تسابقت العديد من التقارير العربية والأجنبية مؤخرًا لتتحدث عن وجود مؤشرات تشي بقرب انسحاب إيران من سوريا ولو جزئيًّا، نتيجة ضراوة الهجمات الإسرائيلية المتكررة والضغوط الكبيرة التي تعاني منها نتيجة العقوبات الاقتصادية الغربية، فضلًا عن تردّي الوضع الداخلي الإيراني، بالتزامن مع تصاعُد وتيرة الدعوات الدولية والإقليمية إلى احتواء دور إيران وتخفيف وجودها في سوريا.
سنحاول في هذا التقرير تقديم قراءة موجزة عن مستقبل الوجود العسكري الإيراني في سوريا، في ظلِّ تباين حدّة المواقف الدولية والإقليمية المتضاربة أساسًا حيال هذا الوجود، واستكشاف أبعاد الضغوط الدولية، لا سيما “إسرائيل”، على إيران وتأثيرها على استراتيجيتها في سوريا، في سياق تحوُّل المشهد السوري إلى مرحلة حساسة تبحث الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري فيها عن صيغة توافقية تنهي حالة الصراع بينها.
سوريا وخليط الحسابات الإيرانية التوسعية
حرصت إيران مبكّرًا على تعزيز تموضعها في سوريا بالتحالف مع نظام الأسد، الذي بدأ مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، ليأخذ طورًا جديدًا مع استلام الأسد الابن، حصلت فيه إيران على امتيازات كبيرة سهّلت عملية تحركها داخل سوريا، فقد نشطت المؤسسة الإيرانية سياسيًّا وثقافيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا بشكل متزايد لنسج خيوط تحالف استراتيجي يمكّنها من تنفيذ مقاربتها ورؤيتها السياسية ذات الأهداف التوسعية.
ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، تبنّت القيادة الإيرانية في طهران خيار الدعم اللامحدود لنظام الأسد، وعزّزت أُسُس تحالفها الاستراتيجي معه، وساندته سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا وماليًّا وبشريًّا، وزادت من حجم انخراطها العسكري النوعي والكمّي عبر دعم ميليشيات أجنبية استقدمتها من باكستان والعراق وأفغانستان ولبنان، لا سيما ميليشيا حزب الله اللبناني.
كما قامت بتأسيس وتدريب وتمويل ميليشيات محلية ودعمها سياسيًّا وعسكريًّا، وتقديم الاستشارات والمشاركة المباشرة ضمن غُرف عمليات مع قوات النظام، إضافة إلى بناء منشآت عسكرية ومخازن تموينية لتسهيل عبور الأسلحة الثقيلة والنوعية إلى سوريا، أو إلى ذراعها العسكرية في لبنان (حزب الله) عبر الأراضي السورية.
ويشير تقرير أعدّه مركز دراسات إسرائيلي بُنيَ على معلومات استخبارية، إلى أن “عدد مقاتلي الحرس الثوري الإيراني في سوريا بلغ نحو 2500 مقاتل، وأنه جرى تقليص عددهم مع الوقت لتخفيف حدّة الانتقادات الداخلية في إيران على التدخل المباشر في سوريا”.
واعتبرَ التقرير أن “الوجود الإيراني الحقيقي في سوريا يتمثل بميليشيات أجنبية شيعية كحزب الله ولواء أبو الفضل العباس ولواء زينبيون ولواء فاطميون، وعبر ميليشيات محلية سورية كقوات الجعفرية وقوات الرضا وقوات الغالبون ولواء المختار الثقفي”، مؤكدًا أن “إيران تنفق سنويًّا 100 مليون دولار على تمويل هذه الميليشيات”.
تحرص إيران حقيقةً على التمسُّك بوجودها في سوريا وتدعمه عبر الإمساك بكل جوانب الملف السوري، وتوظِّف ذلك لصالح طموحاتها في التفوق والتمدد الإقليمي.
ثم مع تغيُّر المشهد في الساحة السورية وانتقال الصراع لمستويات عديدة متشابكة معقّدة، حرصت إيران على تمتين أواصر نفوذ متداخل شملَ كل مؤسسات وبنى الدولة السورية، الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، واخترقت الأجهزة الأمنية والعسكرية لنظام الأسد، فضلًا عن تغلغلها داخل النسيج الاجتماعي والثقافي السوري عبر أدواتها الخاصة.
