“بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السيّاحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه، وبقيت الأخرى، الرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه، وبلوغ المرام من دخول الجنة”، بهذه الكلمات يصفُ ابن بطوطة 30 عامًا من الترحال في البلاد من المغرب الأقصى وحتى نهاية العالم المعروف في ذلك الزمان شرقًا على تخوم الصين.
في هذا التقرير من ملف “الرحالة” سنرتحل مع ذلك الفتى الطنجي، باحثين عن إشباع شغف التعرُّف إلى أحوال البلاد والعباد وواقعهم في القرن الرابع عشر الميلادي، في رحلة هي الأطول على الإطلاق حتى ظهور عصر النقل البخاري، بعد أكثر من 4 قرون من رحيل ابن بطوطة.
من يكون ابن بطوطة؟
هو محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي من قبيلة لواتة الأمازيغية، وُلد في مدينة طنجة المغربية 24 فبراير/ شباط 1304م، وتوفي فيها سنة 1377م، لعائلة كانت تمتهنُ القضاء عند الدولة المرينية، وهي سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب الأقصى من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر ميلادي.
وقد تعهّده والداه بالرعاية لإعداده لتولّي منصب القضاء كما هي عادة أسرته التي اشتهرت بهذه المهنة، لكن مع بلوغه سن الـ 21 قرّر ابن بطوطة الرحيل من المدينة متوجِّهًا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحجّ في رحلة تستغرق عامًا ونصفًا، لكنه لم يرَ بعدها المغرب لمدة 24 عامًا.
للأسف لم يصلنا الكثير عن حياة ابن بطوطة، باستثناء القليل الذي ذكره هو عن نفسه خلال سرده لتفاصيل رحلاته في كتابه الشهير “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، المعروف أيضًا باسم رحلة ابن بطوطة، ولكن رحلته الطويلة وتفاصيلها ستمنحنا الكثير من المعرفة بهذه الشخصية التي ستحمل لقب الرحّالة والمؤرِّخ والقاضي والجغرافي في مسيرة حافلة من الاستكشاف.
رحلة ابن بطوطة
“من طنجة مسقط رأسي يوم الخميس 2 رجب 725هـ/ 1324م معتمدًا حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، منفردًا عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وَصَبًا، ولقيت كما لقيا نَصَبًا”.
بهذه الكلمات وصف ابن بطوطة بداية قصته التي زار فيها العديدة من المدن والجزر والبحار التي تقع في قارات العالم القديم الثلاث، وتشمل أكثر من 44 دولة، منطلقًا من المغرب الأقصى وصولًا حتى الصين وماليزيا والفلبين.
قطع في رحلته أكثر من 75 ألف ميل (121 ألف كيملومتر)، وهي مسافة لم يقطعها أي رحّالة في التاريخ البشري حتى ظهور عصر النقل البخاري، بعد أكثر من 4 عقود من وفاته، وبذلك استحقَّ أن يكون أمير الرحالة.
اعتمد ابن بطوطة في ترحاله على موهبته في الشعر، فكان يمدح ملوك البلدان التي يدخلها ويستخدم هباتهم المالية كمورد لتمويل رحلته والاستمرارية فيها، وسبق توقيت انطلاق رحلة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر تغيُّرات كبيرة في العالم الإسلامي، فقد سقطت بغداد في القرن السابق على يد المغول، وتحول الازدهار العظيم الذي كان يسود المشرق إلى مدن شمال أفريقيا وتحديدًا مصر.
كما أن دخول المغول الإسلام فتح الباب على مصراعَيه للمسلمين للتوغُّل في مناطق حوض المتوسط وأواسط آسيا حتى تخوم الصين، إضافة إلى عودة جزيرة العرب للحالة السياسية التي سبقت الإسلام، حيث بقيت القبائل على دين محمد لكنها تفرّقت ولم تتبع دولة موحَّدة كما كان في عصر الراشدين ثم الأموي فالعباسي.
كل هذه التفاصيل رصدها وشاهدها ابن بطوطة خلال رحلته التي انطلقت لتقطع شمال أفريقيا أولًا عبر البر، ولم يركب البحر على عادة أهل الأندلس والمغرب في مقصدهم للحجّ، قصد الجزائر وذكر فيها قصة وفاة أحد رفقاء السفر من تجّار تونس، وكيف تمَّ مصادرة أمواله من قبل عمّال دولة الموحدين، وعدم إرجاعها لورثته كما أوصى بها عبر إيداعها لأحد الرجال الأمناء من أهل الجزائر.
ثم ساروا حتى وصلوا مدينة قسنطينة في الشرق الجزائري فأصابهم المطر، فأمر حاكمها بإكرامهم ملابس جديدة للحجاج ومنحهم إحرامًا جديدًا ربط في طرفه دينارَين من الذهب، وهذا دليل كرم هذه البلاد وأهلها.
