لطالما كانت مدينة القدس المحتلة إحدى أهم ركائز الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، فبين فلسطيني تشهد له حجارة المدينة على حقه فيها، وأنه صاحب الأرض المقدسة، وبين احتلال يحاول أن يصنع أدلة وجوده ببارودته وجرّافاته؛ فيهدمُ البيوت، ويجرف المقابر، ويواصل من حفرياته تحت المسجد الأقصى في بحث محموم عن هيكل وهميّ مزعوم، ويخوض أقسى الإجراءات التضييقية على سكان المدينة المقدسة لتهويدها، وإحلال مستوطنين يهود بدلًا من سكانها الأصليين.
ومع محاولات التهويد هذه، نشأت العديد من المبادرات التي توازي الجهد المقاوم في الميدان، وذلك من خلال حفظها وتوثيقها للقضية المقدسية تحديدًا، وتشكيل مراجع موثَّقة حول تاريخ المدينة، وترسيخ الوعي المقدسي بجغرافية القدس وتاريخها السياسي.
في هذه الحوارية من ملف “حرّاس الرواية الفلسطينية”، يحاور “نون بوست” باحثتين من مؤسسة الجذور الشعبية المقدسية، من قلب العاصمة الفلسطينية المحتلة.
هنادي عدامة، باحثة في المؤسسة منذ عام 2008، وهي خريجة الإعلام وعلم الاجتماع في جامعة بيرزيت، وأسماء عودة الله، خريجة العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، ومهتمة في التاريخ والواقع السياسي والاجتماعي في القدس، وقد تناوبتا في الإجابة عن أسئلتنا.
– بداية، لو تخبرانا كيف بدأت فكرة الجذور الشعبية المقدسية؟
انطلقت مؤسسة الجذور الشعبية المقدسية عام 2011 من قلب مدينة القدس، وتتطلع المؤسسة منذ تأسيسها حتى اليوم إلى دعم الصمود المقدسي في المدينة، من خلال مدّه بالقاعدة المعرفية التي يحتاجها إذ نبحث في القدس تاريخها وواقعها، ونجري أبحاثًا ميدانية بهدف قصّ حكاية القدس عن طريق سرد تاريخ أحيائها وقراها ومخيّماتها، وأنتجنا مؤخرًا أبحاثًا لما يقارب 40 قرية وحيًّا.
بالإضافة إلى هدف مركزي للمؤسسة منذ تأسيسها، وهو دعم الحراكات والمبادرات المجتمعية في المدينة والتشبيك بينها.
كما نركّز في عملنا على ما نسمّيه بـ”السياحة التحرّرية“، وذلك من خلال تقديم جولة سياسية تروي حكاية القدس من وجهة نظر فلسطينية، وتستعرض الواقع السياسي الذي يعيشه المقدسيون تحت الاحتلال الصهيوني، وتشرح الجولة بالأساس سياسات التهجير الممنهَجة التي تهدف لمحو الوجود الفلسطيني من مدينة القدس، منها سحب تصاريح الإقامة وسلب الأراضي وهدم البيوت، بالإضافة إلى إنتاج دليل سياحي سياسي للقدس.
– لو نسلّط الضوء على رحلة صناعة الرسالة التي تقدمونها؛ كيف تجمعون المعلومات وتتأكدون منها، وتقدمونها بالقالب الذي يخدم هدفكم؟
تتعدد وتتنوع مصادر المعلومات التي نستخدمها كمرجع في أبحاثنا، نعتمد بشكل أساسي على مصدرَين: الرواية الشفوية من خلال عمل مقابلات من جهة، وعلى الكتب والمراجع الأساسية التي أرّخت ووثّقت لأحداث فلسطين، وجغرافيتها وتاريخها السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.
كما نقدِّم المعلومة بقالب يجمع ما بين البحثي والأدبي دون إغفال ضرورة التوثيق، ونحاول الابتعاد عن “الجمود” بكتابة النص وجعله أكثر سلاسة وقربًا من المتلقي، ونسعى من خلال عملنا إلى تطوير منهجية بحث شاملة عن القدس تجيب عن سؤال “كيف نبحث مقدسيًّا؟”، تخدم في نشر وتعميق المعرفة في القدس تاريخًا وواقعًا، ومعنيّة برصد التغيرات التي تجريها البنية الاستعمارية في المدينة.
