يدخل انقلاب تونس شهره الرابع، يسير سيرًا مطمئنًّا نحو ترسيخ قدمَيه على الأرض، متحديًا معارضيه بصفر إنجازات محسوسة. لا شيء يزعج قيافة المنقلب، فيوالي الظهور الإعلامي بالنبرة المنتصرة نفسها، وله ذلك، فقد “وجد ليديه”، أي وجد بغيته في نخبة لا تتعلّم من أخطائها، وشعب لا يرتقي إلى طرح أسئلة المستقبل وينكبّ على المغانم الصغيرة فيكشف فقرًا وهشاشة.
دروس الانقلاب كثيرة والوعي بها قليل ويكاد ينعدم، التونسيون يعيدون إنتاج أخطائهم التي جلبت عليهم الانقلاب، ويصرّون عليها كمن يطيب له خصاء نفسه ضاحكًا من زوجته وقد حُرمت متعتها به.
نعم توجد حركة في الشارع تعارض الانقلاب، لكني رأيتها أضعف من أن تسقطه وتعيد قطار تونس إلى سكة الديمقراطية، وأستنكف أن أنفخ في صورتها لأطمئن نفسي بانتصار وهمي قريب.
الروح الاستئصالية تتمتّع بالانقلاب
نقرأ مواقف الاستئصاليين التقليديين من أقصى اليسار، ومواقف القوميين وكثير من الديمقراطيين الواقفين في الوسط، فأجد الخطاب نفسه والمواقف نفسها تصدر من الوجوه نفسها.
“لا مجال لبناء عمل سياسي مع الإسلاميين”، ولذلك ينتهون إلى أن الانقلاب أفضل ولو أعدمَ مساحات الحرية وضيّقَ على الناس وفشلَ في الاقتصادي والاجتماعي، فمكسب إخراج الإسلاميين من المشهد السياسي مقدَّم على كل أمر، ومن المجدي هنا التذكير بأن هذا هو الموقف نفسه الذي ساند بن علي في مجزرته ضد الإسلاميين لمدة ربع قرن، ولم يحسب فيه الاستئصاليون خسائرهم الخاصة، فقد غنموا أمرًا مهمًّا: تونس بلا إسلاميين.
لكن هل تقدّمت تونس حينها وتحررت وبنَت ديمقراطيتها؟ لقد كان هذا موضوعًا غير مهم لديهم زمن بن علي، وهو غير مهم في زمن قيس وفي كل زمن قادم، يمكننا القول إن الذين يعيشون من إعدام الآخرين يتمتّعون الآن بالانقلاب ويدعمونه سرًّا وعلانية، ويعرف الانقلاب ذلك فيتقدّم مطمئنًّا نحو أهدافه، ونلحُّ مكررين هذه الفكرة عامدين، لقد مرق الانقلاب من هذه الفجوة وهو يعيش منها.
استطلاعات رأي لخداع الذات
تصدر في تونس نتائج استطلاعات رأي متكررة تلحُّ على أن الإسلاميين قد انتهوا من تونس، وأن حزبهم (حزب النهضة) قد فَقَدَ قاعدته بفضل الانقلاب، لكن هذا الانتصار عبر الاستطلاعات لم يكشف تغييرًا في مواقف الفرحين بنشرها، فإذا كانت صحيحة كما يزعمون فإن الخطوة الطبيعية الموالية هي أن يطالبوا بعودة الديمقراطية والحريات وقد تخلّصوا من عدوهم، “إذ أدّى الانقلاب مهمته بنجاح”.
لكنهم مصرّون على دعم الانقلاب وحمايته إعلاميًّا وميدانيًّا، ما يكشف أمرًا من اثنين: إما أن الاستطلاعات كاذبة ومزيَّفة وتُصاغ ضمن الدعاية الاستئصالية، وبالتالي إن الفرحين بها غير مصدّقين لها؛ وإما أنها تحتمل نسبة من الصحّة لكن وجب العمل على الإجهاز على هذا الخصم (الذي يرفض أن يموت)، ونرجّح الأمر الثاني خاصة بعد أن عاينَّا موجة التشفي بإسلاميين أعيدت محاكمتهم بتهمة القتل العمد، بعد أن سبقت تبرئتهم في محاكمة سابقة.
