الأم المتسلطة
ترفض بعض الأمهات الاعتراف بأحقية أبنائها في اتخاذ قراراتهم بمفردهم، وتفرض تدخّلها في كل الأمور، تمنح نفسها الحقّ في إبداء رأيها في كل مناحي حياتهم، تضع نموذجًا يجب أن يكون الولد مثله، محاولةً وضع الطفل في قالب يمكن أن يكون ضيّقًا فيخنقه أو واسعًا فيضيع فيه، وهي في سعيها لبناء شخصية ترضيها لن تحصد سوى شخصية تابعة وضعيفة، يتمرّد صاحبها على الأم لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع العيش دونها.
ولأن الأمر يتعلق بصورة أكبر بالأمهات، فإن مصطلح “الأم المتسلطة” أو “الأم الحوّامة” أو “الأم الهليكوبتر” برز استخدامه في الأوساط البحثية منذ قرابة عقد من الزمان، في إشارة إلى نوع من أمهات الطبقة الوسطى في المجتمع، التي يحلو لها “الحوم” حول أبنائها الصغار والتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، وتعدّ عليهم الأنفاس.
يعزو الأخصائيون النفسيون سبب حب السيطرة إلى وجود خللٍ في التربية والوراثة وبعض العوامل النفسيَّة الأخرى التي قد تكون حصلت للطفل في فترات حياته وتركت تأثيرها فيه. وعلى ذلك، يرى بعض أصحاب الاختصاص أنَّ الشخص المتحكم هو إنسان مريض نفسيًا عانى من عقدٍ نفسيَّة سابقة سببت له مشكلات داخليَّة في شخصيته وانعكست على تصرفاته مع الآخرين من خلال التدخل في حياتهم ومحاولة السيطرة عليهم لتغذية النقص الحاصل لديه.
بينما يرى البعض الآخر أنَّ التسلط ناتجٌ عن سوء التربية والدلال الزائد مثلاً، وتنفيذ كل ما يطلبه الطفل سببٌ في تحول شخصيته إلى شخصٍ متسلطٍ لأنه يحصل على كل ما يريده، ما يدفعه إلى ممارسة سلطته على الأشخاص الذين يرفضون تلبية مطالبه. أو قد تكون القسوة المفرطة التي تولد أبناءً متسلطين ناجمة عن الكبت والضغط الداخليين اللذين ينعكسان على أسلوبهم في التعامل كالحقد والغيرة والرغبة في الانتقام.
ما العلامات والإشارات التي تدلّ أن الأم متسلِّطة على أبنائها والأسباب التي تبررها لسلوكها المتسلِّط تجاه أبنائها؟ وما أبرز الآثار على الصحة النفسية للأبناء؟
“حاضر” في كل الأوقات
بداية، يجيب الدكتور رياض البرعي، أخصائي الأمراض النفسية والعصبية، بأن هذا النوع من الأمهات يرى أي اضطراب يشوب علاقتها بأبنائها ما هو إلا نتاجًا لخطأ الأبناء وتقصيرهم، وليس العكس. ويضيف، خلال حواره مع “نون بوست”، أن الشخصية المتسلطة دائمًا شديدة الحزم قاسية المشاعر ومتمركزة داخل ذاتها، بعيدة تمامًا عن المرونة أو التراجع فى القرارات، كما أنها لا تعترف بفكرة الأسف والاعتذار وشديدة العناد إذا تعلق الأمر بتحقيق مآربها الخاصة.
وتابع: “لا تسمح الأم لأبنائها المناقشة، إنما تجعل عليهم قول كلمة “حاضر” دائمًا، وتنفيذ ما تمليه دون أي جدل. كما أنها تكون أكثر عنفًا للتعبير عن سلطتها من خلال العنف اللفظي أو الجسدي والنفسي، كتوبيخهم وعدم مسامحتهم إن أخطأوا، بالإضافة إلى اتكاليتها على الأبناء، حيث تلقي على عاتق الأبناء تلبية احتياجاتها المختلفة بشكل كبير، مقابل عدم منحها إياهم الثقة”.
