“لدي مهمة محددة ملتزم بها أمام الشعب والجيش وهي استكمال الفترة الانتقالية، ولن أترشح للرئاسة حتى لو طُلب مني ذلك، مهمتي تنتهي بانتهاء الفترة الانتقالية، والشعب السوداني بالكامل يدعم قراراتنا، وبعض النخب ترفضها، الجيش سيترك الساحة السياسية بعد الانتخابات المقررة في عام 2023، والمؤتمر الوطني لن يكون جزءًا من المرحلة الانتقالية بأي صورة من الصور”.. بتلك التصريحات حاول رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، طمأنة الشارع السوداني بشأن مستقبل الحكم في البلاد، الذي سيكون وفق حديثه “حكمًا مدنيًا”.
تصريحات تحمل وعودًا تبدو إيجابية في ظاهرها، وإن لم تختبر جديتها بعد، غير أن لها سوابق كثيرة ربما تكشف النقاب رويدًا رويدًا عن حقيقتها في ظل استعذاب الجنرالات الانقلاب على الوعود، كما الاتفاقيات والمواثيق الدستورية، منذ الإطاحة بنظام البشير في أبريل/نيسان 2019.
تتزامن تطمينات البرهان مع حراك ثوري مشتعل منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رافعًا شعار “رفض الشراكة والتفاوض والتعاون مع العسكر”، ومطالبًا بتسليم السلطة الكاملة للمدنيين وفق وثيقة أغسطس/آب 2019، ليبقى السؤال: هل تنجح مسكنات الجنرالات في تهدئة الصداع المزمن الذي تسببه الاحتجاجات؟ ولماذا فقد الشارع الثقة في وعود الجنرال؟
الانقلاب على الوعود.. عقيدة برهانية
البرهان في مقابلة له مع “العربية” قال: “عندما تأتي حكومة منتخبة، الجيش والقوات النظامية ليست لديهما مشاركة في الشأن السياسي”، مشيرًا إلى أن “هذا هو الوضع الطبيعي وما تم الاتفاق عليه”، منوهًا إلى بدء التحقيقات بشأن ضحايا الاحتجاجات “لنعرف من فعل ذلك، ومعاقبة المجرمين، والحكومة تحمي حق التظاهر السلمي”.
قائد الجيش السوداني شدد كذلك على أن حزب البشير “المؤتمر الوطني” لن يعود مرة أخرى في الفترة الانتقالية بأي شكل من الأشكال، مشددًا “نحن ملتزمون بذلك”، لافتًا إلى المضي قدمًا في مسار تحقيق العدالة، قائلًا: “لدينا تفاهمات مع المحكمة الجنائية الدولية للمثول أمام القضاء أو أمام المحكمة.. ونحن ملتزمون بتحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين”.
منذ الإطاحة بالبشير خرجت عشرات التصريحات والوعود عن كبار قادة الجيش والمؤسسات الأمنية، كلها يصب في إطار الانتصار للثورة وإرادة الشارع والمضي قدمًا في دعم مسار الانتقال الديمقراطي وتعزيز مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بشتى السبل، وطي صفحة الإنقاذ بصورة كاملة.
لكن شيئًا فشيئًا انقلب العسكر على تلك الوعود البراقة، التي كانت تستهدف في المقام الأول مغازلة الشارع الثائر الذي كان يطالب بعودة الجيش إلى ثكناته، رافضًا مشاركته في الحياة السياسية، غير أن إستراتيجية امتصاص الصدمة عبر التصريحات الوردية أتت أكلها، ويومًا تلو الآخر، فرض العسكر أنفسهم على الساحة كأبرز اللاعبين إن لم يكونوا اللاعب الأوحد في الميدان.
