بصور حقيقية أو لوحات مرسومة لملامحهن، يُبرز معرض في إسطنبول وولايات تركية أخرى، صور عشرات السوريات المُغيّبات، في محاولة لإحياء وإثارة قضية المعتقلات المختفيات قسريًّا في سجون الأسد، والتي تشير تقديرات حقوقية إلى أن أعدادهن تتجاوز 9000 معتقلة لا يُعرَف مصير كثير منهن، ما إن كنّ قد فارقن الحياة أم أنهن ما زلن يعانين صنوف التعذيب الجسدي والنفسي في غياهب السجون والأفرع الأمنية السرّية.
“صديقات” هو معرض يحاول إثارة قضية آلاف المعتقلات المغيّبات في سجون النظام السوري ولكن بطريقة غير تقليدية، فالمعرض لا يكتفي بعرض الصور وإنما يصفُ ما يجري داخل أقبية السجون وينقل حكايات وصور مرسومة وذكريات وحتى أدوات مهرَّبة من داخل الزنازين.
وأكثر ما يميّز المعرض غير التقليدي هو ما يستمدّه من اسمه “صديقات”؛ فالاسم انبثقَ من فكرة الوصول إلى سوريات عايشن معاناة السجون للحصول منهن على قصص معاناتهن ومعاناة صديقاتهن اللاتي ما زلن قابعات أو مغيّبات في غياهب السجون، ومحاولة نقل صورة حية وقريبة لمعاناة المعتقلات في محاولة لتحريك المنظمات الحقوقية والجهات الرسمية محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، للتدخل ووضع حدّ لمعاناة المعتقلات والمغيّبات إذا ما كنّ ما زلن على قد الحياة، أو الكشف عن مصيرهن حتى لو فارقن الحياة.
كما يهدف المعرض الذي يجرى تنظيمه تباعًا في عدد من المحافظات التركية وبمشاركة عبر منصات التواصل الاجتماعي، إلى إيصال هذه القضية وإبقائها على أجندة وسائل الإعلام وحيّة لدى الأجيال التي كبرت في بلاد الغربة واللجوء، ولعلّ أبرز ما يميّزه على الإطلاق وجود مقتنيات ورسائل وأدوات ومنتجات جرى تدوينها أو إعدادها داخل الزنازين، تشرح الظروف الصعبة التي تمرُّ بها المعتقلات السوريات.
صاحبة فكرة “صديقات”
أجرى “نون بوست” حوارًا مع صاحبة فكرة المعرض الناشطة السورية منى عبود، وهي معتقلة سابقة لأكثر من مرة في سجون النظام السوري، حيث كان سبب اعتقالها المستمر هو زيارتها للمعتقلات وتحديدًا في سجن عدرا، والحديث عن قصصهن وفضح الانتهاكات التي تمارَس ضدهن، ولم تكُفَّ منى عن الكتابة حول المعتقلات المغيّبات حتى انتقلت إلى تركيا لتوسِّع نشاطها لفضح ممارسات النظام السوري ضد المعتقلات، وذلك من خلال معرض “صديقات”.
تقول منى عبود إن هدف المعرض يتمثّل في تفعيل التضامن العربي والتركي والدولي، عند الاستماع إلى قصص المعذّبات والمغيّبات في سجون الأسد، والتي يوفِّرها المعرض باللغة العربية والإنجليزية والتركية عبر جهاز لوحي، ومساهمة منظمات المجتمع المدني وأفراده بمعاناة النساء المعتقلات اللواتي يمارَس عليهن التعذيب الجسدي والنفسي.
وعبّرت عبود عن أملها أن يكون المعرض بمثابة نداء استغاثة للعالم، لإيصال أصوات المعذّبات والمغيّبات في السجون، ووسيلة ضغط على كافة الجهات المعنية للمساعدة في كشف مصير المغيّبات في سجون الأسد، دون مراعاة ظروفهن سواء كانت أمّ أو طفلة أو فتاة في ريعان شبابها، أو قد تكون من ذوات الاحتياجات الخاصة.
تدوين المعاناة على الملابس
وعن فكرة معرض “صديقات”، تشير منى إلى أن الفكرة قائمة منذ سنوات، أي منذ بداية اختفاء النساء السوريات قسرًا في سجون النظام السوري، واللاتي هنّ صديقاتها بالأساس، لكن الإمكانات لم تكن متوفرة في السابق للتحضير والخروج بهذا المعرض الذي رأى النور أخيرًا.
وتلفت منى إلى أن التحضيرات للمعرض بدأت منذ سنة تقريبًا، إذ يعرض 50 صورة لنساء معتقلات ومغيّبات قسرًا، بالإضافة إلى 12 لوحة بورتريه لمغيّبات ليس لهنّ صورًا حقيقية عملت على رسمهن 6 فنانات سوريات من مناطق مختلفة من سوريا وتركيا.