وبحسب البرعي، فإن الطفل ينمو مع إحساس طبيعي بالأمان والقبول، ولكن سرعان ما يواجه أُمًّا تعاني ولا تستطيع التعامل مع أسلوبها الخاص وبالتالي تنقله للأطفال، وقد لا تكون الأم واعية أو مُحدِّدة لفكرة الأمومة، هل ترغب بها أم لا؟ فأغلب حالات تسلُّط الأم إما بسبب نقص إحساسها بثقتها بنفسها وإما بسبب نقص إحساسها بمدى أهليتها للأمومة.
تقول المستشارة التربوية والإعلامية، همسة أحمد، إن تسلُّطًا لا إراديًّا يدفع الأمهات للسعي إلى زيادة عدد كلمة “حاضر” في قاموس أطفالهن، ليكونوا نعم الأطفال المهذبين المطيعين، الذين لا يرهقون أهاليهم بأفكارهم ونقاشاتهم واعتراضهم على بعض الأمور، ليصنعوا بالتالي تماثيل تُنفِّذ الأوامر والتعليمات دون نقاش.
وتضيف في مقال لها، أن المشكلة تكمن في أن العُرف من حولنا يؤكد بأن الطفل المطيع الذي لا يناقش ولا يعترض هو الطفل الأكثر حظًّا من التربية والأخلاق، وطفل يستحق والداه كل احترام وتقدير لأنهما صنعا تمثالاً لا يعترض ولا يخالف وجهات نظريهما.
الكثير من الأهالي ينسون أو يتناسون أن للطفل كيانه المستقل الذي يحتاج للدعم ليكوِّن شخصيته المستقلة، لا أن نصنع منه نسخة أخرى عنّا.
وتلفت إلى أن الكثير من الآباء والأمهات يعيشون بينهم وبين أنفسهم في صراع مع “بعبع الطفل العنيد”، فأي محاولة من الطفل للاعتراض أو النقاش تندرج تحت بند العناد، ليسارع الأهل مستنجدين يبحثون عن حلٍّ لهذه المعضلة.
“لو دققنا في أطفالنا، سنجدُ لديهم صفات إيجابية ومميزة، إلا أننا نقمعها ونهدمها دون وعي، تشتكي أمهات كثيرات من فضول أبنائهن، غير مدركات أن هذا الفضول هو وسيلة الطفل لاكتشاف ما حوله، وعليهن ألا يُحجِّمن تفكيره وأُفُقه، بل يعلّمنه فقط كيف يحترم حريات الآخرين أثناء سعيه نحو اكتشاف عوالم جديدة”.
وتنبِّه إلى أن الكثير من الأهالي ينسون أو يتناسون أن للطفل كيانه المستقل الذي يحتاج للدعم ليكوّن شخصيته المستقلة، لا أن نصنع منه نسخة أخرى عنّا، حيث عادةً ما تكون النسخ الأخرى عنا مشوَّهة، فهي لا تعبِّر عن كينونة الطفل، ولا تساعده ليبثَّ قناعاته بأريحية وشجاعة وثقة، فكلما كان الطفل صاحب شخصية أقوى، كلما سعى أكثر ليثبت ذاته بكل الطرق التي تمنحه هذه الميزة.
كيف تؤثر على الصحة النفسية للأبناء؟
تُشكِّل العلاقة المبكرة بالأم أساسًا متينًا لعلاقة الإنسان بالعالم من حوله، وعلاقته بنفسه، فعن طريق هذه العلاقة المبكّرة يبني مفاهيمه الأولى عن الثقة والتفاهم والحب، واضطرابها يترك آثارًا عميقة على علاقته بنفسه وبالآخرين.
في سياق ذلك، أشار الدكتور رياض البرعي إلى أن “الأم التي تمارس التسلُّط اللفظي على أبنائها، غالبًا ما تُولّد عقدةً من الذنب لديهم، ولاحقًا بالطبع إحساسًا بعدم الأسف أو الشفقة، بطبيعة الحال التسلُّط يُعتبَر عنفًا، والعنف يولّد عنفًا مشابهًا له مع اختلاف طريقته”.