وواصل السير حتى دخل مدينة تونس، فذكر جامعها الأعظم “الزيتونة” وصادف تواجده في مدينة تونس عيد الفطر فمدح جمال هيئتهم وحسن احتفالهم، ثم خرج من تونس حتى وصل مدينة سوسة التي وصفها بأنها مدينة “صغيرة حسنة مبنية على شاطئ البحر”، ثم مرَّ بصفاقس في طريقه شرقًا نحو طرابلس وتجاوز البرّ الليبي مسرعًا خوفًا من الإغارة.
ويذكر ابن بطوطة أن أكثر ما كان يخشاه الحجّاج في ذلك الزمان هو غارات الأعراب في الصحراء على قوافل الحجّ، فكان يضطر الحجّاج لاستئجار الفرسان لحمايتهم لقطع الطرق بين المدن في الشمال الأفريقي، وهذا أحد عوارض نهاية الإمبراطوريات الكبيرة المسيطرة سابقًا على تلك البلدان، ما يحمي طرق الحج ويمنع الإغارة عليها.
مع وصوله الإسكندرية وصفَ أبوابها ومنارتها الشهيرة، وأكثرَ مِن مدح أبنيتها وتحصيناتها وقوتها واتّساعها، فقال عنها: “الثغر المحروس والقطر المأنوس، العجيبة الشأن الأصيلة البنيان بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، وهى الزاهية بجمالها والجامعة لكل المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرب”.
ثم ارتحلَ إلى مدينة مصر وهي القاهرة، وكانت في زمن ابن بطوطة مكوَّنة من 4 مدن مجتمعة: الفسطاط التي أسّسها عمرو بن العاص، والعسكر التي أسّسها صالح بن علي من بني العباس، والقطائع التي أنشأها أحمد بن طولون، والرابعة القاهرة التي أسّسها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي.
وقد وصفَ القاهرة بالتفصيل فذكرَ مسجد عمرو بن العاص والمستشفيات، واستوقفته مقابر المسلمين فيها وما يطلق عليه المصريون “القرافة” كاحتفاء كبير بالبناء من وضع قباب كبيرة ومزخرفة.
أكمل ابن بطوطة رحلته عبر برِّ مصر وصعيدها، لكن تعذّر عليه عبور البحر الأحمر عن طريق ميناء عيذاب، فعادَ متوجِّها إلى فلسطين فزارَ بيت لحم موطن ولادة المسيح عليه السلام، ثم قصدَ القدس ووصف المسجد الأقصى بإعجاب كبير، فقال: “وهو مِن المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحُسن، يُقال إنه ليس على وجه الأرض مسجدٌ أكبر منه”.
ثم وصف قبّة الصخرة وقد كان بناؤها على نحو ما هي عليه اليوم، فيقول: “وهو مِن أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلًا، قد توفّر حظها من المحاسن، وأخذت مِن كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نُشز في وسط المسجد، يُصعد إليها في دَرج رُخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضًا محكم الصّنعة، وكذلك داخلها وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة، ورايق الصّنعة، ما يُعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشي بالذهب؛ فهي تتلألأ نورًا، وتلمع لمعان البرق، يحارُ بصرُ متأملها في محاسنها، ويقصرُ لسانُ رائيها عن تمثيلِها”.
في بلاد الشام عمومًا وفلسطين خصوصًا كانت آثار الحروب الصليبية لم تنتهِ، فشاهد ابن بطوطة أخذ الضريبة عن الحجاج المسيحيين لبيت لحم والقدس كنوع من أنواع إظهار السيادة، فيما شاهدَ القدس بلا سور فقد أُزيل سورها خوفًا من غزو الروم لها والتحصُّن فيها، كما شاهد مدينة عكا الحصينة وهي مدمَّرة خاوية على عروشها، كل هذا كان من آثار الحروب الصليبية التي لم يمرَّ وقت طويل على نهايتها.
غادر ابن بطوطة بلاد الشام للحجاز لأداء الحج والعمرة، وفي نهاية الحج رافق موكب الحج العراقي وأميره البهلوان من أهل الموصل، وكان أمير الحج العراقي يتبعه الحجاج الخراسانيون والفارسيون والأعاجم بعدد لا حصر له، ومن لطيف ما ذكره أن الموكب العراقي كان يستخدم قدورًا عظيمة الحجم من النحاس للطهي يُطلق عليها “الدسوت”، ليُقدَّم الطعام لأبناء السبيل ومن لا زاد له، وهذه اللفظة شائعة إلى يومنا هذا.
وقد شاهد ابن بطوطة عيون الماء ومناطق الاستراحة التي جهّزتها زبيدة زوجة هارون الرشيد بين مكة وبغداد، ودخل مدينة النجف وكان كل من يدخل ضريح الإمام علي يُقدَّم له الطعام والشراب 3 أيام متتالية إكرامًا لزيارته.
