في اليوم الثاني لعرض الأفلام بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كان الجميع مترقِّبًا لرؤية المشروع الجديد للمخرج الاستثنائي غاسبار نوي، الذي عُرض خارج المسابقة الرئيسية في سياق العروض الخاصة (Special Screening)، هذا لأن أعماله تتّسم بتجريبية خاصة، وصدامية مدهشة، بحيث يخرُجُ المُشاهد في أكثر من مرة غير مصدّق لما رآه.
عدم التصديق هذا ليس لأن الفيلم يدور حول الخرافة أو يستلهم نفسه من عوالم فنتازية، بل لأن الواقع الذي يعرضه شديد القسوة، حتى لو كان عن الحب واللذة، دائمًا ما يجدُ غاسبار الطريقة الأشد ترويعًا من الناحية النفسية والبصرية ليقدِّمها في سياقه القصصي، وهذا ما يميّزه عن أقرانه، فهو يلعب في بقعة خاصة لدى المشاهد، ويحاول من خلال المُنتَج البصري تمرير حكاياته بأسلوب قاسٍ ولكنه مدهش.
بيد أن غاسبار خالف كل التوقعات، وصنع فيلمه الأكثر رقة وهدوءًا، والأقرب للموت من كل أفلامه السابقة، فإذا كانت أغلب أفلامه السابقة تدور في متنها حول الحب والجنس والهلوسة، فهذا الفيلم يدور حول الموت وبشكل أكثر خصوصية حول الكوابيس، ولكنه في الوقت نفسه لا يتخلى عن مزج الحب والهلوسة بالحكاية كأركان إنسانية أصيلة وحقيقية.
ويقول غاسبار في حوارٍ له مع موقع “إندي واير”، حينما سأله المحاور عن أن الشطر الأعظم من أفلامه يدور حول الجنس والمخدرات والحفلات الصاخبة وغيرها من الأنشطة البذيئة، فإلى أي مدى كان تصوره لفيلم يتخلّى عن كل هذه الأنشطة: “لن أصنع فيلمًا حول الشيخوخة من فئة X للكبار فقط، إنه أشبه بفيلم حول النجاة، يتعلق الفيلم بشخصَين مسنَّين في خطر، لا أعرف أي نوع (Genre) أفلام سينضوي تحته هذا الفيلم”.
الأمر لا يتعلق بالقصة كعملية إبداعية منفصلة، بل كعملية إنسانية أيضًا، فمنذ حوالي سنتَين عانى غاسبار من نزيف في المخّ كان على وشك إن يودي بحياته، ويقول عن ذلك في الحوار ذاته: “منذ حوالي سنة ونصف، أصبت بنزيف في المخ، وكنت على وشك الموت، ولكني نجوت بمعجزة، ونصحوني بالمكوث بالمنزل لشهرَين بعد خروجي من المشفى، وبدأ الحجر الصحي في كل مكان، لذا قضيت حوالي 6 شهور أشاهد أفلام ميزوغوشي في المنزل، لقد كنت أشاهد فيلم أو فيلمَين من تحف اليابان كل يوم تقريبًا، ربما كانت هذه الفترة أكثر اللحظات هدوءًا في حياتي كلها”.
بجانب ذلك، زار غاسبار والده في الأرجنتين منذ مدة، وعندما غادر شعر بضرورة تنفيذ هذا الفيلم الذي يطارده منذ 3 أو 4 سنوات، تلك الضرورة الحتمية لتنفيذ أشياء لا نعلم عنها شيئًا، ولا يمكن تخيُّل شكلها بشكل مثالي، ولكن تفرض وجودها في الأشياء حولنا، في أحبابنا والأشخاص الأقرب إلى قلوبنا، وربما كان هذا الإلحاح الكوني على غاسبار، مرضه وزيارته لوالده، هو سرّ صنعه للفيلم الأكثر خصوصية بين أفلامه، والذي يعتبره البعض شخصيًّا بدرجة هائلة، وتنكشف هذه النقطة جليًّا في المحاورة المذكورة سابقًا، عندما سأله الصحفي “إلى أي مدى يبدو هذا الفيلم مألوفًا لك؟”:
“والدي يبلغ من العمر 88 عامًا، وما زال يمتلك حضورًا عقليًّا قويًّا، ربما أكثر من أي وقت مضى، أنه يكتب ويرسم، أصيب بكوفيد-19 العام الماضي ونجى، ولكن هناك بعض الأشياء في الفيلم مرتبطة بحياتي، فقدَت أمي عقلها منذ 8 سنوات، ثم ماتت بسبب ذلك، وكذلك كانت جدتي، إنها لَعملية سحرية، أنَّ ألمع الناس في العالم هم أوّل من يفقدون عقولهم. أردت أن أهدي الفيلم لأولئك الذين فقدوا عقولهم قبل أن يفقدوا قلوبهم”.
