كانت استقالة وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي من الحكومة بطلب فرنسي مقدمة لما يبدو أنها مبادرة يقودها رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون لإصلاح العلاقة بين لبنان ودول الخليج إثر الأزمة التي فجرتها تصريحات قرداحي التي اعتبرتها الدول الخليجية إهانة لها من الحكومة اللبنانية ككل، فقررت تلك الدول إما قطع العلاقات وإما استدعاء السفراء وتخفيض التعامل الاقتصادي مع لبنان الغارق بأزمات اقتصادية كبيرة.
المبادرة الفرنسية الجديدة التي تعمل على حل الأمور العالقة بين حكومة نجيب ميقاتي والعواصم الخليجية ليست الأولى من نوعها، خاصة أن باريس تعتبر نفسها مسيرة لأمور لبنان، وبدا ذلك جليًا من خلال تعامل الرئيس الفرنسي ماكرون مع أزمة التفجير الذي حدث في مرفأ بيروت وزيارته إلى لبنان التي عمل من خلالها على ترتيب البيت الداخلي اللبناني فيما بدا أنها تفعيل للوصاية الفرنسية على البلاد.
وهنا يتضح ضعف الأطراف اللبنانية كافة أمام التدخلات الخارجية وعدم أهليتها للتعامل مع أحداث البلاد خاصة في ضوء هيمنة حزب الله على مفاصل الدولة وهي المشكلة الأساسية التي يواجهها لبنان مع دول متعددة أهمها السعودية والدول الخليجية الأخرى، كما أوضحت أزمة قرداحي الأخيرة انعدام الرؤية السياسة للأطراف اللبنانية كافة للتعامل مع المخاطر التي تواجه البلاد.
مبادرة جديدة
إذًا، مرة جديدة يقود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرة أعلن عنها لمعالجة الأزمة بين الرياض وبيروت، في الوقت الذي صدرت فيه تصريحات من مسؤولين لبنانيين تشير إلى أن الرياض تبحث الدفع نحو دعم لبنان وحكومته، يأتي الإعلان عن هذه المبادرة عقب وصول ماكرون إلى الرياض في زيارة رسمية سيتبعها توجهه إلى أبو ظبي والدوحة في إطار جولة خليجية يبحث فيها عدة ملفات لعل أهمها الملف اللبناني.
ويبدو أن استقالة جورج قرداحي التي جاءت بطلب فرنسي كانت في سبيل تذليل الصعاب أمام ماكرون خلال زيارته وطرحه لمبادرة تحسين العلاقات وإعادة لبنان إلى خطه، وفي مؤتمر صحفي عقب مباحثاته مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قال الرئيس الفرنسي إنهما تواصلا مع رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، وأكدا له التزام الرياض وباريس بدعم الإصلاحات في لبنان بهدف إخراجه من أزمته.
قال ماكرون إنه كان له حوار صريح ومفيد مع ولي العهد السعودي بشأن الأولويات السياسية المتمثلة في الأمن والاستقرار في المنطقة مع إيلاء اهتمام خاص بلبنان، مضيفًا “اتصلنا برئيس الوزراء اللبناني وقطعنا معًا تعهدات مشتركة تتمثَّل في العمل معًا ودعم الإصلاحات، وإفساح المجال أمام البلد للخروج من الأزمة والحفاظ على سيادته”.
يذكر أن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي قال: “استقالة قرداحي كانت ضرورية، ومن شأنها أن تفتح بابًا لمعالجة إشكالية العلاقة مع السعودية ودول الخليج”، كما اعتبر ميقاتي أن “الاتصال مع ماكرون وولي العهد السعودي خطوة مهمة لاستئناف العلاقات الأخوية مع المملكة”، وشكر ميقاتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وابن سلمان “لحرصهما على ديمومة الصداقة تجاه لبنان”.
بدورها نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن مسؤول فرنسي قوله إن الرياض اشترطت لعودة الاتصالات مع لبنان، زيارة زعيم غربي لها، كما وافقت السلطات السعودية على إعادة سفيرها إلى بيروت، وليس واضحًا إن كان ذلك سيتم بالفعل، أما على صعيد آخر فيبدو أن ماكرون يخوض هذه المبادرة من أجل كسب ود الفرنسيين، فقد نقلت الصحيفة أن ماكرون كثف تحركه مع قرب انتخابات فرنسا لتحقيق اختراق لصالحه.
وفي نهاية زيارة ماكرون إلى الرياض صدر بيان سعودي فرنسي مشترك، اتفق من خلاله الطرفان على “العمل مع لبنان لضمان تطبيق هذه التدابير، وأكدا ضرورة حصر السلاح على مؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقًا لأي أعمال إرهابية تُزعزع أمن المنطقة واستقرارها، ومصدرًا لتجارة المخدرات”.
