تُركِّز ثقافتنا اليوم تركيزًا مفرطًا يكاد يكون حصريًّا على التوقعات والآمال الإيجابية إلى حدٍّ غير واقعي، حيث يقول مارك مانسون في كتابه “فن اللامبالاة” لعيش حياة تخالفُ المألوف، واصفًا تنامي فكرة “الكمالية” في المجتمعات: “كُن أكثر سعادة، كُن أكثر صحة، كُن الأفضل، كُن أحسن من الآخرين، كُن أكثر ذكاء، وأكثر سرعة، وأكثر ثراء، وأكثر إغراء، وأكثر شعبية، وأكثر إنتاجية، وأكثر استقطابًا لحسد الناس، وأكثر استقطابًا لإعجابهم، كُن كاملاً مدهشًا”، ويعرَّف الكمال أو الهوس بالمثالية بأنه الرغبة الدائمة في الظهور أمام الآخرين في صورة الشخص الكامل، أو الشعور بأن الوصول إلى الكمالية أمر ممكن عند الوضع في الاعتبار بعض العوامل، وهو الأمر غير المنطقي دون شك.
ويضع الكماليون معايير صارمة لكل فعل وسلوك وطريقة تفكير (سواء من جانبهم أو من قبل الآخرين)، فيحدِّدون نقطة كهدف ولا يشعرون بالرضا عن أنفسهم وأدائهم حتى يصلوا إلى هذه النقطة، إنهم لا يتسامحون مع العيوب والأخطاء، يختارون الأمر بدقّةٍ عالية وبقلقٍ شديد، إنهم نقّاد لا يرحمون، ويلومون أنفسهم أو الآخرين لكونهم “طبيعيين” و”غير كاملين”، وعادة ما يكون من الصعب إرضائهم وإقناعهم.
فكيف سيحتمل ذلك طفلٌ كان نصيبه من الحياة أمًّا لا تعترف بأن “هناك شقوقًا في كل شيء.. وهكذا فقط يتسلّل الضوء إلى الداخل”؟
السعي وراء المستحيل
في البداية، يوضّح مصطفى مرشود، أستاذ علم النفس، أن الكمالية سمة من سمات بعض الشخصيات وقد تصل إلى الاضطراب النفسي، هذه الشخصية تبحث عن أن تكون كاملة من جميع النواحي بمعنى أن تكون 100% في كل شيء، وهذا لا يقتصر عليها وحدها بل على عائلتها كاملة.
ويضيف خلال حواره مع “نون بوست”، أن الأم الكمالية أولًا غير راضية عن الذات، وهذا طبيعي لأنه من المستحيل أن تكون 100% في كل شيء، حيث إنها تسعى إلى المستحيل، ما يجعلها غير راضية عمّا يدور حولها كليًّا.
وينبّه إلى أن هذه الأم تعيش نوعًا من السخط، وهو السخط الذاتي بمعنى السخط على ذاتها، وبعد تراكم مثل هذه المشاعر سيولد لديها شعور بالإحباط الذي سيلاحقها في كل مكان، من ثم سنصل إلى مرحلة الكآبة، وقد يتطور إلى اضطراب اكتئابي معيّن.
هناك فرق بين تشجيع الطفل للحصول على تقديرات ممتازة في دراسته، وبين اللوم والتهديد إن لم يحصل على الكمال في الدرجات.
من جهتها، ترى الإخصائية والمرشدة النفسية عبير عبد الهادي، أنه “من الطبيعي أن تطمح الأم ببلوغ ابنها أحسن المراتب في جميع مجالات الحياة، خصوصًا في درجاته الدراسية، لكن الأم الكمالية لا تقتنع بأحسن الدرجات، بل تطالب أبناءها بإحراز درجة الكمال 100% وألّا ينقص عن ذلك نصف درجة في أي مادة، وإلا صبّت جام غضبها وخيبة أملها عليهم”.
وتكمل: “كما من الطبيعي أن تطلب الأم من ابنتها ترتيب غرفتها، لكن الأم الكمالية لا تقتنع بالترتيب، بل تريدها لامعة معقّمة وإن حدث ووجدت شعرة على الأرض تطالبها بإعادة التنظيف”.
وتقول عبد الهادي في كتاب “خفايا العنف الأسري”، إن تشجيع الطفل مهم جدًّا لنموهم، لكنّ هناك فرقًا بين تشجيع الطفل الحصول على تقديرات ممتازة في دراسته، واللوم والتهديد إن لم يحصل على الكمال في الدرجات، وهناك فرق بين أن تدعم الطفل في مسيرته وأن تدفعه حتى يسقط على وجهه.
