شكّل الوجود العثماني في لبنان مرحلة فارقة في تاريخ بلاد الشام بصفة عامة، حيث استطاع اللبنانيون تحت حكم الإمبراطورية العثمانية تحقيق الكثير من الإنجازات على كافة المسارات، وهو ما تبرهنه المعالم الحضارية والأثرية التي تزيّن أرجاء البلاد على مدار أكثر من نصف قرن تقريبًا.
وبعيدًا عن اختزال هذا الوجود في السنوات الأخيرة من حكم الدولة وما شهدته من إشكالات مجحفة، إلا أن المآثر التي تركها العثمانيون بعد رحيلهم ستظلُّ خير شاهد على الدور التنموي والتطويري الذي قامت به تلك الإمبراطورية، وهو ما يمكن الوقوف عليه في معظم البقاع التي كانت تحت السيطرة العثمانية.
وتعدّ مدينة طرابلس (شمال) التي تبعد عن العاصمة بيروت حوالي 85 كيلومترًا، واحدة من أعظم النماذج التي تخلّد الأثر العثماني المتروك في لبنان، فهي المدينة الأولى بثروتها التراثية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، والثانية بعد القاهرة، وتمثّل في مضمونها متحفًا عامًّا وشاملًا يجمع بين مختلف الحضارات (الرومانية والبيزنطية والعثمانية والمملوكية).
وتضمُّ طرابلس أكثر من 200 معلم أثري، تعود في معظمها إلى الحقبة العثمانية، غير أن معظم تلك الآثار يعاني من الإهمال والتهميش الشديد، بعضها تمّت إزالته والآخر استُغلَّ استغلالًا خاطئًا، فيما بقيت الأغلبية في انتظار مصيرها المحتوم، حيث الهدم، وهو ما أثار حفيظة المنظمات التراثية العالمية التي طالبت بحماية هذه القلاع الأثرية من الاندثار.. فماذا نعرف عن تلك المدينة؟
مكارم وحضارة
يعود الوجود العثماني في بلاد الشام تحديدًا إلى 28 أغسطس/ آب 1516، حين وصلَ السلطان سليم الأول (1470-1520م) مدينة حلب، وبعد أقل من شهر ونصف فتحَ دمشق، وفيها استقبلَ أمراء ومشايخ وكبار رجالات كل من طرابلس وصيدا وبيروت وجبل لبنان الدروز، حيث قدّموا له الطاعة، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ اللبناني.
ومع فرض العثمانيين سيطرتهم قسّموا بلاد الشام إلى 3 ولايات كبرى، الأولى ولاية حلب والثانية دمشق، ثم ولاية طرابلس التي كانت الأكبر والأكثر اتساعًا، إذ تشير بعض المصادر أن مساحتها كانت تتجاوز 4 آلاف كيلومتر مربع، حيث تمتدُّ إلى اللاذقية شمالًا وبيروت جنوبًا، وتضمّ معها مدن جبيل وحمص.
وكعادتهم إزاء الولايات التي يسيطرون عليها، عمل العثمانيون على نقل حضارتهم وتراثهم إلى لبنان، فيما تمَّ إرساء الأُسُس الأولى لبناء دولة حضارية ذات كيان ثقافي متميز، فتحولت لبنان من بلد يعاني من التهميش والتراجع على كافة المستويات، إلى إيالة ذات مكانة وثقل سياسي، فيما مُنح بعض أبنائها أعلى المناصب في هرم السلطة العثماني.
وترك العثمانيون خلال فترة حكمهم للبنان، والتي زادت عن 4 قرون، العديد من الآثار والمعالم التي وثّقت وجودهم وتصدّت لمخططات تشويه الصورة، فالأمر لم يقتصر على العمران وفقط كما يدّعي البعض، لكنها الإنجازات والمآثر التي شملت كافة مجالات الحياة، ما جعل من عهد العثمانيين إحدى أبرز المراحل في تاريخ لبنان.