“يا عسكر ثكناتك أولى.. ما في مليشيا بتحكم دولة”، تحت هذا الشعار خرجت عشرات المواكب المليونية في حراك ثوري مستمر طيلة الشهر الماضي، للمطالبة بتخلي الجنرالات عن السلطة وتسليمها للمدنيين
وبينما كان البرهان ورفاقه يدغدغون مشاعر الشعب بشعارات دعم الثورة، كانوا في المقابل يطعنونها في مقتل، فعرقلوا بناء مؤسسات الدولة، وأسقطوا الحكومة المدنية في فخ الانقسامات والاختلافات، وزرعوا بذور الفتنة في المكون المدني عبر دعوات توسيع الحاضنة السياسية وفتح الباب أمام الجميع باسم التشاركية، هذا بخلاف إحداث الوقيعة بين المدنيين وإقليم الشرق.
ثم جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في سبتمبر/أيلول الماضي لتميط اللثام نسبيًا عن ملامح المشهد وتفاصيله، لكن الشارع ما كان قد تعلم الدرس جيدًا، ليأتي انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ساقطًا معه الوجوه المزيفة والوعود الكاذبة التي تبخرت سريعًا أمام الانتهاكات المستمرة لمكتسبات الثورة.
الاستفاقة المتأخرة للشارع وضعت الجنرالات في مأزق، وفضحت مخططهم أمام الجميع، في الداخل والخارج، ما دفعهم للعودة لإستراتيجيهم القديمة، دغدغة المشاعر والعزف على أوتار الوعود الوهمية، فجاء اتفاق البرهان – حمدوك، ثم موجة من التصريحات الوردية التي يحاول من خلالها البرهان دفع التهم الموجهة له، بعد الزخم الذي أحدثه الحراك الثوري المستمر، الذي وضع العسكر في موقف لا يحسدون عليه.
الحراك الثوري.. لا شراكة مع العسكر
“يا عسكر ثكناتك أولى.. ما في مليشيا بتحكم دولة”، تحت هذا الشعار خرجت عشرات المواكب المليونية في حراك ثوري مستمر طيلة الشهر الماضي، للمطالبة بتخلي الجنرالات عن السلطة وتسليمها للمدنيين وفق الوثيقة الدستورية، وتعزيز مسار الانتقال الديمقراطي للحكم كمطلب أساسي لثورة ديسمبر التي أطاحت بالبشير وجاءت من بعيد بالبرهان وحميدتي على رأس هرم السلطة.
القوى الثورية طالبت بحل التشكيلات العسكرية المسلحة التي تهدد أمن واستقرار الدولة المدنية، مطالبة بالإسراع بـ”عملية نزع السلاح والتسريح والدمج في الجيش القومي المهني الواحد وفق أسس فنية ومهنية، تتحكم فيها أجهزة متخصصة”، منوهة أن “إنهاء تعدد الجيوش واجب مقدم للسلطة الوطنية المدنية الكاملة النابعة من القوى الثورية القاعدية المؤمنة بالتغيير الجذري وأهداف الثورة”.
البرهان نفسه على ثقة أن تلك الوعود لن تقنع الشارع – مهما كانت قوة وسعة الحاضنة السياسية التي دشنها مؤخرًا – طالما أنها لم تترجم إلى إجراءات وقرارات رسمية على ارض الواقع، غير أنه يحاول من خلالها تبريد الأجواء الساخنة نسبيًا وامتصاص غضب المجتمع الدولي مؤقتًا، لكسب المزيد من الوقت
“تجمع المهنيين السودانيين” وهو أحد القوى الثورية الداعمة للاحتجاجات الأخيرة والمنظمة لها، أشار في بيان له نشره على صفحته على فيسبوك أن الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق “بناء قوات الشعب المسلحة القومية المهنية التي تعكس التعدد الإثني والديني والثقافي للشعب السوداني، وفق عقيدة وطنية جديدة أساسها حماية الوطن والدستور، وخضوعها بالكامل للسلطة المدنية”.
وتوازيًا مع تلك المطالب، ومن رحم التطورات المتلاحقة التي فرضها الانقلاب البرهاني الأخير، شرعت بعض القوى في الدعوة لبناء تحالف ثوري جديد، قادر على التعامل مع المستجدات الأخيرة، على أسس التشاركية والاحترام وعدم الإقصاء، والاستفادة من أخطاء الماضي، رافعًا شعار “إسقاط الانقلاب أولًا”.
