“لا تتوقف أمي عن انتقادنا فردًا فردًا، تنتقد كل ما أفعله وما أرتديه وما آكله وطريقة جلوسي، حتى فقدت قدرتي على إرضائها، بيتنا أشبه بمحكمة تستجوبك على أقل السهوات، أضطر دائمًا إلى العزلة، لكنها مع ذلك تصبّ غضبها عليّ لكوني الكبرى؛ وتهدّدني دائمًا بحرماني من الدراسة”.
وتستذكر لمى بعد رجوعها بالذاكرة للوراء موقفًا مضحكًا مع والدها، وكيف تحول من دون سابق إنذار إلى شجار مع والدتها، تقول: “أبي يعاني مثلنا، حين يُحضر المشتريات تنتقد الأسعار وجودة الأصناف حتى يضيق صدره ويخرج من البيت غاضبًا وتواصل أمي الغليان؛ لا تتوقف هنا، فربما أُعاقب أنا وأخوتي على فعل ليس لنا دخل فيه، لا يسلم أحد منا خاصة أشقائي الصغار من تعليقاتها السلبية، كثيرًا ما أشعر بالشفقة والقلق تجاههم، لكن تدخُّلي كثيرًا ما يزيد النار بيننا ولا يطفئها”.
قصّت أجنحتي
تضيف ياسمين التي تمرُّ بأحداث مشابهة: “إن العيش مع أمّ لا تعرف غير الانتقاد أمر أشبه بدائرة من نار كلما استدرت لسعتك، أمّ ساخطة دائمًا، لا أذكر يومًا أنها شاركتنا لحظات جميلة، أو وافقتني في قرارٍ اتخذته سواء في مظهري الخارجي وملابسي أو ديكور غرفتي أو علاقاتي أو اختيار تخصصي”.
تتابع بعد لحظاتٍ من الصمت: “حين وصلت للجامعة واختلطت بعالم كبير وجديد، اكتشفت مدى ضعف شخصيتي وقلة ثقتي بنفسي، رغم أن صديقاتي يقلن عني جميلة، وخوفي الشديد من تقديم المبادرة في كل شيء، حتى الكلام أخجل البدء فيه مع أي شخص غريب، وهذا أثّر على تحصيلي الدراسي بالتأكيد، وضيّع عليّ الكثير من الفرص، وأعزو كل ذلك لأمّي، لقد قصّت أجنحتي قبل أن أفكر بالتحليق”.
لا بأس بأن تنتقد الأم بعض الأفعال، لكن من غير الصحّي انتقاد كل ما يفعله الطفل
بدافع الحب أو الحرص تبرِّر العديد من الأمهات كثرة استخدام اللوم والانتقاد في تربية الأبناء، إلا أن هذا الأسلوب يمكن أن يؤدي إلى عواقب طويلة المدى على نفسياتهم وعلى تكوين شخصياتهم وعلى مستقبلهم.
تقول الكاتبة بيجي أومارا (كاتبة في التربية): “الطريقة التي نتحدث بها لأطفالنا تصبح صوتهم الداخلي”، لذا عندما تصبح كلماتنا القاسية جزءًا أساسيًّا من الحديث عند ارتكاب الأخطاء، فسوف يتعرض طفلك لخطر تشكيل أنماط طويلة المدى من “النقد الذاتي القاسي”، قد يصبح طفلك أفضل حليف لنفسه أو أكبر عدوّ لها، فما الذي تفضّله لطفلك؟
النقد البنّاء
تؤيّدُ الأخصائية النفسية والمستشارة التربوية سوزان شعث، القولَ السابق، وتضيف: “لا بأس بأن تنتقد الأم بعض الأفعال، لكن من غير الصحّي انتقاد كل ما يفعله الطفل، الكثير من الأمهات يضغطن على أبنائهن بطريقة مؤذية لكي يبذلوا الكثير ويظهروا للآخرين بشكل أفضل، إذا فشل الابن في أمر ما فإن والدته سوف تضاعف الفشل وتجعله أكبر من حجمه”.
وتصفُ شعث تصرفات الأم الناقدة باستمرار بأنها تجعل من الصعب على الأبناء أن يتقبّلوا أنفسهم بشكل صحيح، لن يفكروا أبدًا أنهم جيّدون بما فيه الكفاية.
النقد السلبي يولِّد عدم الثقة لدى الطفل، بالإضافة إلى اضطرابات نفسية، فبالتالي يصبح الطفل مهزوم الشخصية، يلجأ إلى الكذب والمبالغة
تتابع خلال حوارها مع “نون بوست”، أن النقد الهادف والبنّاء يُراد منه تحسين الشخصية، ويمثّل دافعًا للتقدُّم إلى الأمام من دون تجريح أو تقليل من شأن الطفل، أما النقد الهدّام عادةً ما يكون لإبراز الأخطاء، وبين طياته إحراج وتشويه للشخصية، وللأسف هذا ما تقع فيه كثير من الأمهات عند نقدهن لأبنائهن بأسلوب خاطئ، من دون مراعاة لقواعد النقد الهادف.