وعن طبيعة العنف الذي قد ينشأ لاحقًا بسبب تصرفات مارستها الأم المتسلِّطة على أبنائها، أضاف: “كثيرًا ما يشعر الابن/ة بأن الأم لم تكن على قدر من المسؤولية على سبيل المثال، وفي كل محادثة تدور وحتى إن كان نقاشًا طبيعيًّا، يتخيّل الأولاد أنهم يعيشون داخل حقل ألغام مع الأم، وستتكون الفكرة لديهم بأن كل كلمة منهم سينتج عنها رد فعل سليط أو كلمة ليس لها داع من الأم، فيبقون غير قادرين على النقاش أو التواصل أو حتى التعبير عن آرائهم”.
ويستطرد بالقول: “فينشأ لديهم ضعف ثقة، شفقة على حالهم، خوف ورهاب من الآخرين، وحتى خوف من أي شخص آخر قد يحمل صفة من صفات أمه حتى إن كانت شكلية، وهذا ما نسميه علاقة الأمومة المتسلطة السامة”.
كذلك، أن إجبار الابن على خيارات معيّنة قد تتعلق بدراسته أو مواهبه في كثير من الأحيان يتسبّب في فشله في المجال الذي أُجبر عليه، فهذا المجال قد لا يتوافق مع ميوله واهتمامه ورغباته أو قدراته.
هروب الأبناء مستقبلاً
“قررت أن أسكن في منطقة بعيدة، ولو استطعت سأنتقل إلى بلد آخر، لا اعتبر ذلك هروبًا بقدر رغبتي المحافظة على سلامة العلاقة، خصوصًا بعدما تزوجت وأصبح تحكم أمي في حياتي أكبر”. يقول الثلاثيني (أحمد. غ) لـ “نون بوست”. مضيفًا “من خلال ابتعادي أدركت بشكل جيد أن الانفصال خفف كثيرًا من التحكم ومن استدعاء مرارة الماضي والمشاحنات، وكيفية السيطرة على المشاعر السلبية أثناء الحديث”، مؤكدًا أن البعد والانفصال يمنح الطرفين شيئًا من الهدنة ويقلل من المواجهة وما تنتهي به من خصام، لكنه لا يطفئ لوم الطرفين للأخر.
تقول أخصائية تعديل السلوك والصحة النفسية نسمة عصام، إن ردود فعل الأبناء تجاه تسلط الأم يختلف بقدر رفاهية الخيارات لديهم، فبعضهم لا يملك المال أو الظروف للانتقال لبيئة أخرى، يمارس فيها حريته، فوقع ضحية التحكم بشكل كبير وظاهر على شخصيته فكثيرًا ما نجد رجال تجاوزوا الخمسين ولم يتمكنوا من الزواج لعدم رضى الأم، وكثيرًا ما نرى رجال بصورة الأباء حين يصل بالأم التحكم باللباس واختيار المظهر.
وعلى الجانب الأخر، تقول المختصة بأن أخرون تمكنوا فعلاً من الفرار والانفصال عن الأم وسطوتها، سواء بحجة الدراسة أو الزواج، ورغم أنهم أقل ضرر إلا أن ذلك لا يعني تحررهم بالمطلق من التسلط عن بعد.
وتضيف: “ترفض هذه الأم أن تكون لأبنائها حياة خاصة بهم فهي دائمًا تتدخل في جميع أمور حياتهم، وعندما يكبروا تتدخل في حياتهم سواء كان في الجامعة في اختيار التخصص التي تراه هي مناسب له، وأيضًا بعد الزواج تتدخل في أمور حياتهم تحت بند أنها تحميهم وتخاف عليهم”.
وتتابع خلال حوارها لــ “نون بوست”: تتدخل أيضًا في أولاد أولادها وتربيتهم حتى أنها تقوم باختيار الأسماء للأحفاد، وتعاملهم بنفس الطريقة التي كانت تعامل به أولادها. أما بالنسبة للبنت فهي تتدخل في تفاصيل حياتها بعد الزواج بشكل كامل، بسبب هوس السيطرة والتحكم والسلطة، من الممكن أن تفرض كلامها على زوج ابنتها، فهي دائمًا تخطئ ولا تعتذر وتحاول اقناعك بشتى الوسائل بأنها الضحية مهما عملت.