وقد عزّز هذا التموضع الاستراتيجي من مكاسب إيران، وزاد من هامش قدرتها على التأثير في مجريات المشهد السوري، وعلى مسار الحل النهائي في سوريا، وساهمَ في تعزيز حظوظ إيران التفاوضية مع المجتمع الدولي، وعلى رأسهم الولايات المتحدة في ملفات عالقة متعلقة بمشروع إيران النووي والإقليمي.
ويبدو أن موقع سوريا الجيوسياسي زادَ من أهميتها ضمن حسابات إيران الاستراتيجية التي تسعى إلى إمساك ورقة “أمن “إسرائيل””، بوصفها ورقة تفاوضية مع الغرب في خضمّ صراعها المحموم على القيادة الإقليمية مع “إسرائيل”، لذا نلاحظ أن طهران ركّزت خلال سنوات الصراع على تثبيت حضورها العسكري في مناطق الجنوب السوري القريبة من الجولان المحتل.
ويمكن القول إن سوريا تشكّل عقدة استراتيجية ومرتكزًا أساسيًّا في مشروع إيران الإقليمي التوسعي، ومحاولاتها مدّ نفوذها في العالم العربي والإسلامي من خلال منهج ما يُسمّى “تصدير الثورة”، الذي ينطلق بشكل رئيسي من منطلق إثارة النزعات الطائفية والمذهبية، وتقويض القوى المعارضة لإيران، والتعبئة السياسية والدعوية والثقافية والدينية والعسكرية المباشرة لنشر أيديولوجيتها وفرض منهجها في البلدان المستهدفة، وهو الأمر الذي يدخل في جوهر وتركيبة النظام الإيراني الذي يستحيل تراجع إيران عنه، لما له من أولوية على باقي الأهداف الإيرانية الاستراتيجية الأخرى.
وتحرص إيران حقيقةً على التمسُّك بوجودها في سوريا وتدعمه عبر الإمساك بكل جوانب الملف السوري، وتوظِّف ذلك لصالح طموحاتها في التفوق والتمدد الإقليمي، وللحفاظ على مصالحها ومكتسباتها وضمان التأثير على مستقبل سوريا والمنطقة، في ظل تزايد مطالبات القوى الدولية والإقليمية بخروج إيران من سوريا كبداية لصياغة الحلّ السياسي النهائي، مع تحرُّك بعض تلك القوى فعليًّا للتأثير على حدود هذا التموضع الإيراني سياسيًّا وعسكريًّا.
الموقف الأمريكي الإسرائيلي وتحجيم الوجود الإيراني في سوريا
تختلف آلية تعامل الولايات المتحدة مع النفوذ الإيراني في سوريا، عن الطريقة التي تحاول “إسرائيل” فيها الحدّ من هذا النفوذ الذي تراه “مهددًا وجوديًّا” لها، وذلك وفقًا لطبيعة الأهداف والأولويات المرحلية والاستراتيجية لكلا الجانبَين، وتبعًا للموقع الذي يشغله الطرفان على صعيد الساحة الدولية، في حين يتوافقان على ضرورة الحدّ وتقليص التمدد الإيراني في سوريا، لا سيما في المناطق الحدودية مع الجولان المحتل.
ويتصدّر الملف النووي الإيراني قائمة الأولويات القصوى لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة (خاصة الإدارات الديمقراطية)، إذ تحرص الولايات المتحدة على منع إيران من تحقيق تقدُّم ملحوظ على صعيد ملفها النووي، مستندةً بذلك على العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية والعسكرية على مختلف المؤسسات الإيرانية.
ويبدو أن الولايات المتحدة تعتبر مشروع إيران الإقليمي بشكل عام، ووجودها العسكري في سوريا بشكل خاص، ورقة من الأوراق التفاوضية معها، وتراه جزءًا من المسار التفاوضي الذي يمكن من خلاله التوصُّل إلى اتفاق شامل يضع حدًّا للطموحات النووية الإيرانية، وتوقف التقدُّم الإيراني نحو الحصول على السلاح النووي.