تقول منى: “لعدم معرفة الرسامات الشخصية بالمعتقلات وعدم وجود صور لهنّ جميعًا، كان الحل هو إطلاع المقرّبات وصديقاتهن على صفاتهن وأطباعهن وأشكال وجوههن، وحتى معاني نظرات عيونهن التي وصفهن للرسامات بدقة عالية”.
وفي إحدى زوايا المعرض تحتفظ منى بعدد جيد من الهدايا التذكارية من صديقاتها المعتقلات، والتي أُهديت لها أثناء زيارتها لهنّ، تتنوع الهدايا ما بين أشغال يدوية من التطريز أو حياكة الصوف أو تدوين الخواطر والذكريات المكتوبة على قطع من الملابس وبأقلام جرى تهريبها بصعوبة إلى داخل السجون.
الطرف الأضعف بالنزاع
وعن كيفية عرض القصص للفتيات المغيّبات، تبيّن منى أن الوسيلة الأقرب هي الاستعانة بصديقاتهن كشاهدات عيان وتسجيل صوتي لكل تفصيلة في حياتهن أثناء الاعتقال، والتركيز على سرد أهم الأمور الإنسانية والوجدانية لهنّ.
وتطمح منى في نهاية معرضها الذي تنقّل بين إسطنبول وغازي عنتاب وبعض الولايات التركية الأخرى، أن تنشئ عريضة للتوقيع عليها من الزائرين في الداخل التركي أو المهتمين في الخارج، من أجل مشاركتها في المطالبة بوقف اعتقال النساء وإطلاق سراح المعتقلات.
وتعتبر منى أن النساء كنّ الضحية الأكبر للحرب السورية المتواصلة منذ أكثر من 10 سنوات، وأنهن تعرّضن لانتهاكات مختلفة كونهن الطرف الأضعف في ساحة النزاع، وتضيف: “هناك العديد من الدعوات التي قُدِّمت والتي كان آخرها في ألمانيا قبل عام لـ 7 معتقلات سابقات، ومع الأسف لا تتمّ المتابعة على أنهن نساء تعرضن للتمييز بل على أنهن معتقلات سابقات بعموم قضية الاعتقال”.
إحصاءات صادمة
ووفق ما أوردته الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير صدر لها في يوم المرأة العالمي، فإن قرابة 9264 امرأة لا يزلنَ قيد الاعتقال/ الاختفاء القسري، وهناك استهداف للنساء على خلفية عملهن، وتسجيل ما لا يقلّ عن 67 حادثة استهدفت النساء على خلفية عملهن في الشمال الغربي والشمال الشرقي من سوريا منذ مارس/ آذار 2020 حتى مارس/ آذار 2021.
وأشارَ التقرير إلى الانتهاكات المستمرة بحقّ المرأة السورية، وانتهاك حقّ المرأة في العمل، موضّحًا أن الانتهاكات التي تعرّضت لها المرأة في سوريا خلال السنوات العشر الماضية منذ بداية الحراك الشعبي في مارس/ آذار 2011، وبعد تحوله إلى نزاع مسلح داخلي في يوليو/ تموز 2012، لم تحظَ بالقدر الكافي من الاهتمام الدولي والأممي، وذلك مقارنة مع الحجم المرعب لكثافة وتنوع أنماط تلك الانتهاكات بما فيها الانتهاكات الجسيمة التي بلغ بعضها مستوى الجرائم ضدّ الإنسانية.
ويبيّن التقرير: في السابق كان الرجال في معظم الأحيان يشكّلون النسبة الأعظم من ضحايا الانتهاكات، لكن بعض أنماط الانتهاكات التي وقعت بحقّ المرأة السورية لها أثر خاصّ على المرأة وجنسها ومركزها في المجتمع، كما أنه ونظرًا إلى حجم الانتهاكات التي وقعت بحقّ الرجال، بما فيها القتل والاعتقال والاختفاء القسري، فقد لوحظَ تغيير جذري في أدوار المرأة، التي أصبحت تحمل مهام الرجل والمرأة معًا في أسرتها، كما أن المرأة نفسها قد تعرضت للانتهاكات الفظيعة، وأوردَ التقرير حصيلة لأبرز الانتهاكات الواقعة بحقّ المرأة بحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان منذ مارس/ آذار 2011 حتى مارس/ آذار 2021، حيث سُجِّل مقتل ما لا يقّل عن 16104 سيّدات.
أخيرًا.. تعدّ مبادر “صديقات” جهدًا إضافيًّا من الجهود التي يبذلها سوريون لإبقاء الوعي حيًّا بشأن قضيتهن، وبقدر ما تعمل حكومات وأنظمة على طمس تلك القضية وتمييعها والتطبيع مع الأسد، يعمل سوريون على مقاومة سردية المنتصر وترسيخ سردياتهم وإحياء التعريف بوحشية النظام والانتهاكات التي يواصل ارتكابها على مسمع من العالم ومرأى منه.