تُعرف مدينة طبرقة الواقعة في شمال غرب تونس بجمالها الساحر وهدوئها الكبير، ما جعلها قبلة آلاف السياح الهاربين من ضوضاء المدينة وصخبها، لكن طبرقة الآن أصبحت تُعرف بشيء آخر، فقد تغير الأمر كثيرًا.
مؤخرًا تحول مطار طبرقة الذي كان يستقبل السياح القادمين من مناطق عدة داخل وخارج تونس، إلى شبه مركز لتجميع المهاجرين غير النظاميين المرحلين من فرنسا، بعد أن أعطى الرئيس قيس سعيد الضوء الأخضر لذلك مقابل التمويل وفي مسعى منه لتبييض صورته لدى باريس وروما، وسعيًا للفوز بدعمهما لإجراءاته.
تجميع المهاجرين
مؤخرًا تعالت أصوات العديد من الأهالي في محافظة جندوبة، مطالبة السلطات بإعادة تنشيط مطار طبرقة في أقرب الآجال لما يمثله المطار من دور سياحي واقتصادي وتنشيطًا للجهة، فهذا المطار الذي تصل طاقة استيعابه إلى 200 ألف مسافر سنويًا من أبرز مكونات البنية الأساسية بطبرقة، إلا أنه ظل خلال السنوات الماضية في شبه عطلة واكتفى برحلة أو رحلتين في أفضل الحالات.
تحقق لهم ذلك، لكن ليس بالصورة التي يُريدونها، فقد تم إعادة افتتاح المطار، لكن كي يستقبل التونسيين المرحلين من فرنسا وإيطاليا، إذ شهدت عمليات ترحيل المهاجرين التونسيين غير النظاميين ارتفاعًا ملحوظًا، وذلك بمعدل 3 رحلات أسبوعيًا.
وفق عديد من التونسيين في فرنسا وإيطاليا، فإن عمليات الترحيل ما زالت متواصلة، خاصة بعد تكثيف سلطات هذين البلدين لعمليات القبض على التونسيين الموجودين هناك بصفة غير قانونية، تحضيرًا لترحيلهم إلى تونس، بعد أن وافقت السلطات التونسية على ذلك.
تحدثت تقارير عديدة عن توقيع تونس اتفاق سري مع كل من إيطاليا وفرنسا يقضي بحصولها على مبلغ مالي مقابل الموافقة على ترحيل المهاجرين التونسيين غير النظاميين
يذكر أنه في 28 من سبتمبر/أيلول 2021، أعلن المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابريال أتال أن بلاده قررت تشديد شروط منح تأشيرات الدخول إلى مواطني المغرب والجزائر وتونس، وذلك لرفض هذه الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مواطنيها الذين يوجدون في فرنسا بشكل غير قانوني، لكن تونس تراجعت عن الرفض وقبلت بالأمر فيما بقيت كل من الجزائر والمغرب على مواقفهما الأولية.
وكان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابرييل أتال، قد أكد في حوار أجرته معه القناة الفرنسية “سي نيوز” وتناقلته مختلف وسائل الإعلام المحلية وجود تعاون تونسي في ملف ترحيل المهاجرين غير نظاميين من الأراضي الفرنسية، وترحيل مئات التونسيين من فرنسا، بعد حصولهم على التصاريح القنصلية.
ويوجد الآلاف من التونسيين داخل فرنسا وإيطاليا فضلًا عن دول أوروبية أخرى دون تصاريح إقامة قانونية، قدموا عبر البحر الأبيض المتوسط أو قدموا للسياحة لكن تجاوزوا المدة القانونية لبقائهم في هذه الدول، ويصر الأوروبيون على ترحيلهم.
صفقة
عمليات الترحيل المتواصلة للشباب التونسي، تؤكد خضوع تونس للضغوط الأوروبية في معالجة ملف الهجرة غير النظامية التي كانت من نتائجها على أرض الواقع المقاربة الأمنية التي اعتمدتها السلطات التونسية.
هذه المقاربة الأمنية التي حرص الرئيس قيس سعيد على تطبيقها بشدة، أسفرت عن منع نحو 20 ألف مهاجر سري من الوصول إلى إيطاليا خلال سنة 2021، فضلًا عن إظهار الجانب التونسي استعداده لتقديم كل التنازلات في علاقة بهذه القضية لإرضاء شركائه الأوروبيين حتى لو كانت على حساب حقوق المهاجرين.
وتحدثت تقارير عديدة عن توقيع تونس اتفاق سري مع كل من إيطاليا وفرنسا يقضي بحصولها على مبلغ مالي مقابل الموافقة على ترحيل المهاجرين التونسيين غير النظاميين وحراسة الحدود البحرية ومنع تدفق المهاجرين نحو السواحل الأوروبية، وهو ما يُفسر تشديد السلطات التونسية حراستها على سواحل البلاد وإجلائها مئات المهاجرين من جنسيات مختلفة رفضت السلطات الأوروبية الاستجابة إلى طلب استغاثة أطلقوه الخميس الماضي بعد تعطّل مركبهم في المياه الإقليمية.