يمكن ملاحظة هذا عبر العودة إلى حيثيات الاتفاق النووي عام 2015، الذي خطّه الرئيس الأمريكي الديمقراطي باراك أوباما، والذي حدَّ نسبيًّا من قدرة إيران النووية، لكنه تغاضى عن سياساتها الإقليمية، وأطلقَ يد إيران للنفاذ إقليميًّا وتوسيع دائرة هيمنتها وسيطرتها عبر زيادة دعمها لوكلائها وللميليشيات المرتبطة بها مستغلةً رفع العقوبات الاقتصادية عنها، الأمر الذي انعكس سلبًا على المناطق التي كانت تعاني من وطأة الهيمنة الإيرانية، ومنها سوريا، حيث تجنّبت فيما يبدو إدارة أوباما عدم إثارة الملف السوري حينها حرصًا منها على تسهيل العقبات أمام إيران لحثّها على توقيع الاتفاق.
عمليًّا، تغاضت “إسرائيل” بداية عن التمدُّد الإيراني داخل سوريا وعن تحرُّكات ميليشياتها الأجنبية والمحلية، التي كانت تهدف أساسًا دعم نظام الأسد ومنع انهياره.
ورغم ذلك، تلتزم الولايات المتحدة نوعًا ما بالعمل على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا وتأطيره، بحيث تبقيه خارج التأثير على المصالح الأمريكية في المنطقة، وبما يضمن الالتزام الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، أي أمن “إسرائيل”، وذلك عبر الحفاظ على تموضعها في مناطق شرق سوريا ومنطقة التنف على الحدود السورية العراقية لمراقبة التحركات الإيرانية، إضافة إلى إعطاء “إسرائيل” الضوء الأخضر لشنّ ضرباتها الجوية، وتقديم الدعم لتحركاتها العسكرية ضد المواقع الإيرانية في سوريا.
من جهة أخرى، تتعاطى “إسرائيل” مع التمدُّد الإيراني في سوريا من منطلق منع إيران من اتخاذ سوريا قاعدة متقدِّمة لعملياتها، على غرار قاعدتها في الجنوب اللبناني، تستهدف بها مصالح “إسرائيل” في منطقة تعدُّ منطقة حيوية بالنسبة إليها، لذا ركزت “إسرائيل” على بناء استراتيجية فعّالة تمنع إيران ووكلاءها من بناء بنية تحتية عسكرية قادرة على استهداف المواقع الإسرائيلية وتهديدها عسكريًّا، والعمل على إبعاد أذرع إيران من المناطق الحدودية في الجنوب السوري، عبر تكثيف هجماتها وتوسيع مسرح عملياتها ضد الانتشار الإيراني والميليشيات الموالية لها ليشملَ عموم المناطق السورية.
عمليًّا، تغاضت “إسرائيل” بداية عن التمدُّد الإيراني داخل سوريا وعن تحرُّكات ميليشياتها الأجنبية والمحلية، التي كانت تهدف أساسًا دعم نظام الأسد ومنع انهياره، ولكن مع تحول إيران إلى استغلال اتّساع هامش الحركة لديها في نشر قواتها وإنشاء قواعد وبنى تحتية عسكرية، والتوغُّل داخل أروقة المؤسسات الأمنية والعسكرية والتسلُّل إلى مناطق قريبة من المواقع “الإسرائيلية”، تمَّ تشكيل عامل ضغط على”إسرائيل” التي بدأت بالتحرك العسكري المضاد، في محاولة منها لتحجيم أو إنهاء الوجود الإيراني العسكري في سوريا، لما يمكن أن يشكّله هذا التواجد من مكسب استراتيجي لإيران على صعيد تنافسها الإقليمي مع “إسرائيل”.