كما شدد ابن سلمان وماكرون على أهمية تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن لبنان واستقراره، واتفقا على استمرار التشاور بين البلدين في تلك القضايا كافة، كما اتفقا على إنشاء آلية سعودية-فرنسية للمساعدة الإنسانية في إطار يكفل الشفافية التامة، وعزمهما على إيجاد الآليات المناسبة بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة لتخفيف معاناة الشعب اللبناني.
الرفض السعودي
الأزمة السعودية مع لبنان ليست وليدة التصريحات التي أدلى بها جورج قرداحي عن “عبثية الحرب في اليمن”، بل تسبق ذلك بكثير، إذ تعتبر الرياض أن القرار اللبناني أصبح رهينة بيد حزب الله الذي تعتبره الرياض عدوًا لدودًا لها، وكذا العكس، إلا أن لبنان الذي يستفيد من المساعدات السعودية وقع في مأزق بعد تجميد الدعم السعودي سياسيًا واقتصاديًا.
القبول السعودي المبدئي للمبادرة الفرنسية التي حملها ماكرون ربما هي مجاملة سياسية من ابن سلمان للرئيس الفرنسي لكي لا يخرج من الرياض خالي الوفاض بشأن لبنان، ذلك بأن السعودية لم تكن راضية عن حكومة نجيب ميقاتي منذ تكليفه ولا يبدو أنها ستغير موقفها قريبًا، فيرى محمد بن سلمان أن “مشكلة السعودية مع لبنان ليست في الأشخاص ولا في الحكومة، بل في السياسات اللبنانية المتّبعة، لا سيما السياسة الخارجية والأداء المستمر وتغطية ممارسات حزب الله في المنطقة العربية”.
بعد تشكيل حكومة ميقاتي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد طرح على السعوديين مبادرة لدعم الحكومة اللبنانية لكنها قوبلت بالرفض، فقد أوضحت المصادر أن اتصالًا جرى في أواخر سبتمبر/أيلول بين ماكرون وابن سلمان، لمناقشة الملف اللبناني عقب تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي، وبحث الاتصال بين الجانبين سبل مساعدة لبنان للخروج من أزمته ودعم الحكومة الجديدة، في ظل تعهدها بإجراءات إصلاحات.
حينها شدّد ماكرون لولي العهد السعودي على “تطلّع باريس لاتخاذ الرياض إجراءات تنقذ لبنان، عقب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها منذ سنتين، التي أثرت على جزء كبير من اللبنانيين”، لكن الرد السعودي على الطلب الفرنسي كان سلبيًا، فقد أكد ابن سلمان لماكرون عدم الرضا السعودي عن آلية تشكيل حكومة ميقاتي، وعن السياسات اللبنانية المستمرة التي بقيت على حالها.
المشكلة في حزب الله
يرى ابن سلمان أن “المشكلة السعودية الأوضح مع لبنان هي حزب الله، وقدرته على فرض سياسته الخارجية على الحكومة الرسمية”، وشدد الأمير السعودي أنه “لا يمكن لأي مسؤول سعودي أن يوافق على مسايرة الفرنسيين وتقديم الدعم للبنان، فيما حزب الله يستمر في مواجهة السعودية في اليمن والعراق وسوريا”.
ووفقًا للمصادر فإن ابن سلمان شدد على أن “المملكة غير مستعدة في الوقت الحاليّ لاستقبال ميقاتي واللقاء معه، وإعطائه شرعية للحكومة، في ظل الأداء المستمر والنهج المتبع، وأن أقصى ما يمكن أن تقدمه هو لقاء مع وزير الخارجية فيصل بن فرحان، وليس مع الملك سلمان أو ولي العهد السعودي”.
وكان ماكرون قد قدم ضمانات لولي العهد السعودي لكسب موافقته على المبادرة القديمة حيث أعلن “استعداد بلاده تقديم سلة ضمانات متعلقة بأداء الحكومة القادمة، التي تعتبر مهمتها الحاليّة وقف التدهور الحاصل في الاقتصاد المحلي والتفاوض مع صندوق النقد الدولي وإجراء انتخابات برلمانية بإشراف دولي، تسمح بإجراء تغيير على المجموعة الممسكة بالسلطة منذ عقود”.
ختامًا فإن المبادرة الفرنسية الحاليّة ليست الأولى من أجل لبنان ولن تكون الأخيرة على ما يبدو، فالرياض ما زالت مصرة على إبعاد هيمنة حزب الله عن الدولة اللبنانية الرسمية وهذا ما يراه المحللون والمراقبون صعبًا حاليًّا، لكن الخاسر الأكبر هو لبنان والشعب اللبناني الذي يعاني من أسوأ الأزمات الاقتصادية عبر التاريخ، وإلى حين إيجاد مخرج سيبقى الوضع معلقًا دون انفراجة قريبة.