أعلن رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، الأربعاء 1 ديسمبر/كانون الأول 2021، أنه لن يبقى في منصبه إن لم يتم الالتزام بالاتفاق السياسي الموقع بينه وبين المؤسسة العسكرية بقيادة عبد الفتاح البرهان، ملوحًا بالاستقالة حال التراجع أو التباطؤ في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، حسبما نقلت وكالة “رويترز“، في خطوة تعكس حجم النزاع المكتوم بينه وبين الجنرالات.
ويحيا حمدوك حالة من العزلة السياسية والجماهيرية منذ توقيع هذا الاتفاق الذي اعتبره الشارع الثوري تبييضًا لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وجسرًا سياسيًا لتمريره في الوقت الذي كان يعاني فيه الانقلابيون من عزلة دولية وإقليمية جراء الرفض الشعبي والمقاومة السلمية الشرسة التي كانت تواجه مخطط العسكر.
كان رئيس الوزراء الحاليّ قد وقع اتفاقًا سياسيًا مع البرهان في 21 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، أي بعد نحو 28 يومًا من انقلاب الأخير عليه وعلى السلطة الانتقالية، وقضى الاتفاق بعودة حمدوك لمنصبه رئيسًا للوزراء على أن يشكل حكومة كفاءات بعيدًا عن تحالف “الحرية والتغيير”، هذا بجانب الإفراج عن المعتقلين والتحقيق في قتل المتظاهرين والالتزام بالوثيقة الدستورية وتسليم السلطة للمدنيين والالتزام بمسار الانتقال الديمقراطي.
تلويح رئيس الحكومة بتقديم استقالته بعد عشرة أيام فقط من إعادته لمنصبه – رغم تبريراته التي يراها منطقية لقبول تلك العودة عقب وضعه تحت الإقامة الجبرية -، أثار الكثير من علامات الاستفهام عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الخطوة التي تحمل دلالات عدة، ليبقى السؤال: هل يُقدم حمدوك فعلًا على تقديم استقالته؟
عزلة وتراجع الشعبية
أجواء العزلة التي كان يعاني منها الانقلابيون بسبب الزخم الشعبي والثوري المناهض لمخطط وأد الثورة ومكتسباتها، يبدو أنها خيمت بذات تفاصيلها على حمدوك هو الآخر، بعدما وضعه الثوار في مصاف العسكر، متهمين الاتفاق الذي وقعه مع البرهان بأنه “قبلة حياة” للانقلاب، وأنه شريك لهم في تلك المؤامرة وإن كان دون قصد.
تراجعت شعبية حمدوك بصورة لافتة بعد قبوله العودة لمنصبه مرة أخرى، إذ فقد حاضنته السياسية الممثلة في الكيانات والقوى الثورية وشريحة كبيرة من رجل الشارع غير المؤدلج الذي كان ينظر له على أنه أيقونة الثورة لا سيما بعدما أقتيد إلى مكان مجهول حيث الإقامة الجبرية له ولأسرته.
في ظل تلك الأجواء الضبابية والضغوط التي تمارس على رئيس الوزراء وعرقلة جهوده وتحركاته، يبدو أن حمدوك أصيب بخيبة أمل كبرى إزاء عملية الانتقال الديمقراطي والالتزام بالوثيقة الدستورية، لتنكشف أمامه حقيقة نوايا العسكر بصورة واضحة
ويستند المعارضون لحمدوك إلى أن الاتفاق الذي شارك في إبرامه أعطى أفضلية مطلقة للمؤسسة العسكرية من خلال استمرارية بقاء البرهان على رأس مجلس السيادة، وهو المنصب الذي كان يفترض أن ينتقل إلى شخصية مدنية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المنقضي، وفق الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019.
