يروي كل مهاجر ومغترب قصصًا متشابهةً أنه في وقت ما كان ينزع شعره ضيقًا بسبب مشكلة اللغة، لأن اللغة الأجنبية الجديدة غالبًا ما تكون صعبة التعلم بعد بلوغ سنّ معيّن، ولا يمكن للبالغين تعلم لغة جديدة بين عشية وضحاها بغضّ النظر عن مدى رغبتهم في ذلك.
كما أن تكوين صداقات في بلد اللجوء أمر صعب بسبب ارتباطه باللغة الجديدة، ومن دون مجموعة من المهارات اللغوية سيبدأ التحدي في الشعور بأنه مستحيل.. لكن هل ينطبق هذا الأمر على أطفال هذه العائلات؟ وكيف يصبح أطفال هؤلاء المهاجرين ثنائيي اللغة أو لديهم أكثر من لغة أمّ واحدة؟
لنفهم تطور اللغة لدى أطفال المغتربين ثنائيي اللغة
عادة ما يكون والدا الطفل المندرج في فئة ثنائيي اللغة مهاجرين ولهم اللغة الأمّ نفسها، كما يظل الطفل أحادي اللغة حتى يختلط مع الآخرين في بداية ذهابه للمدرسة ويتمُّ تعليمه باللغة الرسمية للبلد المضيف.
يمكن تفسير هذا الاكتساب السريع للُّغة الثانية بين عمر سنتَين و6 سنوات (من بداية المدرسة حتى تعلم القراءة)، من خلال حاجة الطفل الحيوية إلى الفهم والتواصل، وأيضًا لكي لا يتم توبيخه عند ارتكابه الأخطاء، كما أنه من المعروف أن اكتساب لغة ثانية يصبح أكثر سهولة بمجرد إتقان اللغة الأمّ.
من الضروري دوام تعرض الطفل للّغة الأم طوال فترة نموه بالكامل، وإلا ستتراجع اللغة الأصيلة على حساب اللغة الثانية، لا سيما منذ بداية المدرسة والتعلُّم الرسمي، لأنه إذا لم يتمَّ استيفاء هذه الشروط، فإن اللغة الأمّ سوف تتضاءل، بدءًا من فقدان التعبير، ثم ثنائية اللغة السلبية، وأخيرًا الانقراض الكامل، ما يؤدي إلى حالة أحادية اللغة غير الأصيلة.
في الأصل كيف يتعلم الأطفال أكثر من لغة؟
يوجد حالتان لثنائي اللغة اعتمادًا على وقت تعرُّض الطفل للُّغة:
الاكتساب المتزامن: عندما يربى الطفل منذ بداية حياته في وسط يتم تكلُّم اللغتَين فيه تتطور ثنائية اللغة في وقت واحد، أو عندما يتم تقديم اللغة الثانية قبل سن الثالثة. هذا هو الحال عمومًا للأطفال من الأزواج مختلفي اللغة الأمّ، حيث يتحدث كل من الوالدَين لغته الأمّ بقدر متساوٍ مع الطفل.
والذي يظهر أن ثنائيي اللغة منذ بداية تعلمهم يكتسبون لغتَين منفصلتَين في الوقت نفسه، حيث من الملاحظ أنهم وفي وقت مبكّر كانوا قادرين على التمييز بين اللغتَين، وقد تبيّن أنهم يبدّلون اللغات وفقًا لشريك المحادثة (على سبيل المثال التحدث بالعربية مع أحد الوالدَين الناطق باللغة العربية، ثم التبديل إلى اللغة التركية مع أحد الوالدَين الناطق باللغة التركية).
اكتساب اللغة المتسلسل: عندما يكون الطفل على اتصال بلغات أخرى بعد تحديد لغته الأمّ، يُعرف هذا بـ Second language acquisition، وغالبًا ما يكون هذا هو الحال بالنسبة إلى الأُسر التي يتحدّث فيها الوالدان لغة واحدة في المنزل، لكن الطفل يتعرّض للُّغة الثانية في المدرسة أو في محيط ما.
إذا كان الأطفال في سنّ ما قبل المدرسة ثنائيي اللغة، فإن اكتساب لغة أولى أو لغتَين يحدث بشكل طبيعي تلقائي.