ما هي المخاطر المحتمَلة للكمال على الطفل؟
تردّ المرشدة النفسية عبد الهادي بالقول: “إذا طالبت الأم أبناءها بما لا يمكنهم بلوغه، فهي كأنما تخدعهم لتجعلهم يجتهدون في ملاحقة سراب لن يصلوا إليه؛ واستمرارية خيبة الأمل بعدم الوصول للهدف مرة بعد مرة مصحوبًا بلَوْم وتقريع الأم بالتأكيد سيتسبّب في شعور الابن بالهزيمة والضعف، ما يسبّب ترك الابن عمله المضني الذي لا فائدة منه”.
بينما يؤكد أستاذ الطب النفسي مرشود، أن تأثير الأم الكمالية على أولادها سلبي جدًّا، فهي دائمة النقد في كل الظروف لأولادها لأنها تريدهم أن يصلوا إلى مرحلة الكمال التي لا يمكن لأحد أن يصلها، وبالتالي هم يتعرضون للعنف الجسدي واللفظي والصراخ الدائم.
من جهتها، فسّرت الدكتورة في علم نفس الطفل ومؤسِّسة المشروع القومي للتربية من أجل التعليم في مصر، أسماء الفقي، مخاطر الكمالية على الأطفال، بالقول إن محاولة الطفل تحقيق التميُّز في كل وقت، تحت ضغط الأم، يعرّضه إلى الإصابة بالإرهاق الذي يؤثر على الصحة العقلية والجسدية للطفل.
وتضيف الفقي لـ”نون بوست” أن تعمُّد بعض الأطفال إلى إخفاء آلامهم ليبدوا مثاليين من الخارج، يمكن أن يؤدي إلى صدمة عاطفية طويلة الأجل، ستلازمهم طوال حياتهم. من ناحية أخرى، تقول الفقي إن الآباء والأمهات الذين يعتقدون أنهم قدوة للكمال، هم الأكثر احتمالًا لتربية طفل يعاني من الكمال، حيث يمكن أن يكون التصرف الوراثي سببًا هنا، أو أن الطفل الذي يشهد بحث والده عن الكمال قد ينعكس أيضًا فيه.
مردفةً: “فالكمالية لا تعني أن الأطفال يتطلعون إلى الكمال. إنه بالأحرى يتعلق بالحاجة إلى التهرُّب من عواقب الفشل أو أخطائهم. يمكن أن تكون العقوبات المترتّبة على فشلهم واقعية أو وهمية. يمكن أن تؤثر فكرة هذه الإخفاقات على حياة الأطفال لدرجة أنها تسبِّب القلق والتوتر لدى أطفالنا الصغار”.
بحسب دراسة أجراها معهد كارولينسكا في السويد، فإن نسبة كبيرة من المنتحرين من الأطفال والشباب كانوا ممّن يسعون لتحقيق نظرة الوالدين لهم، كما أن 70% ممّن انتحروا من الشباب كانوا ممّن يثقلون كاهلهم بتوقعات عالية جدًّا حول أنفسهم.
أسباب هوس الأمهات بالمثالية وأثر وسائل التواصل الاجتماعي
في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، فقدَ كثير من النساء الاستقرار الواقعي، وطَفَت على السطح سلوكيات عزَّزت الهشّ منها وزادت مساحة السلبي من التعامل والتفكير، بطريقة تحوّلت فيه هذه المشاعر المخبوءة إلى مظاهر سلوكية وعقد تتجلّى في الصورة المنعكسة على وجه صفحات هذه الوسائل المختلفة.
ولقد شهدنا كثيرًا من المشكلات الأسرية سببها الاستسلام لوهم الصورة، وهناك أمثلة غير قليلة على حالات شجار وشقاق حصلت، ولكن الأهمّ من ذلك هو الشعور النفسي الذي قد تكتمه الفتاة أو المرأة في نفسها نفورًا وزهدًا بأسرتها، ما يسبّب لها أذى كبيرًا.
تقول دكتورة علم نفس الطفل، أسماء الفقي، إن الأم التي تبحث عن المثالية، إما أن يكون المحرك هو التباهي، وإما أن يكون تعويضًا عن إحساس بنقص أو حرمان عاشته ولا تريد لأبنائها أن يعيشوا مثله، وإما اللجوء إلى مقارنة أبناء الغير مع أبنائهن، فيزدن الضغط على أنفسهن، وفي كل الحالات هناك عدم توازن من الناحية النفسية، لأن الحرص الشديد على توفير كل هذه المتطلبات للأبناء يأتي على حساب صحة الأم وحياتها الزوجية.