الاتهامات التي طالت رئيس الوزراء لم تقتصر على حاجز تمرير اتفاق الانقلاب وتغليب كفة العسكر فقط، بل تطرقت إلى اتهامه بمحاولة شق الصف المدني وإحداث الوقيعة والانقسام داخل المكون الثوري، وذلك في أعقاب اجتماعه الأحد الماضي، 28 نوفمبر/تشرين الثاني، مع مجموعة محدودة من لجان المقاومة، وهو ما اعتبره البعض محاولة منه لشق صف المقاومة وتجييرها لصالح الانقلاب، ليواصل نزيف رصيده وسط لجان المقاومة السودانية التي باتت اللاعب الأكثر حضورًا في المشهد هذه الأيام.
لا عهد للعسكر
بعد الانتقادات التي تعرض لها حمدوك بسبب الاتفاق وقبوله العودة كرئيس للوزراء، خرج بتصريحات حاول من خلالها كشف الأسباب التي دفعته لإبرام هذا الاتفاق، وكان أبرزها حقن دماء السودانيين وتجنيب بلاده العقوبات الدولية، بجانب الحفاظ قدر الإمكان على مكتسبات الثورة وعلى رأسها الالتزام بالمسار الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين.
ومنذ إبرام هذه الخطوة في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي شهدت الساحة الداخلية العديد من الأحداث والتطورات التي شككت في مدى التزام العسكر ببنود الاتفاق، فلم يتم الإفراج عن المعتقلين كافة، كما قوبلت التظاهرات السلمية بردة فعل دموية من المؤسسة الأمنية، هذا بخلاف التلكؤ في مناقشة التعديلات المقترحة على الوثيقة الدستورية تمهيدًا لنقل السلطة لمدنيين.
حتى الحكومة التي تم الاتفاق على تشكيلها من تكنوقراط مستقلين ليس لهم أي ميول حزبية أو تنظيمية، لم يُمنح حمدوك كل الصلاحيات لتكوينها، في ظل إصرار بعض الحركات المسلحة على الاحتفاظ بنسبتها في مجلس الوزراء بموجب اتفاق السلام بينها وبين الحكومة، وهو ما يتعارض شكلًا ومضمونًا مع بنود الاتفاق.
تزامنًا مع ذلك لم يجد رئيس الحكومة الحاضنة السياسية والدعم اللوجستي المنتظر من القوى الداعمة لفريق الجنرالات، سواء من التيارات السياسية أم الجماعات المسلحة أم حتى الأحزاب التي انحازت لخطوة الانقلاب من المنشقين عن تحالف قوى الحرية والتغيير، وهو ما زاد من تكبيل حمدوك عن اتخاذ أي خطوات من شأنها تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
في ظل تلك الأجواء الضبابية والضغوط التي تمارس على رئيس الوزراء وعرقلة جهوده وتحركاته، يبدو أن حمدوك أصيب بخيبة أمل كبرى إزاء عملية الانتقال الديمقراطي والالتزام بالوثيقة الدستورية، لتنكشف أمامه حقيقة نوايا العسكر بصورة واضحة، وأن لا عهد لهم، وما حدث كان محاولة لامتصاص حالة الغضب وتهدئة الرأي العام العالمي الغاضب ضد الانقلاب، تزامن ذلك مع استمرار تراجع رصيده الشعبي، الأمر الذي قد يدفعه إلى تقديم استقالته قبل فقدان ما تبقى من جماهيرية وإن كانت قليلة.
ربما يمهل حمدوك المؤسسة العسكرية الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل القفز من المركب وتبرئة ساحته من أي اتهامات بالتواطؤ مع العسكر
الاستقالة.. هل تكون الرد؟
في ضوء ما سبق يذهب فريق إلى أن الاستقالة ربما تكون حلًا لحمدوك للخروج من تلك الدوامة التي تستنزف قواه وتسيئ له ولصورته، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي، بعدما تحول إلى أداة في أيدي العسكر لتنفيذ مخططاتهم بينما كان في السابق يتمتع بثقل سياسي كبير لما له من حضور إقليمي ودولي.
أنصار هذا الفريق يرون أن تقديم حمدوك لاستقالته ربما تعفيه من أي ضغوط ممارسة عليه، وتدفع به من جديد في صف الشارع الذي ينسحب من تحت أقدامه ساعة تلو الأخرى، وتعيد جزءًا من الثقة المفقود بينه وبين الثوار، على اعتبار أن ما حدث كان خطأ يستوجب الاعتذار والقفز سريعًا من مركب المنقلبين.
