كم مرة انتابك شعور بالذنب، مولّدًا شعورًا بالأسى الدفين تجاه العديد من الأمور في عالمك الصغير الخاص؟ كم يؤثر الإحساس بالذنب بك؟ أيعقل أن يأخذنا إلى رغبة بالإصلاح ووعود ذاتية بعدم تكرار الأخطاء مرّتَين؟ أم يجرّنا إلى تعاطفٍ يتجاوز الخطأ ثم ما يلبث أن يتكرّر؟
تتفق الدراسات النفسية المتخصِّصة على أن جذور الشعور بالذنب تبدأ بالنمو في مرحلة الطفولة المبكرة، إذ تساهم أساليب التربية والتهذيب التي يتلقاها الطفل من والدَيه في خلق هذا الشعور وتعزيزه، وكذلك نوع التعلُّق بينه وبين أمه على وجه الخصوص، فالأم التي تتعمد إشعار أبنائها بالذنب، وابتزازهم من خلاله، وإلقاء اللوم عليهم وإشعارهم بأن تصرفاتها المؤذية هي نتيجة ﻷخطائهم، تكون قادرة على التلاعب بالأطفال وإيقاعهم في فخاخ الشعور بالذنب والسيطرة عليهم.
فماذا لو كانت هذه العلاقة مبنية بالأساس على الشعور بالذنب؟ وهل تتعمّد بعض الأمهات نمطًا معيّنًا في التربية يولّد الذنب؟
تجربة حيّة
“اعتاد أبي أن يؤذيها ويهملها كليًّا، لم تحصل على الطلاق قبل وفاته، كما لم تحصل على الحياة كما تخطِّط، كانت تسقط ذلك علينا بطرق متعددة، وتلقي اللوم بأننا العقبة أمام حياتها ولو أنها لم تنجبنا أو متنا عند الولادة. دائمًا ما تجلدنا بالقول: “أنا أحتمل لأجلكم، أنتم السبب أنني ما زلت مع أبيكم، لولاكم كنت تطلقت منذ زمن وعشت حياتي، أنتم الذين تكبّلونني””.
تنشأ عقدة الذنب بسبب الإسراف في تأثيم الطفل وتهويل ذنوبه وأخطائه، فيشبُّ على تضخيم مخالفاته البسيطة ويعتريه شعور بأنه مذنب يستحق العقاب
في تعليقها، تقول صفاء حمودة، استشارية ومدرِّسة الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب البشري في جامعة الأزهر بمصر، إن “هذه العبارات وغيرها الكثير من الكلمات تردِّدها بعض الأمهات التي تواجه ضغوطًا كبيرة أمام أبنائها دون أن تدرك عواقبها النفسية عليهم”.
وتضيف حمودة، خلال حوارها لـ”نون بوست”: “تحميل الأم طفلها الذنب بأنه هو المسؤول عن تعاستها في الحياة وهو من تسبّب في استمرارها بعلاقة لا ترغبها، يدفع الطفل إلى تحمُّل هذا الذنب رغم براءته، وتصديقه لأمه ومحاولته إرضائها طوال الوقت حتى لو كان ذلك ضد رغبته وقناعته تعويضًا منه عن تضحياتها”.
تتابع: “ليس صحيًا أن يتحمل الأبناء هذا العبء النفسي، إذ يعزز تأنيب الضمير المستمر لديهم عقد الذنب تجاه الأم أولًا وتنتقل لغيرها من الأشخاص، حيث تنشأ عقدة الذنب بسبب الإسراف في تأثيم الطفل وتهويل ذنوبه وأخطائه، فيشبُّ على تضخيم مخالفاته البسيطة ويعتريه شعور بأنه مذنب يستحق العقاب ويستعذب الألم والمرض تكفيرًا عمّا يتوهّم أنه اقترفه، وكل ذلك يعرّضهم للاستغلال العاطفي، ومن جانب آخر قد تتحول هذه العقدة إلى اكتئاب يدمِّر نفسياتهم وحياتهم”.
من جهته، يؤكد أحمد محمد الحواجري، استشاري وخبير إرشاد نفسي دولي، أن الأمَّ هي المدرسة الحقيقية والمرشد والموجِّه الأول لسلوك الطفل، وعليها تقع المسؤولية الكبرى في نمو الطفل وبناء شخصيته، وأي خلل في هذا الدور يؤدّي إلى خلل في نمو الطفل وبناء شخصيته، ولكن خلال هذه الرحلة تلجأ بعض الأمهات إلى اللوم الزائد عن حده، ما يهدد نمو الطفل الطبيعي.
علامات الذنب المرضية يمكن أن تكون أحد أعراض الاكتئاب والاضطرابات النفسية الأخرى، مثل الوسواس القهري والقلق والاضطراب ثنائي القطب
ويوضِّح لـ “نون بوست” أن عقدة الذنب هي تركيب من مشاعر مدمَّرة مضطربة تدور حول الذات واللوم الشديد للذات وعقابها، وقد يكون مصدر هذه المشاعر هو تضخُّم الضمير وقسوته وتزمُّته، وذلك يعود إلى تراكمات الماضي.
وبيّنَ أن الآثار الناجمة عن عقدة الذنب، تتمثّل باللوم الشديد للذات ومعاقبتها وتوبيخها، والبُعد عن المستوى الطبيعي للسلوك، والفشل في التواصل وتكوين علاقات اجتماعية سوية، إلى جانب ضعف الإنجاز وعدم النجاح في العمل.