#Tunisie
النائب المجمد الكرباعي : “مقابل 8 مليون يورو تم ترحيل التونسيين من ايطاليا الى مطار طبرقة.”
تم نفس الشيئ مع فرنسا كذلك.
هذه هي سياسة قيس سعيد. ترحيل الشباب مقابل زوز فرنك.#تونس
— Nabilion De Paris (@NabilionDeParis) November 30, 2021
تقول الجهات الرسمية الأوروبية إن هذا التمويل المقدم إلى تونس الهدف منه توفير فرص شغل للشباب المرحل وتحسين جاهزية تونس لحراسة الحدود البحرية والتصدي لقوارب الهجرة غير النظامية التي تتدفق نحو السواحل الأوروبية.
يؤكد هذا الأمر أن تونس وفرنسا وإيطاليا تخلوا عن واجباتهم القانونية والإنسانية والأخلاقية في التعامل مع المهاجرين غير النظاميين، وهو ما يثقل كاهل المهاجرين الذين غادروا أوطانهم وتوجهوا نحو دول أوروبا رغم مخاطر الرحلة، أملًا منهم في الحصول على حياة أفضل.
وسبق أن أكد الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية في تونس اعتزام فرنسا طرد أكثر من 3400 مهاجر تونسي غير نظامي، وفي المقابل تتكتم تونس كليًا على هذا الموضوع الخطير والغامض ولا تقدم أي إحصاءات أو معطيات تتعلق بالموضوع لإنارة الرأي العام وإدارة هذا الملف في كنف الشفافية، بحسب قوله.
وأوضح بن عمر أنه “لم يتم احترام التراتيب الإجرائية للأشخاص المشمولين بقرارات الترحيل من السلطات الفرنسية، فأغلب الملفات في طور التسوية من أجل الحصول على شهادات الإقامة والبعض من الموقوفين يعملون وليس في حقهم أي تتبعات قانونية”.
أمام هذه العزلة، يبدو أن قيس سعيد يُتاجر بأحلام الشباب التونسي ويقف أمام طموحهم ويسهل عودتهم إلى الأرض التي خرجوا منهم مرغمين
سبق أن كشفت بيانات رسمية لوزارة الداخلية الإيطالية عن وصول 15 ألفًا و52 مهاجرًا تونسيًا إلى سواحلها في الفترة الممتدة بين يناير/كانون الأول و26 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الحاليّ، فضلًا عن وصول 1615 قاصرًا من دون مرافق، تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عامًا، حتى أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تغطية على الانتهاكات
إلى جانب جني بعض المال، يسعى قيس سعيد من خلال تحويل تونس إلى مركز لتجميع المهاجرين غير النظاميين سواء التونسيين أم الأجانب إلى تبييض صورته لدى الدول الأوروبية والتغطية على الانتهاكات التي يتعرض لها التونسيين منذ 25 يوليو/تموز الماضي.
وتعيش تونس منذ ذلك التاريخ، تراجعًا كبيرًا في مستوى الحريات، إذ تم القبض على العديد من النواب والسياسيين والمسؤولين السابقين والإعلاميين والمدونين، بتهم تتعلق بالإساءة للرئيس وتهديد أمن البلاد وسلامة وحدتها.
كما تم غلق العديد من المؤسسات الإعلامية والتضييق على الصحفيين ومنع التظاهر ضد قرارات الرئيس وممارسة العنف ضد محتجين على سياسات الدولة، الأمر الذي نددت به العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
ترحيل التونسيين من فرنسا يجدد جرح الاحتلال و الاستغلال القديم.. والوجع أكثر من تعاون نظام الانقلاب معها
مثل طرد مئات التونسيين من فرنسا وترحيلهم قسرا بمساعدة نظام الانقلابي قيس سعيد جرحا غائرا لدى التونسيين.
— بو شاشية ?? (@boushashia1) November 7, 2021
كان قيس سعيد قد جمد ليلة 25 يوليو/تموز الماضي عمل مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب وأقال رئيس الحكومة وقرر الجمع بين السلطة التنفيذية والتشريعية ووضع يده على السلطة القضائية، الأمر الذي اعتبره أغلب الطيف السياسي في البلاد انقلابًا دستوريًا وعرفه قيس سعيد بأنه تصحيح مسار.
منذ ذلك التاريخ يواجه قيس سعيد عزلة دولية، إذ تحثه أغلب الدول بما في ذلك الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على تحديد سقف زمني لقراراته الاستثنائية والعودة إلى المسار الدستوري والديمقراطي في البلاد، حشية انزلاق تونس في متاهات كبرى.
أمام هذه العزلة، يبدو أن قيس سعيد يُتاجر بأحلام الشباب التونسي ويقف أمام طموحهم ويسهل عودتهم إلى الأرض التي خرجوا منهم مرغمين، رغبة منهم في تبييض صورته أمام الغرب، رغم أنه ما فتئ يؤكد حرصه على تحقيق آمال التونسيين بحياة أفضل تقطع مع المعاناة.