البداية كانت مع تدشين منظومة محلية هي الأولى من نوعها في لبنان، ففي عام 1867 تمَّ إنشاء بلدية بيروت، ثم بلدية صيدا عام 1877، وبعدها بـ 3 سنوات أُنشئت بلدية طرابلس، فكانت من أوائل البلديات في المقاطعات العثمانية بعد إنشاء بلدية إسطنبول، وفي عام 1895 تأسّست محطة قطار بيروت-دمشق في منطقة مار مخايل شمالي بيروت.
هذا بخلاف المحجر الصحي في الكرنتينا، وعشرات التكايا أبرزها تكية الدراويش المولوية، والتكية القادرية، وحمام العظم (الجديد)، بجانب عدد من المساجد الشهيرة حتى اليوم ومنها جامع محمود بك السنجق، وجامع محمود لطفي الزعيم (المعلق)، والجامع الحميدي، بالإضافة إلى ساعة التل الشهيرة، وقصر دبانة وخان صاصي في صيدا، والتي تعدّ نموذجًا صارخًا على ما وصلت إليه العمارة العثمانية في ذلك الوقت.
كما اهتمَّ العثمانيون بالوقف الإسلامي في لبنان، وذلك لخدمة التعليم والأعمال الخيرية، ومن أشهر الأوقاف العثمانية هناك وقف السلطان نور الدين محمود الزنكي على إحدى مدارس مدينة بعلبك، هذا الوقف الذي كان يدرُّ سنويًّا أموالًا كثيرة تُنفق في أعمال البر والإحسان، وبناء المساجد التي كانت تضاهي تلك الموجودة في القاهرة والشام.
وتشير الدراسات إلى هدم السلطات الفرنسية عقب احتلالها لبنان، ما بين عامَي 1920 و1943، عشرات المعالم والآثار الإسلامية العثمانية، أبرزها السراي الصغير في ساحة البرج والتل في طرابلس، هذا بخلاف إزالة عشرات المدارس والمنازل الأثرية بحجج واهية، ومع ذلك زخرت لبنان وعلى رأسها طرابلس بأمّهات الآثار الشاهدة على تلك الحقبة الهامة في تاريخ هذا البلد.
المتحف الحي
“يرتبط تاريخ مدينة طرابلس بالحضارة التركية بشكل خاص”.. بهذه الكلمات استهلَّ رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، خالد تدمري، حديثه عن مآثر العثمانيين في مدينته، لافتًا إلى أن أطول حقبة تاريخية إسلامية عاشتها كانت تحت الحكم العثماني أكثر من 4 قرون، فيما بلغت الفترة التي عاشتها في حكمي العثمانيين والمماليك معًا قرابة 725 عامًا.
ويكشف تدمري عن وجود أكثر من 200 معلم أثري في طرابلس من الحقبتَين المملوكية والعثمانية، أكثرها عددًا للأخيرة، لا تزال تميز المدينة، وهو ما جعل باحثي التاريخ والآثار يطلقون عليها “المتحف الحي” لكثرة ما تحتويه من معالم حية حتى هذا اليوم، رغم ما تعرضت له من إهمال واعتداءات على مدار مئات السنين.
ويعدّ “برج ساعة التل” واحدًا من أشهر المعالم الأثرية العثمانية، ليس في طرابلس وحدها، لكن في لبنان والشام بصفة عامة، بُنيَ عام 1901 على بقعة رملية، عند المدخل الجنوبي الشرقي للحديقة العامة وسط المدينة، وقد أهدته السلطات العثمانية للمدينة بمرور 25 سنة لتولي السلطان عبد الحميد الثاني الحكم.
البرج الذي يبلغ ارتفاعه 30 مترًا، صمّمه مهندس المتصرفية التركية توفيق بك المهندس، ويتكون من 5 طبقات، وتوجد بداخله شرفة على الدائر في كل من الطابقَين الثاني والرابع، كما أن له سُلَّم من حديد لولبي، وفي أحد جوانبه هناك ساعة كانت تدور خلال العهد العثماني على الطريقة العربية باعتبار غروب الشمس الساعة الثانية عشرة، وقد عُدِّلت فيما بعد على التوقيت الزوالي.
