جاء المؤتمر الصحفي الذي عقدته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ليلة أمس، لتعلن من خلاله عن النتائج النهائية للانتخابات المبكرة في العراق التي أُجريت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لتضع حدًّا لماراثون الطعون المقدمة على نتائج الانتخابات، ولتفتح الباب واسعًا من جهة أخرى أمام معركة جديدة سيكون عنوانها “المصادقة على نتائح الإنتخابات”.
ويبدو أن هذه المعركة أيضًا ستطول، بناءً على الرفض المطلق من قبل العديد من القوى السياسية الخاسرة لهذه النتائج، والتي يأتي في مقدّمتها قوى الإطار التنسيقي الشيعي، كما عبّرت عن ذلك في بيان لها صدرَ عقب إعلان النتائح النهائية.
وفي هذا السياق، كانت قوى الإطار التنسيقي الشيعي قد سبقت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بخطوة واحدة، عندما رفعت دعوى قضائية أمام المحكمة الاتحادية الأسبوع الماضي، تطالب فيها البتّ بموضوع إلغاء الانتخابات قبل المصادقة على نتائجها، وهي خطوة جاءت بعد تطابق أغلب النتائج المطعون بها.
كما أن الاجتماع الذي عقده ممثّل قوى الإطار، قيس الخزعلي، مع ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جنين بلاسخارات، قبل أسبوعَين من الآن، قد بات بالفشل، ما يضع العملية السياسية بدورها أمام تحدٍّ خطير، خصوصًا إذا ما اتجهت قوى الإطار نحو التصعيد السياسي رفضًا لهذه النتائج، كما سبق وأعلنت عن ذلك، ما يجعل الأمور ماضية نحو مزيد من التعقيد.
خيار الصدام المباشر بين الطرفَين يبدو احتمالًا مستبعدًا لأسباب عديدة، فالصدر ورغم خلافه مع الفصائل قد لا يذهب باتجاه الصدام المباشر معها بالنهاية.
ممّا لا شك فيه أن قوى الإطار تدرك جيدًا مخاطر قبول نتائج الانتخابات على نفوذها ودورها في العملية السياسية، فتحوُّل خسارتها من انتخابية إلى سياسية يشير إلى أن هناك الكثير من التحديات التي ستواجهها، كما أن الإجماع الإقليمي والدولي الذي حظيت به العملية الانتخابية العراقية، يشير إلى أنها أصبحت طرفًا ضعيفًا بالمعادلة السياسية، ولم تعد تمتلك مزيدًا من الخيارات.
هذا مقابل إصرار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على تبنّي خيار الأغلبية الوطنية، ما يعني من جهة أخرى ذهاب قوى الإطار نحو المعارضة، وهو ما لا ترضى به في الواقع، لأن هذا الخيار سيجعلها في موقف سياسي حرج، لن تتمكن من خلاله عرقلة جهود حكومة يقودها الصدر، الذي سينفرد بالإجماع المحلي والإقليمي والدولي، وهو ما تدركه قوى الإطار، وتحديدًا الفصائل المسلَّحة الموالية لإيران منها.
ما بين الهوية “الشيعية الوطنية” التي يتبنّاها الصدر، والهوية “الشيعية الأممية” التي تتبنّاها الفصائل، تبدو إمكانية التعايُش بين الهويتَين في العراق صعبة للغاية
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأزمات ما بين الصدر والفصائل عادةً ما تنتهي بالتوافق السياسي أو الهدنة المؤقتة، خصوصًا أن الصدر يبدو غير قادر على إزاحة هذه الفصائل عن المشهد السياسي، كما أن الفصائل تبدو أيضًا غير قادرة على القفز على استحقاقه الانتخابي، حيث إن هناك سابقة سياسية وصل بها الصدر إلى تفاهمات واضحة مع هذه الفصائل.
ولعلّ تجربة اقتسام السلطة مع تحالف الفتح بعد الانتخابات البرلمانية في مايو/ أيار 2018، تعطي مثالًا واضحًا على ذلك، ورغم أن الصدر يبدو أكثر حذرًا هذه المرة من تكرار السيناريو السابق لأسباب داخلية وخارجية، إلا أن التداعيات الخطيرة التي قد تنجم عن الصدام بينهما، قد تدفع الأمور بالنهاية نحو التوافقية السياسية كما جرت العادة بالعراق.
كما أن خيار الصدام المباشر بين الطرفَين يبدو احتمالًا مستبعدًا لأسباب عديدة، فالصدر ورغم خلافه مع الفصائل قد لا يذهب باتجاه الصدام المباشر معها بالنهاية، كما أن هناك العديد من الضوابط؛ والحديث هنا عن “النجف وطهران” قد يمنع انزلاق العلاقات بين الطرفَين نحو استخدام السلاح، لما له من تداعيات كبيرة على استحقاقات “المكون الشيعي” و”النفوذ الإيراني” في المعادلة السياسية العراقية مستقبلًا.
الواقع السياسي مفتوح اليوم على خيارات عديدة، أبرزها أن يتمَّ التصعيد السياسي والمظاهراتي على بوابات المنطقة الخضراء، في حال ما إذا صادقت المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات.
إن الإشكال السياسي الحالي لا يمكن حصره بصورة رئيسية بنتائج الانتخابات، أو حتى بمسألة تشكيل الحكومة المقبلة، بل يتعلق أيضًا بنظرة كل طرف لشكل وماهية هذه الحكومة، وكيفية تعاملها مع الأطراف الإقليمية والدولية.
والأدق من كل ما تقدَّم؛ يتعلق الأمر بهوية الحكومة، فما بين الهوية “الشيعية الوطنية” التي يتبنّاها الصدر، والهوية “الشيعية الأممية” التي تتبنّاها الفصائل، تبدو إمكانية التعايُش بين الهويتَين في العراق صعبة للغاية، وهو واقع سبق أن حصل تاريخيًاّ، فلم يتمكن “المناشفة – الوطنية” من التعايُش مع “البلاشفة – الأممية” في الاتحاد السوفيتي، وهو صراع حصل بين فلاديمير لينين ويوليوس مارتوف قبل أن يحسم لينين الصراع للبلاشفة بالنهاية.
إن الواقع السياسي مفتوح اليوم على خيارات عديدة، أبرزها أن يتمَّ التصعيد السياسي والمظاهراتي على بوابات المنطقة الخضراء، في حال ما إذا صادقت المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات، وقد يصل الأمر إلى عرقلة جلسة البرلمان الأولى من أجل منع النواب الجدد من ترديد القسم، وهو واقع يفسِّر حالة الانسداد السياسي وغياب مسارات الثقة في العملية السياسية، التي تتعرض هي الأخرى إلى هزّات كبيرة بدأت تنخر في شرعيتها السياسية، وتعرّض مستقبل النظام السياسي لمزيد من التآكل، وهو أمر سيتوقف بالنهاية على سياسة الفعل وردّ الفعل بين الصدر والفصائل في قادم الأيام.