مزايا ثنائيي اللغة
إن الأطفال الذين يتحدثون لغتَين قد يتمتعون بقدرة فائقة على:
– التركيز على شيء وحيد مهم، وعدم السماح لمنبّهات أخرى بتشتيت انتباههم، وهذا يتطلب ما يُسمّى بـ”الانتباه الانتقائي”.
– تغيير استجابتهم وفقًا لمتطلبات الموقف وهذا يدلُّ على “المرونة المعرفية”.
– الانتباه الانتقائي والمرونة المعرفية كلاهما جانبان مهمّان من الأداء التنفيذي.
– تحسين مهارات صنع القرار بالإضافة إلى تحسين الذاكرة، فضلًا عن أن كثافة المادة الرمادية في الدماغ أعلى؛ أيضًا تحسين المهارات المعرفية، والتركيز والتبديل بين المهام المختلفة.
لماذا قد يتمتّع الأطفال ثنائيو اللغة بهذه المزايا؟
عندما يريد طفل ثنائي اللغة أن يقول شيئًا ما، يتمُّ تنشيط كلتا اللغتين في دماغه وتتنافسان داخليًّا بين بعضهما، كما لو أن اللغتين تقولان: “اخترني، اخترني!”.
كما تعزِّز المنافسة المستمرة بين اللغتين في عقل ثنائي اللغة آليةَ التحكم في الدماغ، نتيجة لذلك يستخدم الشخص ثنائي اللغة قدرًا كبيرًا من الاهتمام في التحدُّث والاستماع ويمنع الكلام غير الضروري، وقد تكون هذه المهارات أقوى عند الأطفال ثنائيي اللغة لمجرد أنهم مارسوها أكثر.
من نافلة القول إن هناك العديد من الأسباب التي تجعل تعلُّم التواصل بلغات أخرى مفيدًا للأطفال المغتربين من نواحٍ عديدة، كما أنه يمكن من خلالها تخفيف الضغوط والتحديات التي تواجه الحياة الجديدة في الخارج وتحسينها.
القدرة على التكيُّف مع التغيير
إن العيش مع الأسرة في ثقافة وبلد جديد سيأتي دائمًا بتجارب خاصة، ولكن إذا كان بإمكانك مساعدة طفلك على تعلُّم اللغة المحلية، فأنت بذلك تساعده على التكيُّف مع بيئته ومحيطه الجديد ليكون قادرًا على التكيُّف مع التغييرات الأخرى.
وجد بحث Aetna International أن أطفال الثقافة الثالثة (أي الطفل الذي نشأ في ثقافة مختلفة عن تلك التي نشأ فيها والداه)، شعروا أن قدرتهم على التعامل مع الأحداث غير المتوقعة أو غير العادية كانت أفضل من تلك التي لدى أقرانهم، وأفادَ البعض أنهم يشعرون براحة أكبر في المواقف الجديدة أو الصعبة أكثر من حياتهم اليومية.
هل ثنائية اللغة تسبِّب تأخُّر الكلام
ذلك غير صحيح، ففي حين أن مفردات الطفل ثنائي اللغة في كل لغة على حدة قد تكون أصغر من المتوسط، فإن إجمالي مفرداته من اللغتَين سيكون على الأقل بنفس حجم مفردات الطفل أحادي اللغة.
ربما يقول الأطفال ثنائيو اللغة كلماتهم الأولى في وقت متأخّر قليلًا عن الأطفال أحاديي اللغة، ولكن لا يزالون ضمن النطاق العمري الطبيعي (ما بين 8-15 شهرًا).
وعندما يبدأ الأطفال ثنائيو اللغة في تكوين جُمل قصيرة، فإنهم يطوِّرون القواعد وفقًا للأنماط والجداول الزمنية نفسها التي يتعلم فيها الأطفال لغة واحدة.
إن ثنائية اللغة بحدّ ذاتها لا تسبّب تأخير الكلام.
يمكن أن يعاني الطفل ثنائي اللغة الذي يُظهِر تأخيرات كبيرة في مراحل اللغة من اضطراب لغوي، ويجب أن يراه اختصاصي أمراض النطق واللغة، لكن إذا كان الطفل متعدِّد اللغات يعاني من مشكلة في الكلام أو اللغة، فيجب معالجة الاضطراب وليس اللغة.
