تزويدهم بكاميرات المراقبة. وقال أحد قادة الحشد إن فريق الطب الشرعي في مكان الحادث قد تخلص من أهم دليل في العملية، وهو الصاروخ.
وقال ضابط كبير في قيادة العمليات العسكرية المشتركة لموقع “ميدل إيست آي” إن المحققين كانوا غاضبين ومتفاجئين من انفجار الصاروخ الذي عُثر عليه على سطح منزل الكاظمي، وأضاف بأنهم لا يعرفون من أعطى الأمر بتفجيره.
وأكد مسؤول بارز في الحشد الشعبي مقرب من إيران لـ”ميدل إيست آي” أن خبراء الحشد المشاركين في التحقيقات استبعدوا الولايات المتحدة من قائمة المشتبه بهم. وأضاف: “لا تعد العملية معقدة من الناحية التقنية. وأيا كان الجاني فهو ليس خبيرًا في هذا النوع من العمليات”.
يجري التحقيق الرسمي الذي يقوده مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي في كنف السرية، لكن بعض التسريبات تظهر بوضوح عدم تورط عصائب أهل الحق. وبدلا من ذلك، قالت مصادر إن فصيلا صغيرا مدعوما من إيران هو الذي نفذها.
ووفقا لما أفاد به مسؤول رفيع المستوى مطلع على سير التحقيقات لموقع “ميدل إيست آي”، فإن “كتائب سيد الشهداء هي المشتبه به الرئيسي في محاولة اغتيال الكاظمي. ويعلم كل القادة بذلك، لكنهم يلتزمون الصمت”. وتعتبر كتائب سيد الشهداء، التي تشكلت سنة 2014 لمحاربة تنظيم الدولة، المشتبه به الرئيسي في الهجوم الصاروخي الذي استهدف مطار أربيل في آذار/ مارس.
وقال مسؤول في الحشد الشعبي إنه لا توجد حتى الآن أدلة كافية تؤكد وقوف الفصيل وراء هجوم المنطقة الخضراء، لكنه لا يستبعد ذلك: “إنهم متهوّرون ومندفعون ويبحثون عن دور يلعبونه”.
دور إيران
أدانت إيران رسميًا هجوم المنطقة الخضراء ووصفته بأنه تهديد لأمن العراق. وفي اليوم التالي، أرسلت طهران إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، إلى بغداد. تجنب قاآني لقاء القيادات المقربة من إيران، ولم يجتمع إلّا مع الكاظمي وهادي العامري، أمين عام منظمة بدر، وهو أقدم فصيل شيعي مسلح تدعمه طهران.
وقال أحد قادة الحشد الشعبي المقرّب من إيران لموقع “ميدل إيست آي” إن قاآني نقل رسالة واضحة إلى الكاظمي وقادة الفصائل المسلحة مفادها أن “استهداف رئيس الوزراء بهذه الطريقة أمر مستهجن ويضر بالمصالح العليا للشيعة والعراق والأمن الداخلي”.
مع أن أغلب الخطب العلنية التي ألقاها القادة والمسؤولون العراقيون برّأت إيران من التورط في محاولة الاغتيال، إلا أن الأحاديث التي تدور وراء الكواليس تفيد بالعكس. والسؤال الأكبر بين دوائر السلطة والذي لم يجرؤ أحد على طرحه علنًا: ما هو دور إيران الفعلي في العملية؟
في مكتب الكاظمي، هناك شعور بأن طهران قد تكون متورطة في الهجوم، رغم تنديدها به في وقت لاحق.
عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله تمردت علنا ضد إيران في تحد صريح لأوامر قاآني
وقال مسؤول كبير مقرب من الكاظمي: “لا يمكنني أن أقتنع بأن فصيلا صغيرا مسلحا تصرف بمفرده. قد لا تكون العملية معقدة من الناحية التقنية لكنها تحتاج إلى جرأة كبيرة وحماية أكبر”.
وأضاف: “هذه الفصائل لا تخشى الحكومة العراقية، لكنها تخشى ايران ولا يمكنها الاختلاف معها فيما يتعلق بالقرارات المهمة. يقول الجميع إن الضربة لم تكن قاتلة لأن القذيفة لم تنفجر. لكن ماذا لو كان الكاظمي في المنزل في ذلك الوقت وانفجرت القنبلة؟ ماذا لو كانت الحسابات خاطئة وقُتل الكاظمي في الهجوم؟”.
هنا يأتي دور قيس الخزعلي. تقول مصادر في الحشد الشعبي إن عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله تمردت علنا ضد إيران في تحد صريح لأوامر قاآني.
وقال أحد قادة الحشد الشعبي إن الخزعلي وأبو حسين الحميداوي، أحد قادة كتائب حزب الله، أبلغا الإيرانيين أن دعم طهران للكاظمي للفوز بولاية ثانية أدى إلى شرخ بين الحلفاء.
وقال مسؤول عراقي كبير مقرب من رئيس الوزراء لموقع ميدل إيست آي: “أعتقد أن هناك طرفًا في إيران مسؤولا عن إعطاء الضوء الأخضر لهذه العملية. رغم معرفتهم بأن الكاظمي لم يكن موجودا في هذا المنزل، إلا أنهم أرادوا توريط الفصائل”.
ويضيف: “كانت عملية سريعة ومتقنة بخسائر محدودة، لكنها تعجّل بالتخلص من بعض الفصائل المسلحة التي أصبحت عبئا على إيران. قد تكون مجرد صفعة، حتى يرى قادة الفصائل بأنفسهم نوع المشاكل التي يمكن لإيران أن تخلقها لهم”.
المصدر: ميدل إيست آي