هل لروسيا مصلحة في إخراج إيران من سوريا؟
أدّى تطور الأحداث في سوريا وتسارع وتيرتها إلى نشوء تفاهم سياسي وعسكري عريض بين روسيا وإيران، لدعم نظام الأسد ومساندته بكافة الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية المتاحة، وهو ما أسّسَ لشراكة مبنية على تنسيق أمني وعسكري متبادل في سوريا، في إطار رؤيتهما المشتركة الأوسع حول ضرورة مقارعة النفوذ الغربي والأمريكي وإضعافه على المستوى الدولي، حيث تدعم روسيا إيران سياسيًّا في مجلس الأمن وفي المحافل الدولية، وترفض -عبر تصريحات مسؤوليها- الاتهامات الأمريكية والإسرائيلية لإيران بأنها تشكّل خطرًا على المنطقة.
ورغم هذا التفاهم والتعاون وتنسيق الجهود بين الطرفَين، إلا أنَّ العلاقة بينهما شابها بعض التباينات والخلافات “التكتيكية” حول بعض النقاط المتعلقة بمستقبل سوريا وشكل نظامها السياسي، وهوية المؤسسة العسكرية والأمنية السورية، والملف الاقتصادي وإعادة الإعمار، مع بلوغ الصراع مرحلة “الجمود”، إضافة إلى امتعاض إيران من الترتيبات الثنائية التي تجريها روسيا مع الأطراف الدولية، تركيا و”إسرائيل” والولايات المتحدة، بمعزل عنها.
تتميز العلاقة الروسية مع إيران في سوريا بأنها أشبه ما تكون بعلاقة تفاهمية/ براغماتية لا ترتقي فيما يبدو إلى علاقة تحالف استراتيجي متين، في ظلّ منافسة واضحة بين الطرفَين على الهيمنة على مستقبل سوريا.
ويبدو أن الانتشار الإيراني في سوريا يمثّل نقطة مربكة إلى حدٍّ ما لروسيا، التي تعمل على الموازنة بين حاجتها الفعلية لهذا التموضع الإيراني كعامل ضغط على بقية الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري، خاصة تركيا والولايات المتحدة، نظرًا إلى هشاشة قوات نظام الأسد واعتمادها الكبير على الدعم الميليشياوي البرّي الإيراني، وبين التزاماتها تجاه القوى الدولية في الحدِّ من نفوذ إيران وتمدُّدها العسكري في سوريا.
كما تشكّل هذه الحالة الميليشياوية الإيرانية أيضًا مصدر قلقٍ لروسيا، التي تسعى إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية السورية ومأسستها، بحيث تصبح هذه المؤسسات طوع قرارات وتوجُّهات وتقديرات روسيا بالطريقة التي تتوافق مع رؤيتها.
وبالتالي، تتميز العلاقة الروسية مع إيران في سوريا بأنها أشبه ما تكون بعلاقة تفاهمية/ براغماتية لا ترتقي فيما يبدو إلى علاقة تحالف استراتيجي متين، في ظلّ منافسة واضحة بين الطرفَين على الهيمنة على مستقبل سوريا والاستئثار بمقدراتها ومواردها والتأثير على صناعة القرار فيها، وهو ما ينعكس مجملًا على طريقة تفاعل روسيا مع التموضع الإيراني في سوريا، حيث تلجأ روسيا بشكل واضحٍ إلى التنسيق الأمني المشترك مع “إسرائيل” وفتح الأجواء الجوية السورية لها لضرب الأهداف الإيرانية.
وتسعى روسيا أيضًا جاهدة لتحييد وتحجيم القوى الموالية لإيران، كالفرقة الرابعة التي يترأّسها ماهر الأسد (المقرَّب من إيران)، وضبط هذه الميليشيات وتأطيرها داخل هياكل الوحدات العسكرية النظامية، وحلِّ بعض هذه الميليشيات وتفكيكها خاصة ميليشيا الدفاع الوطني، ليعلن الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، أنَّ “محاولة إنشاء أشباه الدول داخل سوريا غير مقبول”، في إشارة مباشرة إلى إيران.
مستقبل الوجود الإيراني في ضوء المعطيات السابقة
يؤثر عدد من العوامل المتشابكة بنِسَب متفاوتة على التموضع الإيراني في سوريا، وعلى قرار إيران في البقاء أو الانسحاب من سوريا؛ لعلّ أهمها: مخرجات محادثات فيينا بين إيران والقوى الدولية، وحدوث توافق روسي أمريكي إسرائيلي على تشديد الضغوطات على الوجود الإيراني في سوريا.