الآباء المغتربون وتربية الطفل في بلد أجنبي
هل طفلك يتحدث اللغة المحلية بالفعل؟ في بعض الأحيان تكون التحديات التي تواجه الأطفال المغتربين وتعلُّم اللغة أكبر بالنسبة إلى الآباء مقارنة بالأطفال أنفسهم.
قد تشعر بوجود مسافة ثقافية بينك وبين طفلك في هذه المرحلة، وأنَّ افتقارك إلى التجارب الثقافية نفسها التي يمرُّ بها طفلك قد يؤدي إلى الشعور أنه قد أصبح هناك فجوة بينك وبين طفلك.
رغم أن الفكرة قد تبدو غريبة، إلا أن إنجاب طفل غالبًا ما يساعد الوافدين ويحفّزهم على تحسين مهاراتهم اللغوية، ولو بدافع الضرورة فقط، وهنا تشير مريم إلى تجربتها بتعلم التركية إلى أنه “من أحد الأمور الجميلة والتي كانت تحديًا في الوقت نفسه، عندما أصبحت أمًّا، هو التغلب على عقبة تعلم اللغة”.
وتضيف مريم: “كنت أحتاج استخدام اللغة التركية في أغلب الأمور، فقد كان يجب عليّ زيارة الطبيب قبل وبعد ولادة الطفل، ناهيك عن البقاء في المشفى لأيام بمفردك. كما أنه كلما زاد تفاعل طفلك مع الأطفال الأتراك الآخرين، زاد حافزك على صقل مهاراتك في اللغة التركية “، وتشير إلى أن “متابعة دروس الأطفال في المدرسة ومساعدتهم من أحد الأسباب التي دفعتني لأتعلم اللغة”.
يُعتبَر وجود الطفل دافعًا جيدًا للآباء المغتربين لتحسين مهاراتهم اللغوية، ثم تكون الفوائد التي تعود على أطفالهم أكبر، ولا شك أن للوالدَين تأثيرًا كبيرًا على تقدير الطفل لذاته، لكن بالمقابل يمكن للطفل أيضًا التأثير على والدَيه.
إن ازدواجية التأثير هذه بين الوالدَين والأطفال مثيرة للاهتمام في حالة اكتساب اللغة، وبصرف النظر عن الأسباب الاجتماعية، يكون الأطفال أكثر قدرة على تعلُّم اللغة بشكل أسرع من البالغين لأنهم لا يمتلكون الروابط السياقية مع الكلمات التي يمتلكها الكبار؛ ما يسهِّل عليهم نطق الأصوات والكلمات الجديدة.
هل العودة إلى الوطن سهلة؟ لماذا تأجيل تعلم اللغة؟
منذ متى وأنت بعيد عن بلدك؟ ما مدى اختلاف البلد الذي هاجرت إليه عن وطنك؟ ما مدى جودة تواصلك مع أصدقائك وعائلتك في المنزل خلال هذا الوقت؟ إلى أي مدى يفهمون الجوانب النفسية للعيش في بلد آخر.
يعتقد الكثير من الناس أن العودة إلى الوطن ستكون جزءًا سهلًا من مهمة دولية بالنسبة إلى اللاجئين، ولذلك قد لا يفكّرون كثيرًا كيف سيكون الأمر بالنسبة إلى أطفالهم، ولا يبدون استعدادًا لتعلُّم لغة البلد المضيف وربما لا يبذلون جهدًا يُذكَر، لذلك يفتقرون لعوامل تطور المهارات اللغوية مثل الدافع لتعلُّم اللغة، وكثرة التعرُّض للُّغة.
في الختام من فضلك لا تقارن تطور لغات طفلك بالأطفال الآخرين، وبالنسبة إلى العائلات ثنائية اللغة تعتبر كل عائلة حالة فريدة، ولا تفيد المقارنات إلا إذا كانت البيئة اللغوية والخبرة واحدة، وهذا أمر فريد لكل طفل، ولا تقارنوهم بأطفال أحاديي اللغة أيضًا فهذه ليست مقارنة عادلة.