وتلفت شعث إلى أن النقد الإيجابي يعكسُ ذكاء الأم وثقافتها في استخدام مهارات وأساليب سليمة وإيجابية في تربية طفلها، على سبيل المثال لو قام الطفل بكسر زجاجة، فالنقد الإيجابي يكون بعدم توبيخه أو لومه، وأيضًا عدم نقده أمام الأطفال الآخرين أو حتى إخوانه، إنما بأسلوب يقلِّل من خوف هذا الطفل ويجنّبه الإحراج وتكرار الفعل الخطأ.
وبيّنت أن النقد السلبي يولِّد عدم الثقة لدى الطفل، بالإضافة إلى اضطرابات نفسية، فبالتالي يصبح الطفل مهزوم الشخصية، يلجأ إلى الكذب والمبالغة، ضعيفًا لا يقدر على الدفاع عن نفسه أو تكوين علاقات اجتماعية وصداقات، متقلبًا ومزاجيًّا، وينفر منه المحيطون في المجتمع، كما يهرب من المواجهة والمسؤولية.
طوق نجاة أم حبل مشنقة؟
وتشير المستشارة التربوية إلى أن سمات شخصية الإنسان تتشكل مع تشكُّل الشخصية في سنوات العمر الأولى، وغالبًا ما يكتسبها الطفل من الأهل والبيئة المحيطة، فعندما يتمُّ توجيه اللوم للطفل على كل كبيرة وصغيرة يكتسب هذه السمة لا إراديًّا.
أما المختصة النفسية مريم صالح، فتقول: “إما أن تكون الأم الناقدة طوق نجاة وإما حبل مشنقة لأبنائها، فالنقد عندما يُذكر فإن الشعور والتفكير يميل نحو الاتجاه السلبي، مع العلم بأن النقد اتجاهان وهما النقد البنّاء السليم الإيجابي والنقد الهدّام القاتل المحبط. وبطبيعة الحال فإن الأم الناقدة الواعية التي تسعى إلى بناء جيل واعٍ هي التي تحلِّل سلوكيات أبنائها بطريقه سليمة، وتحاول أن تقوِّم هذه السلوكيات لكن بطريقة ودّية تطويرية تساهم في تحسين أداء الطفل لا العكس”.
وترى خلال حديثها لـ”نون بوست” أن اللوم والانتقاد من قبل الأمهات يغذيان أسلوب العنف والتمرد لدى الطفل، خاصة إذا استخدم معه أسلوب المقارنة، كما يجعلانه يتبنّى سلوكيات شاذة بعيدة عن المثالية، معتقدًا أنه بذلك ينتقم من أبوَيه لأنهما مصدر انتقاده، ويسعى إلى إخراج الطاقة السلبية التي بداخله من خلال السرقة والكذب، وقد يؤدي ذلك إلى الانطوائية الشديدة والعناد في ردود أفعاله.
كيف يمكن للأم أن تحوِّل سلوك طفلها إلى الأفضل دون أن تكون قاسية، وحتى لا يأخذ الطفل الكلمات بشكل نقدي؟
إجابةً على هذه النقطة، توضِّح المرشدة النفسية أهمية بدء المحادثة بشيء إيجابي عن الطفل لكسر الجليد وتخفيف التوتر، لن تنجح الكلمات العامة مثل “أنت طفل جيد”؛ إذا كنت ستتحدثين عن سلوكهم، فمن الأفضل أن تتذكري لحظة تصرّفَ فيها الطفل بطريقة لطيفة ويكون لها تأثير إيجابي على الآخرين.
معالجة الآثار من النقد السلبي الذي وقعت على شخصية الطفل يكون أولًا بتجهيز بيئة آمنة للطفل، ولكن قبل ذلك يجب العمل على الأم من خلال جلسات طويلة المدى
وتتابع: “بمجرد التأكُّد من سماع الطفل لك، يمكنك معالجة المشكلات أو السلوك المضطرب وتجنُّب صياغة الملاحظات والتعليقات بشكل محدَّد وملزَم مثل عبارات “أنا لا أحب سلوكك” أو “يجب ألّا تفعل ذلك مرة أخرى”؛ كذلك الابتعاد عن تأنيب الطفل، بل محاولة التوصُّل إلى حل معًا لتحسين الموقف، مشدِّدة على ضرورة الخروج من المحادثة بشكل صحيح، حتى لا يعتقد الطفل أنه خابَ أملك وأنك لم تعودي تحبينه، ضعي حدًّا للحديث وحاولي عدم استخدام عبارات عامة وكلمات مفرطة”.