بالتوازي يتحدّث معارضو الانقلاب عن تكتُّل جبهة واسعة من الديمقراطيين تظاهرت يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني، وينفخون في أمر تعدُّدها وتنوُّعها لطمأنة أنفسهم بقرب زوال الانقلاب (أمام جبهة قوية)، غير أن العيان أبلغ من القول، فقد نزل حزب النهضة إلى الشارع ولم يكن المشاركون من غيره قادرين على إخفاء الوجه النهضوي للمظاهرة.
التونسيون لم يتعلموا من درس بن علي الأول وهم يعيدونه مع المنقلب، والنتيجة تخريب الديمقراطية ونسف مكاسب الحرية والعدالة.
وإذا كانت قد تقدمت وجوه من غير النهضة على منبر الخطابة، فإن النظرة الواقعية التي خرجت بها من المظاهرة ليست تثبيطًا بل تمحيصًا لحقيقة، حيث لم تتشكل هذه الجبهة الديمقراطية بعد، فقد بقيَ خارج المظاهرة معارضون آخرون يصرّون على عدم السير مع النهضة ولو إلى الجنة، وهذه هي الفرقة التي تنعش الانقلاب وتطمئنه على مستقبله.
في هذه اللحظة من تاريخ الانقلاب ومن تاريخ معارضته، وجب التحدث بواقعية، التونسيون لم يتعلموا من درس بن علي الأول، وهم يعيدونه مع المنقلب، والنتيجة تخريب الديمقراطية ونسف مكاسب الحرية والعدالة.
لقد قال أحد الساخرين بمرارة، وجب أن تنحاز النهضة للانقلاب لينفضَّ من حوله أنصاره (الذين لم يكونوا أنصاره في الانتخابات) ثم تلتحق بهم النهضة. لعبة القط والفأر الأبدية؟ هذه الحالة العبثية هي بغية الانقلاب، إننا نمحص كيف تنكبّ النخب الاستئصالية (الهارد والسوفت) عن سبل الديمقراطية، وهذا هو الدرس، إنهم لا يتوبون.
جبهة إنقاذ وطني؟
على الورق يسهل أن نكتب أنه لا بدّ من تشكُّل جبهة إنقاذ وطني تستعيد البلد المخطوف وتستعيد مسار الانتقال الديمقراطي وتحمي الدستور من العبث؛ على الأرض نعاين الفرقة الأزلية بين مكونات مشهد سياسي متشظٍّ منذ نصف قرن، يشقّه خلاف غير قابل للتجسير.
على الأرض يتقدّم الانقلاب ويعبث بكل تاريخ الدولة ومكوناتها القائمة، وقد مدَّ رجله في الحد المتاح من استقلال القضاء لتدجينه وإصدار أحكام بالأوامر السياسية، مثلما فعل في قضية مطاردة الرئيس السابق بالإنتربول.
على الأرض أيضًا يعبث أنصار الرئيس المجهولي الوجوه بكرامة كل من يعارضه، وقد تسلّطوا على كل الطيف الديمقراطي القليل العدد قبل التنسيق مع حزب النهضة، ويقود ضدهم حربًا مدمرة مسّت شرفهم وعائلاتهم وهدّدت وجودهم الجسدي.
كيف نولّد أملًا في إسقاط الانقلاب في هذا الجو العدمي؟ هل ننتظر استفحال الأزمة كي يسقط الانقلاب تحت ضغط الشارع الجائع؟
كاتب هذه الورقة فَقَدَ الأمل منذ زمن بن علي في أن يعي الاستئصاليون خطورة مواقفهم، وقد استقرَّ عندي أنهم سيموتون عليها لكن بعد أن يجهزوا على البلد، كما استقرَّ عندي أن حزب النهضة لن يخرج وحده ضد الانقلاب ولن يدفع ثمن إسقاطه.
آه، ثمة حديث قديم في كتب نظرية عن بناء كتلة ديمقراطية أو كتلة تاريخية أو حديث من هذا القبيل، قد تكون أُنجزت في بلدان أخرى وعقب ثورات أخرى، غير أن هذا الحديث في تونس يشبه قصص السندباد، هذه نخب لا تتعلم من أخطائها، ولا تتوب إلى شعبها.
لنتوقف عن بيع الأوهام للعوام، ولننتظر الأزمة والجوع، لننتظر شارع الجياع يعصف بالجميع، ففي بعض النار دواء.