ويُعتبر هذا البرج الذي يبلغ ضلع قاعدته 5 أمتار ونصف من الخارج، على مساحة 24 مترًا من الداخل، للحفاظ عليه من السقوط وفق رؤية هندسية عصرية، أوّلَ بناء يشاد في طرابلس للتكريم والتخليد دون أن يكون له دلالة دينية، كما هو حال بقية المعالم الأخرى، ويعدّ الباحثون الساعة الحميدية التي تزيِّن البرج (نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني) هي آخر ما تركه العثمانيون من آثار في المدينة، التي تتميز بفنّهم المعماري.
ومن أبرز المعالم العثمانية في طرابلس كذلك تكية الدراويش المولوية، وحمّام العظم، وجامع محمود بك السنجق، وجامع محمود لطفي الزعيم، والجامع الحميدي، وسبيل الباشا الوزير محمد باشا، وسبيل الزاهد، والتكية القادرية، هذا بجانب الأسواق الأثرية والأحياء المبنية على الطراز العثماني وعشرات التكايا وأعمال الخير والإحسان الأخرى.
أولَى العثمانيون التعليم الديني والدنيوي أهمية كبرى، حيث تضاعفت أعداد المساجد والمدارس في طرابلس خلال الحكم العثماني حتى وصلت إلى 360 مدرسة، ووصل الأمر إلى وصف هذا التطور والثراء العمراني غير المسبوق أن قيل إنه بين كل مدرسة ومدرسة هناك مدرسة أخرى.
هدم التاريخ باسم المدنية
تواجه طرابلس منذ الاحتلال الفرنسي وما تلاها من تأسيس الجمهورية موجات من الهدم والإزالة بدعوى التجديد والبناء على طرازات عصرية، كان الهدف في المقام الأول “سياسي” حيث الانتقام من الحقبة العثمانية في صورة معالمها الأثرية، وهو ما كشفته المخططات البنائية التي ساهمت في تهجير سكان المدينة الأصليين من مناطقهم القديمة للعيش في تلك الأحياء الراقية باسم المدنية على حساب التاريخ.
شهدت السنوات الماضية أحداث هدم عمدي للكثير من المعالم الأثرية التركية، منها هدم السرايا العثمانية في ساحة التل، كذلك مسرح “الإنجا” العثماني الذي كان يعدّ أول مسرح ترفيهي في لبنان، فضلًا عن المدرسة السلطانية التي هُدمت بأمر من وزارة التربية اللبنانية بحجّة بناء مدرسة ضخمة مكانها بتمويل سعودي.
كما تعرّضت منطقة باب التبانة، التي كانت تشكّل أهم سوق تجاري في بلاد الشام، والمبنية على الطراز العثماني (كانت المعبر الأساسي لدخول البضائع القادمة من حمص وحماة السوريتَين إلى مرفأ طربلس ومنها إلى أوروبا)، لأضرار بالغة، فيما هُدمت بعض معالمها الأثرية جرّاء المعارك التي شهدتها خلال السنوات الأخيرة بين الجيش اللبناني والمسلحين.
هذا الهدم الممنهَج للآثار العثمانية، ومساعي طمس واحدة من أكثر الحقب التاريخية تأثيرًا في مسيرة طرابلس الحضارية، أثار حفيظة وقلق الكيانات الثقافية الدولية، فضلًا عن الحكومة التركية ذاتها، وكان أول تحرك في هذا الاتجاه عام 2009، حين توجّه وفد من “وكالة التعاون والتنمية” (تيكا)، التابعة لرئاسة مجلس الوزراء التركية، ووزارة الثقافة ووزارة الأوقاف، للوقوف على حقيقة المشهد ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المعالم المتواجدة، ورصدت أنقرة لأجل الحفاظ على معالمها في لبنان هبات ودعم لحماية تلك الآثار من الاندثار أو الإهمال.