وأراد ابن بطوطة زيارة جنوب العراق فرافق عرب خفاجة، وكان تحت حمايتهم لقوتهم وسطوتهم في جنوب العراق، وانفصل عن ركب الحجاج المتّجه إلى بغداد، فزارَ مدينة واسط وأُعجب بأهلها وقال عنهم إنهم خير أهل العراق وأكثرهم حفظة للقرآن، ثم زار البصرة ووصفها: “ومدينة البصرة إحدى أمّهات العراق، الشهيرة الذكر في الآفاق، الفسيحة الأرجاء، المؤنقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفّر قسمها من النضارة والخصب، لما كانت مجمع البحرين: الأجاج والعذب، وليس في الدنيا أكثر نخلًا منها”.
وقد توجّه ابن بطوطة إلى بغداد وقد دخلها بعد قرن من دمارها على يد المغول، لكنه وقف على أطلالها وذكر بقايا القصور والمساجد وقبور خلفاء بني العباس وعدّدهم بالاسم، وذكرَ سوق الثلاثاء والمدرسة النظامية والمستنصرية وقبر الإمام الكاظم والإمام أبي حنيفة، وهذا يدلُّ على أن أغلب بغداد العباسية لم تُدفن لكنها خُرِّبت وأُزيلت وبُنيَ عليها بغداد الحديثة، ما يجعل إيجاد آثار أبنية بغداد العباسية صعبًا في وقتنا هذا، على العكس من الآثار الثانية المطمورة في رمال العراق والتي تُستخرَج بين حين وآخر.
زارَ ابن بطوطة بلاد فارس وتبريز وعاد للموصل ثم ماردين وقرر العودة للحج مرة ثانية، فأصابه المرض فبقيَ في جوار الحرم حتى تماثل للشفاء، ثم توجّه لجدة وزار اليمن ووصف صنعاء، فقال: “وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى، مدينة كبيرة حسنة العمارة بناؤها بالأجرّ والجصّ، كثيرة الأشجار والفواكه والزرع معتدلة الهواء طيّبة الماء، ومدينة صنعاء مفروشة كلّها فإذا نزل المطر غسل جميع أزقّتها وأنقاها وجامع صنعاء من أحسن الجوامع”.
ثم غادرها لشرق أفريقيا فجالَ فيها، ثم قصد ظفار ومنها للبحرين ثم آسيا الصغرى وروسيا، ولعلّ أبرز ما يميّز رحلة ابن بطوطة هو تجواله في آسيا بشكل كبير ومرافقته لخانات المغول المسلمين، وزار القسطنطينية وذكر كنيسة آيا صوفيا في رحلة فريدة، فيصف القسطنطينة بقوله: “هي متناهية في الكبر منقسمة بقسمَين بينهما نهر عظيم فيه المدّ والجزر، وأحد القسمَين من المدينة يُسمى أصطنبول بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضمّ الباء الموحدة وواو مدّ ولام، وهو بالعدوة الشرقية من النهر، وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته، وسائر الناس وأسواقه وشوارعه مفروشة بالصفاح، متّسعة، وأهل كلّ صناعة على حدة لا يشاركهم سواهم، وعلى كلّ سوق أبواب تسدّ عليه بالليل، وأكثر الصنّاع والباعة بها النساء”.
مجملًا، إن ما ذكره ابن بطوطة عن ترحاله كثير التفاصيل متعدِّد التشعُّب، وهو دخل العديد من المدن ممّا لا يمكن حصره في مقال ولكن أوجزت القليل منه، ويبقى الاطّلاع على كتابه كاملًا نصيحة أقدّمها لكل من أراد الاستزادة.
كتاب “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”
بعد 30 عامًا من الترحال عادَ ابن بطوطة لموطنه يحمل بين جنبَيه كنزًا من المعرفة حول البلدان التي شاهدها بنفسه ووقف عندها، متعرِّفًا إلى أهلها وثقافتهم وبنيانهم وملابسهم ومطاعمهم وطبيعة الحياة التي يعيشونها، والكثير من التفاصيل التي تستحق أن تدوَّن ولا تبقى حبيسة صدر الرحّالة، فأمرَ السلطان أبو عنان فارس المريني ابن بطوطة بتدوين رحلته، ثم اختار فقيهًا أندلسيًّا التحقَ ببلاط بني مرين، وهو ابن جزي الكلبي، ليعيدَ صياغتها وينظّمها بشكل أدبي منمَّق، وكان إملاؤها بمدينة فاس سنة 756هـ.
تُرجم كتاب الرحلة إلى البرتغالية، الفرنسية، الإنجليزية والألمانية، ما خُلِّد ذكره كأعظم رحّالة، ولعلَّ ما يميز ابن بطوطة عن غيره من الرحّالة أن هدفه من ترحاله هو الترحال ذاته، فجعله يتفوق على غيره من الذين قصدوا الأسفار لغايات ثانية، فاستحقَّ بحقٍّ لقب أمير الرحّالة المسلمين.