معالجة الآثار
بالعودة إلى الاستشارية النفسية والاجتماعية سوزان شعث، أكّدت أن معالجة الآثار من النقد السلبي الذي وقعت على شخصية الطفل يكون أولًا بتجهيز بيئة آمنة للطفل، ولكن قبل ذلك يجب العمل على الأم من خلال جلسات طويلة المدى، ووضع أهداف ملزمة لها، مثل جلسات مسجَّلة بشكل يومي مع الأمّ لمدة ساعة، والعمل من أجل تأهيل أمّ تتوافق بيئيًّا مع أسرتها زوجها وأطفالها، وبالتالي تتخلّص من السلبية التي تحويها.
وتردف بالقول: “الأساس في معالجة النقد السلبي هو علاج الأم، وعندما نشعر بأن الأم قد بدأت تتقبّل وجهات نظر الآخرين دون نقدها بشكل سلبي، نبدأ العمل على التوافق بينها وبين البيئة الأسرية التي تعيش فيها”.
وأوصت المختصة النفسية والأسرية الأمَّ كثيرة النقد واللوم أن توظِّف أساليب الاستماع الجيد لطفلها، متابعةً: “فلو كل أم جلست مع ابنها تستمع إليه لمدة 3 دقائق يوميًّا من دون نقد سلبي، ستدعم ثقة الطفل، ويعتاد الطفل في هذه الحالة اللجوء إلى الأمّ دومًا لأنها منحته الأمان وأنصتت لما يجول في نفسه، كل ذلك يعزز الثقة بين الطرفَين، ويبني شخصية قوية قادرة على تحمُّل المسؤولية والنجاح”.
جرح الأم
“جرح الأم” بدأ كمفهوم تشخيصي لشرح آثار الأذى الذي تلحقه الأم على نفسية الأبناء وخاصة ابنتها، كالشعور بالذنب الذي تحمله حيال أمّها، والذي تغذّيه الأم عبر التلاعب العاطفي في كثير من الأحيان، والتقنيات السيّئة للتعامل مع الضغط الاجتماعي الذي يجعل أولئك الأمهات عنيفات وسيّئات تجاه بناتهن.
قد توجِّه الأم غضبها اللاواعي على الأطفال، بينما في الحقيقة هي غاضبة على المجتمع الذي طلبَ منها بذل التضحيات
وتجمع العديد من المقالات النسوية على أن نشأة جرح الأم تكمن في عدم وجود مكان آمن للأمهات لتمرير غضبهن والتحدث عن آلامهن، وتحاول الأم إثبات هويتها وجدارتها من خلال الطفل الذي يُعتبَر امتدادًا لكيانها وجزءًا من ملكيتها التي ضحّت الكثير لصقلها وتحديدها دون الحصول على الدعم أو الامتنان.
وقد توجِّه الأم غضبها اللاواعي على الأطفال، بينما في الحقيقة هي غاضبة على المجتمع الذي طلبَ منها بذل التضحيات والتخلي عن الأحلام من أجل تربية هؤلاء الأطفال، وتكون الابنة تحديدًا هدفًا لهذا الألم لأنها تُذكّر الأم بشكلٍ لا واعٍ بصباها وطموحها الذي طُمس عندما قررت وهب نفسها للأمومة، فتوقظ بداخلها ألم عميق يظهر على شكل غضب ونقد وتحكُّم.
للأبناء.. رحلة التعافي
إن الشعور بعدم الاستحقاق والتشكُّك في قراراتك هما بمنزلة إرث شائع لمثل هذا النوع من العلاقات، إرث ثقيل وممتلئ بمرارة يصعب ابتلاعها، واستسلامك يعني يأسًا ضمنيًّا من وجود علاقة طبيعية بينك وبين والدتك، من أن تحصل على محبّة وقبول الشخص الذي تنتظر محبّةً غير مشروطة منه منذ ميلادك.
يأسك هو بمنزلة وداع نهائي للأمل في علاقة أمومة طبيعية استحققتها ولم تحصل عليها، في رحلة شفاء مرتبطة في الأساس بإدراكك أنك تستحق الحب.
تحتاج إلى أن تغفر أو تسامح كي تستطيع التجاوز والمضيّ في حياتك، قد يفيدك أن تحظى بمحادثة صريحة مع والدتك، وقد لا تؤدي مثل هذه المحادثة إلا إلى المزيد من الألم، لذلك حاول أن تجد طريقة للتخلُّص من الغضب والاستياء، فالغضب والاستياء العالقان سوف يجرحانك أنت، أنت فقط.
سيساعدك العلاج النفسي والتدريب على النَّفَس الطويل، قد يستغرق منك وقتًا طويلًا لكي تصل إلى درجة كافية من الاستقلال العاطفي والنفسي، لكنها دروب مضمونة في رحلة التعافي، وفق ما يؤكده المختصون.