هناك عامل آخر “يزيد الطين بلة”، بحسب الفقي، “هو مساهمة وسائل التواصل الاجتماعي في رفع معايير المثالية، خاصة مع انتشار محتوى التربية المبالَغ فيه في كثير من الأحيان، من هنا تبدأ الأمهات في التطلُّع إلى هذه المعايير المثالية وكأنهن مجرد آلات تؤدي أدوار معيّنة مرسومة ومحكومة بخطوات ثابتة، وهذا خطأ كبير جدًّا، لأن الحياة الأسرية هي شيء غير ثابت يحكمها عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية متقلبة”.
وتشير إلى “المروِّجات عبر شبكات التواصل الاجتماعي باسم التربية المثالية، يظهرن أنفسهن كأنهن بقوى خارقة وبأطباع ملائكية تفوق القدرات الطبيعية للأم، فتقع الكثير من الأمهات، خاصة “الحديثات”، ضحية للفجوة الكبيرة بين ما تشاهده وما تعيشه من تجربة”.
مكملةً: “ويدفعها ذلك إلى خطر كبير، وهو جلد الذات والضغط على نفسها والتقليل من جهدها المبذول لمجاراة ما تشاهده، ولا تعلم هذه الضحية بأن القائم على الترويج لا يُظهر سوى الجانب الذي يريده ويعكس إيجابيته وليس العكس، والعديد من تلك السيدات يروّجن تجاربهن دون علم، وليس كل تجربة تعمَّم تحديدًا فيما يخصّ الأمومة والطفل”.
تضيف: “فتبدأ الأم المتلقية بالضغط على نفسها كثيرًا من حيث عامل الوقت والمجهود والتفكير والتركيز لتصل إلى ما تطمح إليه، مثلما ترى وتسمع من مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وبالطبع ينعكس هذا الضغط بالسلب على الأطفال وليس بالإيجاب، فيشعر الأطفال بالنفور من ممارسة مختلف الأنشطة التي يتمّ الضغط عليهم فيها ويبدؤون بكراهيتها”.
وتعقّب الفقي: “وشعور الطفل بالخوف والتوتر معظم الأوقات ينعكس على مستواه بالسلب، فيتدنّى مستواه عن الأول كثيرًا، غير نفوره من الذهاب إلى المدرسة وتغيُّبه بشكل متكرر، بحجج وأسباب غير حقيقية للهروب من الضغط والتوتر”.
وتوصي الفقي بالقول: “إن الأسرة هي مجتمع مصغّر لها أرضها وميزانيتها وبُعدها الصحي والنفسي، وإذا لم تؤخذ هذه المعطيات بواقعية تبدأ المعاناة، فالأم التي لا تتعامل مع حدود طاقتها بواقعية تدخل في دوامة الضغط والتعب، ولا تنتبه إليها إلا عندما تتجاوزها الأحداث وتصاب بالمرض الجسدي والنفسي، المثالية الحقيقية تقتضي أن يصل الإنسان إلى التوازن، أي أن يصل إلى أعلى مستوى ممكن فيما هو متوفِّر”.
“الأم الجيدة”
ديالا عيناتي، الأكاديمية والمختصة النفسية من لبنان، تقول: “إن هذه الصفحات رغم أنها تقدم شيئًا من المحتوى الجيد، لكن للأسف في كثير من الأحيان تراه الأم كأنه حقيقة مطلقة، وهذه كارثة يستوجب معها التنبيه للصورة التي تُظهر الأم وطفلها، والتي تروِّج بشكل أو بآخر لفكرة السوبر ماما”.
مضيفة: “عدا عن إشكالية الأفكار المستورَدة، والتي تتمثل بنقل عشوائي لتجارب ودراسات غربية قد تكون فعلًا ناجحة في بيئة وظروف معيّنة، لكنها قد لا تصلح لشخصية بعض الأمهات وبيئتهنّ”.
وتنوّه عيناتي، خلال حوار لـ”نون بوست”، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي عززت ما نسميه “مقارنة الأبناء مع غيرهم”، فبسبب ذلك تبالغ الأمهات في هوس اكتساب طفلها كمّ كبير من المهارات واللغات حتى يظهر بأبهى صورة، وذلك يخلق ضغطًا نفسيًّا للأم والأولاد، فيشعر الأبناء بأنهم غير مرغوب بهم حين لا يكونون على درجة عالية من المثالية في كل شيء، ما يخلق علاقة متشنِّجة داخل الأسرة.