وتصف أخصائية تعديل السلوك، بأن بعض الأمهات تشكو جفاء وقطيعة الأبناء بعد زواجهم، ومنهن من تدعي هروب ابنها بأسرته عنها، يتضح لنا في كثير من الحالات أن أسباب قطيعة الأبناء تكاد تكون مقنعة لتفادي ضرر تسلط الأمهات، مشيرةً إلى أن بعض الأمهات يفرضن أوامر يصعب تحقيقها مثل أن يخيّر الابن بين رضا أمه، أو البقاء مع زوجته.
وترى المختصة نسمة عصام أن على الأم مواجهة نفسها في هذا الإطار، بقولها: “يجب أن تحدد أقوى الأسباب التي تتحكم في تصرفاتها، تسأل نفسها عن سبب عصبيتها، هل ذلك يشعرها بالهيبة؟، هل لأنها مضغوطة في حياتها؟، هل التسلط يحل المشكلات مع الأولاد، فيجب أن تعالج الأمور داخل نفسها، فمثلًا إذا كانت مضغوطة في حياتها يجب أن تزيد من فترات الراحة خلال يومها، أن تبتعد عن الأشخاص الذي يضيفون الضغط إلى حياتها، وإن كان هناك مشكلات مع زوجها أو مع شخص معين يجب أن تجد لها حل جذريًا بدلاً من تفريغ الغضب في الأولاد.
وتوجهت المختصة المصرية، بالنصيحة للأمهات، الراغبات بالتخلص من التسلط بحق أسرهن، بضرورة إشغال أوقاتهن بشكلٍ يعزز من سلامة الصحة النفسية الخاصة بهن، من خلال إدارة مشاريع تتماشي مع قدراتهن ومواهبهن، أو من خلال الانضمام للنوادي الثقافية أو الدينية والرياضية، إلى جانب الاعتراف دائمًا أمام أنفسهن ببداية كل صباح، بأن الأمومة مصدر للحنان لا النفور، وأن الحوار يعالج كل الأزمات دون أن يترك ندوبًا لا تُمحى.
كيف تنجو بنفسك؟
لا يملك أيٌّ منا تغيير الآخرين، لكننا نملك تغيير الطريقة التي نتلقى بها تصرفاتهم تجاهنا، ونملك القدرة على تحديد مساحتنا الشخصية التي تحمينا من إيذائه. ينصح المختصون دائما باللجوء للعلاج النفسي، والذي قد تكون رحلته طويلة وشاقة ومؤلمة، لكنه سيساعدك على التعافي من ضغط ما تفرضه الحياة برفقة أم متسلطة، وقد يمنحك ذاك الانفصال العاطفي، لا يُقصد هنا بالانفصال الانفصال المكاني أو القطيعة، بقدر ما نعني به من الناحية العاطفية والنفسية فقط؛ بحيث لا تأخذ الأمور على محمل شخصي، ولا تتفاعل مع تصرفاتها المؤذية، ولا تشعر بالمسؤولية والذنب تجاه مشاعرها أو متطلباتها.
ولا شك أن هذا الانفصال صعبًا، فحتى إذا ابتعدنا إلى قارة أخرى، تكفي كلمة واحدة في مكالمة هاتفية لإعادتنا أطفالا ضعافا نبكي في ركن مظلم، ولكن الانفصال العاطفي سيحميك من الشعور بالجرح، ويساعدك على فهمها أكثر، وفهم مخاوفها وقلقها، وسوف تتعلم كيف تتجنب السقوط تحت تأثير مشاعرها، كما ستدرك أنك لا تحتاج إلى أن تغيرها كي تتعافى، لا تضيع حياتك هباء بانتظار أن تتغير أمك، فهذه حياتها ومسؤولياتها، ليست حياتك ومسؤولياتك، ركز في أن تعيش حياة جيدة ولا تحاول تغييرها.
أما عن ترسيم الحدود الشخصية، فقد يكون ذلك صعبًا على الأم بأن تقبل الحدود الجديدة التي وضعتها، وقد تتهم أشخاصًا آخرين بتشجيعك على وضعها (على سبيل المثال الزوج/الزوجة، الأصدقاء الذين أفسدوك، المعالج النفسي)، وتجنبًا لذلك تحتاج إلى أن تبذل انتباها أكبر لنمط التواصل بينكما، وأن تنتبه لعاداتك ودفاعاتك التي تستخدمها للسيطرة على القلق.