– في الحديث عن الرسالة.. نلاحظ تنوُّع محتواكم ما بين اللغتَين العربية والإنجليزية، ما السبب في ذلك؟
نؤمن في مؤسسة الجذور الشعبية المقدسية بضرورة بناء العلاقات مع الأطر والحراكات التحررية الفاعلة على المستويَين العربي والعالمي، ومواجهة الدعاية الصهيونية والعالمية حول الواقع الفلسطيني والمقدسي، من خلال تأكيد الرواية الفلسطينية العادلة والمقاوِمة مكرّسةً جميع الأدوات تحقيقًا لذلك، منها نشر السردية الفلسطينية فيما يخص مدينة القدس تحديدًا، من تاريخها وواقعها، إلى أوسع جمهور ممكن سواء محليًّا أو عالميًّا.
– السياحة قطاع مهم في تعريف الوافدين بفلسطين، كيف يستغلّها الاحتلال في تزييف الحقائق؟
يهدف الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بالأساس إلى محو الفلسطينيين، والسيطرة على من تبقّى منهم، وإن الاستحواذ الصهيوني على كافة القطاعات، ومنها القطاع السياحي، يتمّ من خلال السيطرة المباشرة على الجغرافيا والحيّز وما يشمله من السيطرة على الأماكن الدينية والمواقع التاريخية، بالإضافة إلى المعالم الطبيعية، والسيطرة على الرواية التاريخية وإقصاء الرواية الفلسطينية، وتوجيه حركة الزائرين من خلال الخرائط والمسارات والأدلة السياحية.
بالإضافة إلى إعاقة الحركة السياحية عن القرى والمدن الفلسطينية، من خلال عزلها عن المسار السياحي عن طريق جدار الضمّ والتوسُّع، وعدم إدراج المواقع السياحية فيها ضمن البرامج والأدلة السياحية التي تصدرها السلطات الإسرائيلية؛ كلّها عوامل تحاول فرض سيادة بصرية تخلق هوية جديدة للقدس على حساب هويتها العربية، وما يتبع ذلك من فرض سيادة سياسية واقتصادية وثقافية على المدينة.
– ما دور المؤسسة مع السيّاح الوافدين إلى المدينة المقدسة؟
في مقابل السياحة الموجَّهة التي يحاول الاحتلال فرضها على الزائرين، نحاول في مؤسسة الجذور الشعبية المقدسية تقديم سياحة تحررية بديلة، تعمل على تصويب نظرة السائح الأجنبي تجاه القضية الفلسطينية وقضايا الاستعمار والاستشراق، التي تبلورت وفق منظومة سياسية ودولية وتحالفات عالمية؛ وهو ما يدفع نحو خلق حالة من المناصرة العالمية للقضية الفلسطينية، بوصفها قضية عدالة إنسانية.
وتحقيقًا لذلك، تقوم المؤسسة بتطوير وسائل وأدوات تعزز تلك الرؤية، من بينها الجولة السياسية آنفة الذكر، بالإضافة إلى ذلك أصدرنا عام 2019 نسخة ثانية اسمها “وجود” من دليل الجذور الشعبية السياحي السياسي لزوّار مدينة القدس، يسعى لتقديم المعرفة غير المتاحة لأغلب السيّاح في فلسطين المحتلة.
فمن ناحية، يضع الدليل القدسَ في سياقها التاريخي السياسي من المنظور الفلسطيني، الذي يسعى الاحتلال إلى تغييبه، ومن ناحية أخرى يعرض على السيّاح أماكن للزيارة والمبيت والتسوّق في شرق القدس المحتلة، حيث “وجود” من جهة يعدّ دليلًا سياحيًّا للزوّار، ومن جهة أخرى يعدّ مرجعًا للمعلومات حول القدس لكل من هم خارج فلسطين ويودّون معرفة القصة الحقيقية للمدينة.
– ما هي المصاعب التي تمرُّ بها المبادرة اليوم؟
تمرُّ مؤسستنا كما المؤسسات والمبادرات التي تحاول التحرُّر من التمويل المشروط، عمومًا، بأزمات وصعوبات مالية، إذ نعمل منذ عام 2015 على بناء نموذج تمويلي يضمن الحدّ الممكن من الاستقلالية للمؤسسة، وتشكّل الصعوبة المالية العائق الأساسي لعمل المؤسسة.