بين شعور الذنب والاكتئاب
قالت نتائج دراسة جديدة نُشرَت فى مجلة “جاما” لطب الأطفال، إن الإحساس بالذنب واكتئاب الطفل فى مرحلة ما قبل المدرسة، يؤدّي إلى تغيرات فى منطقة بالدماغ مسؤولة عن العاطفة والوعي الذاتي والإدراك، وأن هذه العلامات التشريحية تؤدّي إلى انكماش يمكن أن يساعد على التنبُّؤ بمخاطر الاكتئاب فى المستقبل.
أجرى الدراسة فريق بحث بقيادة البروفيسور أندرو بيلدن، الأستاذ المساعد للطب النفسى فى جامعة واشنطن، وشاركَ فى الدراسة 306 طفلًا لمدة 3 سنوات، أعمارهم بين 3 و6 سنوات فى بداية الدراسة، خضعوا لتقييم للاكتئاب، ثم تمَّ إجراء مسح بالرنين المغناطيسى لهم كل 18 شهرًا خلال المرحلة العمرية من 6 إلى 12 عامًا.
تمَّ تشخيص 47 حالة اكتئاب بين الأطفال المشاركين خلال سنوات ما قبل الدراسة، وتأكّد وجود 82 حالة اكتئاب بينهم فيما بعد، وكان 55% من الذين يعانون من الاكتئاب لديهم علامات الذنب المرضية، فى حين أن 20% من المكتئبين كان لديهم شعور مفرط بالذنب.
وقال الباحثون إن علامات الذنب المرضية يمكن أن تكون أحد أعراض الاكتئاب والاضطرابات النفسية الأخرى، مثل الوسواس القهري والقلق والاضطراب ثنائي القطب.
ولشرح مثال عن الإحساس بالذنب، قال الباحثون إن الطفل عندما يمرُّ بجوار مصباح مكسور فى الغرفة، يعتذر عن الخطأ رغم أنه لم يكسره، ويظل يعتذر ويشعر بمشاعر سلبية رغم عدم مسؤوليته.
وأشارت نتائج الدراسة إلى أن الأطفال الذين يعانون من الاكتئاب والشعور بالذنب، يحدث لديهم انكماش فى مناطق بالدماغ، وأن هذا الانكماش يستمر لفترة أطول مع استمرار الاكتئاب المزمن فى مرحلة لاحقة من الحياة.
ومن المعروف أن التربية الخاطئة في كثير من الأحيان تكون مسؤولة عن تنامي الشعور بالذنب لدى الطفل، بمعنى أن الآباء يكونون دائمي التأنيب لأطفالهم ويطالبونهم بالاعتذار عن أبسط التصرفات العفوية التي يمكن أن تصدر عمّن هم في مثل سنّهم، وهو الأمر الذي يجعل الطفل دائم الإحساس باقتراف خطأ ما.
عقب تجاوز مرحلة الطفولة، يبدأ الأبناء في تقبُّل تجاربهم والتعامل مع الجروح الناتجة عن العلاقة السامة بالأم، لكن هذا الإدراك يصاحبه احتياج مستمر إلى القبول والحب الأمومي المفقود
وحول كيفية علاج الطفل ودمجه في بيئة صحية وسليمة، يجيب الدكتور الحواجري أنها تتلخّص بالعلاقة السوية المتوازنة بين الأم وطفلها وسائر أفراد الأسرة، والتواصل الإيجابي الفعّال مع الطفل، وإتاحة الفرصة للطفل للّعب والتعبير عن أفكاره ومشاعره، والنوم الكافي المبكّر للطفل، والابتعاد عن الألعاب الإلكترونية والجلوس أمام التلفاز والهاتف لوقت طويل، والاستماع والاستمتاع بين الأم والطفل.
إضافة إلى الاسترخاء للأم والطفل، إذ يُعتبر الاسترخاء خير معين لتفادي الضغوط وتحاشي نتائجها، حيث يعمل الاسترخاء على تنمية قوة التحكم بالذات، كما يعجّل برحيل التوترات النفسية والانفعالية، ويؤدي إلى حدوث نوع من التوازن الانفعالي والعاطفي في العقل والجسم.
يمكن الحصول على الاسترخاء عبر التأمل، الذي يُعتبر من أنجح الوسائل التي تخفِّف من عبء الضغوط وتعزِّز الصحة الجسدية والنفسية، فهو يساهم في تهدئة الأفكار الداخلية، وفي إبعاد مشاعر العجز واليأس والعزلة، وفي جلب الراحة النفسية والطمأنينة، وفي إرخاء العضلات، وزيادة الوعي وصفاء الذهن، وتحسين المزاج، وترتيب الأفكار وتسلسل الأولويات، وفهم ماهية العلاقة العميقة مع الآخرين، خصوصًا تلك المتعلقة بالحياة اليومية.
بالنهاية، وعقب تجاوز مرحلة الطفولة إلى البلوغ والنضج، يبدأ الأبناء في تقبُّل تجاربهم والتعامل مع الجروح الناتجة عن العلاقة السامة بالأم، لكن هذا الإدراك يصاحبه شعور ساحق بالخسارة والخذلان، واحتياج مستمر إلى القبول والحب الأمومي المفقود.
يتضخّم الصراع الداخلي ويصبح أكثر تعقيدًا عند الرغبة في الانفصال العاطفي والخروج من فخّ مشاعر الذنب، في ضوء الافتراضات الثقافية والاجتماعية المتعلقة بالحب الأمومي، وصورة الأمومة المقدسة، وواجب الأبناء تجاهها، فهناك محاكمة منعقدة دائمًا في رؤوس الأبناء، رغم أن أبناء العلاقة السامة لم يختبروا الصورة الذهنية النمطية عن الأم.