فمن جهة تمثّل المفاوضات النووية بين إيران والقوى الدولية في فيينا محددًا مهمًّا قد يؤثر على شكل وحجم الانتشار الإيراني الإقليمي، خاصة في سوريا؛ فرغم أن إدارة بايدن الديمقراطية تسعى لإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي تمَّ التوصل إليه عام 2015، إلا أنها وسعت مساحة التفاوض مع إيران لتشملَ ملفات وقضايا أخرى، على رأسها المشروع الإيراني الإقليمي.
يعدُّ هذا المشروع نقطة تصادم بين الجانبَين وعائقًا من العوائق التي تمنع التوصل لاتفاق نووي جديد، نظرًا إلى ضغط بعض الأطراف الرافضة لعودة الولايات المتحدة لاتفاق عام 2015، كصقور الحزب الجمهوري و”إسرائيل” وبعض القوى العربية التي تصرُّ على ضرورة شمل أنشطة إيران الإقليمية ضمن بنود الاتفاق معها، فضلًا عن أمور أخرى عالقة بين أطراف التفاوض.
وعليه، إن نتائج محادثات فيينا ستؤثر بشكل مباشر على نشاط إيران في سوريا سلبًا أو إيجابًا، ففي حال نجحت الولايات المتحدة، بضغط إسرائيلي، بتوقيع اتفاق شامل مع إيران يشمل تواجدها العسكري في سوريا وتحركاتها الإقليمية التوسعية، قد نشهد حينها انسحابًا جزئيًّا إيرانيًّا من بعض المناطق وتقليصًا لعدد قوات ميليشياتها، خاصة في مناطق الجنوب السوري.
من غير المتوقع في المدى القريب والمتوسط حدوث تغيير جوهري ملموس على تركيبة التموضع الإيراني في سوريا في ضوء المعطيات الحالية في المشهد السوري المتأزِّم.
لا يقتصر الوجود الإيراني في سوريا على قواعد ومواقع عسكرية، بل تشعّبَ ليشملَ جوانب متعددة اقتصادية وثقافية ومجتمعية وتعليمية وعسكرية وأمنية، لذا فإن الضغوط الاقتصادية أو السياسية أو حتى العسكرية (مثل: تكثيف “إسرائيل” ضرباتها الجوية على المواقع الإيرانية) تصعّب الموقف الإيراني، لكن لا يبدو أنها ستدفع طهران للتفكير بالخروج من سوريا، إذ إنها تكيّفُ نفسها بشكل مستمر ودائم على تحمُّل مختلف أنواع الضغوط عبر تنويع أدوات المواجهة لديها، كتعزيز مواقعها العسكرية وتوسيع حجم تغلغلها داخل مؤسسات النظام العسكرية والأمنية.
في الختام، تدرك القوى الدولية حجم هذا التمدُّد الإيراني في سوريا وصعوبة التأثير عليه دون القيام بخطوات حقيقية فعلية، فرغم إعلان الولايات المتحدة و”إسرائيل” في أكثر من مناسبة على ضرورة خروج إيران الكامل من سوريا، إلا أن المعطيات تشير إلى تركيز تلك القوى على تحجيم وتقليص وتأطير النفوذ الإيراني بدلًا من العمل على إخراجها، وهو ما تستثمره روسيا التي تعمل هي الأخرى على تحجيم إيران في سوريا لتحصيل بعض المكاسب، دون الذهاب بعيدًا في التخلي عنها أو بناء توافق مع الأطراف الدولية لإخراجها من سوريا، نظرًا إلى تشابك المصالح بين الجانبَين، كما أشرنا سالفًا.
وعليه، من غير المتوقع في المدى القريب والمتوسط حدوث تغيير جوهري ملموس على تركيبة التموضع الإيراني في سوريا في ضوء المعطيات الحالية في المشهد السوري المتأزِّم، وقد تقتصر إيران، في حال تصاعُد حدة الضغوطات والتضييقات عليها، على انسحاب شكلي/تكتيكي لا يرقى إلى حدوث انسحاب استراتيجي يغيّر مسار مشروعها وأهدافها طويلة الأمد في سوريا والمنطقة.