لكن في المقابل هناك من يستبعد هذه الخطوة، وذلك لعدة أسباب أبرزها شخصية حمدوك القوية والقادرة على التعامل مع مثل تلك الضربات الموجعة، هذا بجانب الدعم الدولي الكبير الذي يتوافر له، وهو ما يقوي من وضعيته ويثنيه عن أي خطوة تفسر على أنها فشل وعدم قدرة على التعاطي مع مثل تلك العثرات.
سبب آخر ربما يعيق حمدوك عن التقدم باستقالته، تتمثل في الضغوط التي من الممكن أن تُمارس عليه من المجموعات المحيطة به، قوى كانت أو شخصيات، فتلك القوى تقاتل من أجل إنجاح الانقلاب وتمريره بأي صورة، وإقدام رئيس الوزراء على تقديم استقالته يضعهم في مأزق حقيقي، ويسقط عنهم ورقة التوت التي وضعها حمدوك بقبوله العودة للمشهد مرة أخرى.
بين الضغط على العسكر والقفز من المركب
وبين هذا وذاك هناك من يرى أن فكرة الاستقالة في حد ذاتها ليست بالبعيدة في ظل المعطيات الحاليّة التي لا يمكن أن تقود إلى تقدم يذكر في مسار الاتفاق المبرم بين حمدوك والعسكر، وعليه قد يجد الأول نفسه مدفوعًا إلى هذه الخطوة رغم ما تحملها من تبعات، غير أن التلويح بها في حد ذاته – دون تنفيذها – خطوة تثير الكثير من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية ورائها.
قد يسعى حمدوك من هذا التحرك إلى ممارسة نوع من الضغط على الجنرالات لمنحه الصلاحيات الكافية لممارسة عمله بحكم وظيفته، سواء من حيث حرية تشكيل الحكومة أم ضمان عدم التعدي على أي تظاهرات سلمية، بجانب الالتزام بما تم الاتفاق عليه، من إطلاق سراح المعتقلين وتسليم السلطة للمدنيين.
يدرك رئيس الحكومة جيدًا حجم الضغوط الممارسة على المجلس السيادي، والبرهان بصفة خاصة، من الشارع الثائر الذي لا يهدأ طيلة الـ45 يومًا المنقضية، فضلًا عن المجتمع الدولي الذي يحاول قدر الإمكان تهدئة الأجواء المتوترة حفاظًا على مصالح القوى الكبرى، ومن ثم فإن التلويح بمثل تلك الورقة (الاستقالة) ستزيد وضع العسكر تأزمًا، وتحرجهم كثيرًا، داخليًا وخارجيًا.
وفي الإطار ذاته فربما يمهل حمدوك المؤسسة العسكرية الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل القفز من المركب وتبرئة ساحته من أي اتهامات بالتواطؤ مع العسكر، وهي الاتهامات التي كانت لها أصداءها في شق المكون المدني الذي بلا شك سيتعزز موقفه حال تنحي رئيس الحكومة، التي تعكس استقالته الكثير من الدلالات والمؤشرات على كذب البرهان ورفاقه ومساعيهم للاستئثار بالسلطة والإطاحة بمكتسبات الثورة التي يتشدقون بها ما بين الحين والآخر لاستمالة الثوار وتهدئتهم.
وفي المجمل فإن الحراك الثوري الذي لا يهدأ كان وسيظل المحرك الأساسي لأي سيولة سياسية في المشهد، فما تراجع العسكر عن انقلابهم نسبيًا إلا رضوخًا للشارع، وما لوح حمدوك بالاستقالة إلا لأجل استمالة الشارع، وعليه فإن استمرار هذا الزخم مع مزيد من التنسيق والتناغم والتكاتف والنفس الطويل سيقود حتمًا إلى إسقاط الانقلاب بصورة كاملة، دون جدوى لأي مساحيق تجميل أو جرعات مخدرة.