في الآداب الشعبية المصرية، هناك مركّب وصفي بليغ متداوَل على ألسنة العامة للإشارة إلى أوقات النكبات والكوارث، سواء كانت شخصية أم عامة؛ وهو وصف: الخراب المستعجل. في الواقع، تعدّ الديون نقيضًا لذلك بعض الشيء، فهي خراب، ولكنه خراب مؤجَّل. عملية تأخير للانهيار.
يقول الاقتصاديون المتخصصون إن هناك بعض الكلمات المفتاحية التي يمكن من خلالها توصيف سياسات النظام المصري الاقتصادية بداية من يوليو/ تموز 2013، وهي: الديون، العسكرة ومشاريع المقاولات. يشرف الجيش دائمًا وينفّذ في بعض الأحيان عددًا هائلًا من مشاريع المقاولات، التي تعتمد على أموال الديون الخارجية والداخلية.
تحقِّق هذه السياسة فوائد كثيرة للنظام الحالي، منها: تشغيل عدد كبير من الشباب من ذوي القدرات التقنية البسيطة لعدة سنوات متتالية، وإبراز أن هناك عملًا دائمًا يجري على أرض الواقع، على طريقة “ذرّ الرماد في العيون”، وتوريط الجيش، دائمًا، في صلب مشاريع الرئيس، القادم بدوره من المؤسسة العسكرية، ما يحقِّق للضبّاط مكاسب في الظل، وفي الوقت نفسه يجعلهم رهائن دائمين لرؤية الرئيس.
الديون كأداة تمويل: الادعاءات والتبعات
المشكلة أن الديون، بطبيعتها كأداة تمويل، خيار صعب، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى القومي؛ فلكيْ تستدينَ على نحو مطّرد، تحتاج إلى “أصل” يمكن اعتباره ضامنًا لدفع الديون، وفي الوقت نفسه إنك تقوم بردّ الدين خلال فترة زمنية محدَّدة مضافًا إليه فائدة الدين نفسه، والتي تزيد كلما ارتفعت المخاطر واحتمالية عدم السداد من جهة، وكلما زادت شراهتك على الاستدانة من جهة أخرى.
الأمر أكبر من أسطورة: كل الدول تستدين، والدين المصري في الحدود الآمنة، تلك التي يروّجها النظام لتسويغ شراهته على الاستدانة.
السردية التي يبرر لها النظام المصري توسعه في الاستدانة، أن معظم الاقتصادات المعاصرة تقوم على متوالية الدين، بما في ذلك الدول الكبرى كالولايات المتحدة واليابان، وأن النظام الحالي يحافظ على الدين في حدوده الآمنة؛ ولكن ما صحّة هذه الادّعاءات؟
يُقيِّدُ المتخصصون العاملون في مؤسسات اقتصادية مرموقة هذين الشرطين عادة بعدة عوامل أخرى متعاضدة لا يمكن التغاضي عنها عند تقييم علاقة المدين بالدائن.
على سبيل المثال وليس الحصر: ما هي مصادر الديون؟ هل هي مصادر آمنة أم مرتبطة بأدوات هيمنة تؤثر على القرار الداخلي؟ ما هي أنواع الدين من حيث مصادر الاستدانة؛ داخلي وخارجي؟ ما هي مصادر الدين الخارجي؟ ما هي أنواع الدين من حيث مُدَد السداد، قصير ومتوسط وطويل الأجل؟ ما هي معدلات تصاعد الديون؟ ما هي القطاعات التي تستحوذ على أموال الديون، إنتاجية تحفز الاستهلاك المحلي وتقلل فاتورة الاستيراد بالنقد الأجنبي أم ريعيّة؟ ما هي نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي؟ ما هو متوسط نصيب الفرد من الديون؟
بدأت علاقة النظام المصري بالديون من جانب الاستعانة بالمساعدات الخليجية، ثم تطورت إلى الاقتراض من المؤسسات الدولية، وصولًا إلى إصدار سندات متنوِّعة بالعملة الأجنبية ذات فوائد عالية وثابتة.
تبدو الأمور متشابكة كثيرًا، فمصدر الدين، ونوعه، وطريقة إنفاقه، وعلاقته بالمؤشرات الأخرى، وطبيعة علاقات القوى بالاقتصاد الذي يُضَخّ فيه الديون، كلها عوامل معتبرة، والأهم أن الأمر أكبر من أسطورة: كل الدول تستدين، والدين المصري في الحدود الآمنة، تلك التي يروّجها النظام لتسويغ شراهته على الاستدانة.
في السنوات السبع الأخيرة، بدأت علاقة النظام المصري بالديون من جانب الاستعانة بالمساعدات الخليجية، تلك التي يحصل عليها النظام من حلفائه بتسهيلات ميسِّرة، ثم تطورت إلى الاقتراض من المؤسسات الدولية، كصندوق النقد والبنك الدولي بدايةً من نوفمبر/ تشرين 2016، وصولًا إلى إصدار سندات متنوِّعة بالعملة الأجنبية ذات فوائد عالية وثابتة فيما تُعرَف بأنها شكل من أشكال “الهوت ماني”، أو المال الساخن.
بالتوازي مع ذلك، توسّعَ النظام في الاقتراض المحلي، من خلال الاقتراض من المصارف الوطنية، الحكومية والخاصة، وذلك من أجل ضخّ هذه الأموال في المشاريع “القومية” التي يشرف عليها، أو ينفّذها الجيش، في كل بقعة تقريبًا من الأراضي المصرية، وهو ما يدفع تلك المصارف إلى إقراض المؤسسات الحكومية بفوائد مرتفعة بمخاطر أقل، لأن الحكومة هي التي ستدفع، ما يعوق إقراض القطاع الخاص ما لم يكن شريكًا للحكومة في تلك المشاريع.