ووفقًا للأكاديمية والمختصة اللبنانية، فإن علم النفس يذهب إلى دعم “الأم الجيدة”، متابعةً: “يمكننا تقديم نموذج يتّسم بالواقعية والمرونة، ويساعد الأمهات على أداء أدوارهن دون إفراط أو تفريط، وهو نموذج “الأم الجيدة بما فيه الكفاية”، والذي جاء به طبيب الأطفال البريطاني والمحلل النفسي دونالد وينيكوت في كتابه الشهير “اللعب والواقع”، وذلك ضمن جهوده لتقديم الدعم لما أسماه “الغرائز السليمة من الآباء العاديين.. أسر مستقرة وصحية””.
ترى المؤلفة إليان غلاسر في مقالها المنشور في صحيفة “ذي غارديان”، أن مهمة الأمهات صارت أكثر صعوبة وسط عالم تنافسي خاضع للتدقيق في كافة التفاصيل، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت تفرض على الأمهات مهمة تحسين كل جانب من جوانب حياة الأطفال، لتصير نسخة من تلك الصور المثالية التي تراها الأمهات باستمرار عقب تعديلها بالفلاتر والبرامج العديدة عبر تطبيق إنستغرام.
ودحضت غلاسر الفكرة الكلاسيكية التي أشارت إلى أن كل شيء يتعلق بالأمومة كان على ما يرام حتى دخلت الأمهات إلى مجال العمل، مشيرة إلى أنه قبل 50 عامًا كان يجري اصطحاب الأطفال إلى العمل أو وضعهم في سلة معلَّقة في المصانع، أو حتى يجري إطلاقهم قبالة المنزل في حال ربّات البيوت؛ إذ لم تكن العناية بالأطفال كما هي عليه الآن، في الواقع لم يكن لدى الأمهات هذا القدر من الرعاية المنمّقة والبحث المحموم عن المثالية والكمال في تربيتهن لأطفالهن.
وتقول أحدث الدراسات في علم النفس إن الفئة الأكثر تأثرًا بما يعرض على مواقع التوصل الاجتماعي هي من النساء، ففي حال شاهدن إحدى الشخصيات تقوم باستخدام منتج أو ترتاد مكانًا معيّنًا أو تتبع أسلوب ونظام حياة معيّن، يتفاعلن مع ما شاهدن من خلال الشراء أو الذهاب لذات الأماكن وتصويرها ونشرها للآخرين، لتحقيق حالة إشباع نفسي وشعور بالرضا.
كيف يمكنكِ تجنُّبها؟
إذا شعرتِ أن المثالية التي تلجئين إليها في جميع أمورك قد تتعارض مع قدرتك على العيش حياة كاملة وسعيدة، فيوصى باستشارة الطبيب النفسي. لا تحاولي كتمان مشكلاتك الشخصية أو عدم الاعتراف بها، ما يجعل العلاج من هذا الهوس صعب، لكن من الضروري تجنُّب تفاقُم المشكلات التي يسبّبها هذا الاضطراب مثل عدم الشعور بالرضا، والذي قد يصل إلى إيذاء النفس.
يعلِّق الدكتور مرشود قائلاً: “لا يوجد شخص مثالي، كلنا نحمل عيوبنا وشروخنا الشخصية، فالعيوب هي ما يربطنا بإنسانيتنا في أعمق نقاطها وأكثرها هشاشة. الأحكام منهِكة للروح وللعلاقات، نحتاج إلى تعلم كيف نتقبّل أنفسنا ونتقبّل الشخص الآخر. كيف يمكننا الاستمتاع بالعلاقة وبما تتيحه من مشاعر وعاطفة دون محاولات مستمرة لإصلاح الطرف الآخر وتقويم عيوبه”.
ويقدم بعض الخطوات التي يمكن اتّباعها لتجنُّب الإصابة بالمثالية والكمالية كنوع من العلاج الذاتي بجانب المتابعة مع الطبيب النفسي، وهي: الإقرار بأن كل شخص يرتكب أخطاء، وإدراك أن الأخطاء هي فرصة للتعلُّم، ووضع أهداف واقعية وقابلة للتنفيذ، وتقسيم المهام الكبيرة لمهام صغيرة، والتركيز على نشاط واحد أو مهمة واحدة فقط في كل مرة.