تجمع المهنيين وعلى لسان المتحدث الرسمي باسمه، الوليد علي، قدم مقترحًا لإعلان سياسي للقوى صاحبة المصلحة في التغيير وإسقاط الانقلاب، يقوم على 3 محاور رئيسية، هي: العمل من أجل سلطة مدنية كاملة وبناء جيش مستقل ومهني وموحد يمثل كل السودانيين، واقتصاد مستقل يضمن مجانية العلاج والتعليم.
ومن المفترض أن يناقش هذا الإعلان أمام الشارع، بعيدًا عن الغرف المغلقة التي كانت من أبرز أخطاء الفترة الماضية، بحسب المتحدث باسم التجمع، مؤكدًا أن الكيان الثوري سيعقد اجتماعات ولقاءات مطولة مع كل لجان مقاومة والتنظيمات الفئوية وقواعد الأحزاب المناهضة للانقلاب.
وتشهد الساعات الماضية تكثيفًا للحوارات بين القوى المستهدفة من أجل وضع خريطة طريق أولية لما هو قادم، ومحاولة ملء الفراغ السياسي الذي تركه تحالف قوى الحرية والتغيير بعد إقصائه من السلطة بفرمان من البرهان، في محاولة لتدشين حاضنة سياسية قوية للحراك الشعبي المستمر في الشوارع والميادين.
لماذا لا يثق السودانيون في الجنرال؟
في ضوء المعطيات السابقة، يراهن تيار كبير على أنه من الصعب أن تنطلي وعود البرهان على الشارع الذي سقط عشرات المرات في فخاخ مثل تلك التصريحات المخدرة، التي كان هدفها إخماد البركان الثوري المنفجر، لحين تمرير مشروعات السلطوية العسكرية على نار هادئة، وهو ما وثقته بالصوت والصورة الفترة الماضية، بدءًا من تشكيل المجلس الانتقالي العسكري في 2019 مرورًا بمجلس السيادة الأول في 2020 ثم الثاني في 2021، الذي يسيطر عليه الجنرالات بصورة شبه كاملة.
إصرار الثوار على التزام الشارع واستمرارية الحراك رغم الإجراءات والشعارات التي يتخذها العسكر ويرفعونها بين الحين والآخر تعكس رؤية شاملة لدى الشعب السوداني إزاء مخططات التسكين المستخدمة، التي تبرهن حالة القلق إزاء الاحتجاجات التي لم تفارق الشارع قرابة الشهر، واضعة مستقبل الجنرالات على المحك.
يؤمن الثوار أنه لا عهد للعسكر، وأن التصريحات التي تبدو وردية تخفي خلفها مؤامرات لا هدف لها إلا الانقلاب على مكتسبات الثورة، تلك الثورة التي يرى الجنرالات فيها تهديدًا حقيقيًا لأطماعهم السياسية، التي لا يمكنها أن تنمو أو تتحقق في ظل نظام ديمقراطي مدني، فضلًا عن احتمالية تقديمهم للمحاكمة على ما تورطوا فيه من جرائم دماء، ومن ثم فإن الحرب التي يخوضونها تمثل لهم حرب وجود ليس فقط حرب مناصب أو كراسي.
وفي الأخير فإن البرهان نفسه على ثقة أن تلك الوعود لن تقنع الشارع – مهما كانت قوة وسعة الحاضنة السياسية التي دشنها مؤخرًا – طالما أنها لم تترجم إلى إجراءات وقرارات رسمية على أرض الواقع، غير أنه يحاول من خلالها تبريد الأجواء الساخنة نسبيًا وامتصاص غضب المجتمع الدولي مؤقتًا، لكسب المزيد من الوقت على أمل ترسيخ أركان الانقلاب وتقوية جذوره، فهل يفوت الثوار الفرصة على البرهان باستمرارية حراكهم وزخمه المتصاعد؟