– بالحديث عن المصاعب، هل حاول الاحتلال التضييق عليكم بطريقة أو بأخرى؟
حتى الآن لم يحصل تضييقات مباشرة على المؤسسة، وهذا لا يعني أن السياق السياسي للمدينة والتضييقات عليها لا تؤثِّر على عملنا؛ على سبيل المثال، إن الصعوبات العملية التي خلقها الاستعمار، كعرقلة الحركة سواء بفعل الحواجز العسكرية أو جدار الضمّ والتوسع، تشكّل صعوبة في التنقُّل في محافظة القدس، التي فصلها الاستعمار عن الكثير من قراها وأحيائها.
– ما هي المخاطر من وجهة نظركم، والتي تحيط بالرواية الفلسطينية تحديدًا فيما يخص الشقّ المقدسي منها؟
يعمل الاستعمار الصهيوني ومؤسساته على تغييب الرواية الفلسطينية ومحاولة طمسها، من خلال السيطرة والتضييق على أي مبادرة معرفية وتحرُّرية، وكون موازين القوى لصالحه إذ هو من يملك السلطة والموارد، وبالتالي هو القادر الأكبر على إظهار روايته، وعلى سبيل المثال لا الحصر تحارب مواقع التواصل الاجتماعي المحتوى الفلسطيني، وتعمل على حجب العديد من الحسابات التي تساهم في نقل الممارسات الصهيونية-الاستعمارية بحقّ الفلسطينيين.
مثال آخر يتعلق بالشق المقدسي تحديدًا، يسيطر الاحتلال على الحركة السياحية والثقافية في المدينة، ما يشكّل خطورة إضافية على السردية الفلسطينية فيما يخصها، إذ ينكشف السيّاح على رواية أحادية الجانب، تخضع بالضرورة لعلاقات القوة.
– في الحديث عن هذه المخاطر، كيف ترون أنفسكم مساهمين في حفظ الرواية الفلسطينية؟
بالطبع حفظ الرواية الفلسطينية لا يمكن أن يكون مهمة مؤسسة واحدة، إنما هي جهود مشتركة تتوزّع على العديد من الجهات التي تكمل بعضها، ومن خلال عملنا نحاول أن نبقي الرواية الفلسطينية حيّة عن طريق عكسها في إنتاجاتنا المعرفية المختلفة سواء كانت أبحاثًا أو مقالات أو خرائط أو جولات.
– القدس قضية حساسة في العقائد الفلسطينية والعربية، هل مُدَّت لكم أيادٍ من مؤسسات رسمية لدعم الجذور المقدسية؟
لا. أقرّت السلطة الفلسطينية عام 2018 إجراءات جديدة لتحويل الأموال للمؤسسات غير الربحية، تشترط استلام موافقات الجهات المتعلقة كالوزارات والأجهزة الأمنية، لإتاحة تحويل دفعات المموِّلين إلى حسابنا البنكي، استغرقت هذه الإجراءات مدة عامَين كاملَين لم نتمكن خلالهما من استلام أي منح من المموِّلين، ولربما كان في ذلك دلالة على الجوّ العام الذي تعمل فيه مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، وهذا لا ينفي علاقاتنا وشراكتنا مع العديد من المؤسسات الفلسطينية التي نتقاطع معها في الرؤية والأهداف.
– أين ترون الجذور الشعبية المقدسية مستقبلًا؟
في المستقبل البعيد، نطمح في أن تنتهي الحاجة لوجود المؤسسة وعملها، بمعنى أن أرشيفنا عن القدس قد تكوَّن، ونجحنا في خلق منهجية البحث وتدريب باحثات وباحثين ليمضوا فيها قدمًا، كما أننا نجحنا في بناء شبكات تجمع مؤسسات وحراكات مقدسية تخطِّط وتبني وتعمل معًا في سبيل تحقيق الرؤية المقدسية.
أما في المستقبل القريب، فهدفنا أن نعزز مكانتنا كمصدر موثوق ومعروف للمعلومة عن القدس، ومنصّة للحراك المحلي تجمع شمل أحياء وقرى القدس المشرذمة بفعل الاحتلال في إطار مشاريع مشتركة.