تزامن ذلك الشره إلى الاقتراض أيضًا مع موجة هائلة من تخفيض الإنفاق الوطني عن أبواب الدعم والخدمات الجماهيرية غير المدرّة لعوائد سريعة كالتعليم والصحة، مع ارتفاع كبير في الأسعار، بسبب رفع أسعار معظم الخدمات الأساسية، كالوقود والكهرباء، وتعويم العملة المحلية، وفرض ضرائب جديدة على المعاملات التجارية، أبرزها ضريبة القيمة المضافة التي حلَّت بديلًا لضريبة المبيعات ضمن توصيات المؤسسات الدولية المانحة، ورغم معارضة كثير من شركات القطاع الخاص.
ارتفع الدين العام الداخلي في تلك الفترة أيضًا بنسبة 200% تقريبًا، ليصل إلى 4502 مليار جنيه، بعد أن كان 1527 مليار جنيه عام 2013.
أبرز المشاريع القومية التي التهمت وما زالت تلتهم أموال الديون المحلية والأجنبية، هي إنشاء تفريعة ثانية لقناة السويس بطول 35 كيلومترًا خلال عام واحد بقيمة 8 مليارات دولار أمريكي عام 2015، وتدشين مشروع العاصمة الإدارية الجديدة الذي يضمُّ سلسلة من أفخم مسجد وكنيسة وملعب ومبنى حكومي بقيمة إجمالية تصل إلى 58 مليار دولار، بالإضافة إلى مشاريع النقل فائق السرعة التي يكلّف واحد منها فقط 23 مليار دولار، وغير ذلك من المشاريع المشابهة التي تمّت بسرعة كبيرة، في مجالات المقاولات، وبتكلفة مهولة، فيما أثبتت التجربة أنه لم يكن هناك داعٍ لتنفيذها على هذا النحو مثل مشاريع الطاقة الكهربائية العملاقة، والتي ستزيد مشروعًا مع تدشين مشروع محطة الضبعة المموَّل بقروض روسية بقيمة 25 مليار دولار تقريبًا.
فاتورة باهظة
في المحصلة النهائية وبسبب هذه السياسة، وصلت نسبة الدين العام من الناتج المحلي إلى أكثر من 96% وفقًا لتقديرات البنك الدولي لعام 2021، وذلك بزيادة قدرها 87% عمّا كانت عليه قبل أحداث يوليو/ تموز 2013.
وارتفع الدين الخارجي على حدة لكي يتجاوز 140 مليار دولار في التقارير الأخيرة، بينما كان يصل إلى متوسط 40 مليار دولار فقط، بعد أحداث 3 يوليو/ تموز 2013 وتوابعها، وقبل صعود السيسي إلى الحكم بشكل رسمي، كما ارتفعت نسبة فوائد الدين وسداد القروض السنوية إلى أكثر من “ثلث” الموازنة العامة، بمتوسط 35 مليار دولار عام 2021.
كذلك، ارتفع الدين العام الداخلي في تلك الفترة أيضًا بنسبة 200% تقريبًا، ليصل إلى 4502 مليار جنيه، بعد أن كان 1527 مليار جنيه عام 2013.
كسر دائرة الدين لا يتم إلا بتوجيه هذه الأموال لقطاعات إنتاجية حقيقية يتم من خلالها سداد الأقساط والفائدة بصورة آمنة، وهو ما لم يحدث مصريًّا بعد.
وفقًا لهذه المؤشرات أيضًا، قفزَ نصيب الفرد من الدين “الخارجي” إلى 1193 دولارًا أمريكيًّا عام 2021، وهو عائد توزيع إجمالي الدين الخارجي على عدد المصريين، مقابل 475 دولارًا عام 2013، مع ملاحظة أن الزمن الفعلي لدفع هذه القروض وأقساطها يمتدُّ عمليًّا إلى عام 2071.
مؤخرًا، لجأت الحكومة إلى التوسع في إصدار نوع آخر من الديون، وهو السندات متنوِّعة الآجال ثابتة الفوائد في الأسواق الدولية بالعملات الأجنبية، رغم توقفها عن ذلك حتى عام 2010، كما فتحت الباب أمام استثمار المؤسسات الدولية في أدوات الدين المحلي، كما حدث مع “يوروكلير”، الأمر الذي قوبل بعاصفة شديدة من الانتقادات، بسبب احتمال تعرض الأصول المصرية للمصادرة حال تعثر الدفع.
المشكلة الحقيقية أنه رغم هذا الثمن الفادح المدفوع خلال عقد تقريبًا عبر التوسُّع في الاستدانة، فإن المؤسسات الدولية المحايدة تقول إن بنية الاقتصاد المصري لم تتغير إيجابيًّا بعد، من حيث تشجيع القطاع الخاص ومكافحة الاحتكار والتسهيلات الجمركية والتوسع في الصادرات غير النفطية، وهو ما يلقي بدوره الضوء على طريقة معالجة الديون، وهي: المزيد من الاستدانة وفقًا لنصّ كلام وزير المالية؛ ذلك لأن كسر دائرة الدين لا يتم إلا بتوجيه هذه الأموال لقطاعات إنتاجية حقيقية يتم من خلالها سداد الأقساط والفائدة بصورة آمنة، وهو ما لم يحدث مصريًّا بعد!