تراكُم تلك الظروف، وتوقيتها، دفعا غاسبار لكتابة 10 صفحات من الخطوط العريضة للفيلم، لا تحتوي على تفاصيل بقدر ما تحتوي على محاور الفيلم الرئيسية، وعرفَ غاسبار أن تفاصيل التصوير ستتدفّق مع بداية النصف الثاني من العملية الإبداعية، حين يصوِّرون، لأنه يعرف ما يودّ رصده جيدًا بجانب وجود ممثلين عظماء سيحملون الفيلم.
يدور فيلم “دوامة” (Vortex) حول رجل وامرأة مسنَّين، الأب (الممثل داريو أرجيتو) والأم (الممثلة فرانسواز ليبرون)، في الشطر الأخير من حياتهما، حيث تعاني الأم من مرض الزهايمر، يتآكل عقلها كل يوم، تتحول مع مرور الزمن إلى شخص غريب، يخفق في العدم، عالمها يتلاشى ولا يبقى سوى بعض الانفراجات الشعورية التي تردّها إلى عالمها مرة أخرى لبعض الوقت، لوهلة تتذكر وظيفتها السابقة كطبيبة وتبدأ في كتابة الروشيتات ودمج الوصفات الطبية، ثم تعود مرة أخرى هائمة ووحيدة وفارغة من الذكريات تقريبًا، وعلى الناحية الأخرى كان الأب يعمل ناقدًا سينمائيًّا، يحاول أن يكتب كتابًا عن الأحلام في السينما، يكرّس معظم وقته للكتابة والوقت المتبقي يعتني فيه بزوجته.
لم يسمِّ غاسبار شخصياته بأسمائها، بل تركها في العراء، وفي هذا محاولة لجعل الشخصيات أكثر عمومية، مفتوحة على التأويل والتعاطي منذ البداية، وعلى الناحية الأخرى تفقد الشخصيات جزءًا كبيرًا من وجودها الخاص، فلكل إنسان وجوده الخاص، يستمدّه من اسمه ومن ماضيه وذكرياته وإنجازاته.
فالإنسان يوسم باسمه، ويحضر بوجوده، فهو ليس مجرد مجموعة من الحروف المكتوبة أو المنغّمة، بل يوفر حضورًا لا نهائيًّا لصاحبه، ويضفي تميُّزًا يخصّه وحده حتى لو تشابهت الأسماء، بيد أن غاسبار انطلق من منطقة كلّية، لا تهتم للماضي ولا للأسماء، منطقة مباحة أمام الجميع، وربما يرى فيها الكثير نهايات لأشخاص يحبونهم، أو حتى لأنفسهم، رغم ذلك تنطلق سردية غاسبار من منطقة أكثر خصوصية بالنسبة إليه، لأنه عاش تلك الأحداث مع أمه.
يغلّف غاسبار فيلمه بالأحلام، ولكن بطريقة غير مباشرة، بحيث يدفعها في لا وعي المشاهد دون أن يشعر، منذ بداية الفيلم نسمع صوت التلفزيون أو الراديو في محاورة عن الأحلام ومدى ارتباطها بالإنسان، وبعدها بمدة قصيرة نرى الأب يتحدث في الهاتف عن اقتباس إدغار آلان بو “إن كل ما نراه أو يتراءى لنا ما هو إلا حلم داخل حلم” بجانب إرادة الأب القوية لكتابة كتابه عن الأحلام في السينما، وهذا يحيلنا إلى نقطة مهمة، هي أن هذا الفيلم هو كابوس فعلي، لا وعي داخلي لأشياء موجودة في الحقيقة نحاول دفنها في أعمق بقعة من وعينا، لا نود أن نرى نهايتنا الحتمية، نشيح بوجهنا عن الموت كأنه غير موجود.
وإذا كان هذا كابوسًا، فغاسبار يضاعفه بمونتاج غريب وفي أحيان أخرى مزعج، هذه النبضات والخفقات التي تشبه رمشة العين، كأنَّ كل مشهد هو حلم نستيقظ منه داخل حلم، تلك الدائرة اللانهائية من الإرهاق والمعاناة ومحاولة البقاء على قيد الحياة، بالإضافة إلى ذلك يفصل غاسبار بين عالمَين، من خلال تقسيم الشاشة إلى قسمَين، قسم للأم وقسم للأب، ويقول غاسبار عن تلك النقطة: “هناك شكلان من الحياة، لا يتمُّ تقاسمهما ولكنهما يتمّمان بعضهما، كل واحد يعيش في نفقه الخاص، لكن كل واحد متشابك مع الآخر… في الأصل لم أكن أعتقد أنني سأقسم الشاشة طوال الفيلم، لقد بدأت التصوير بكاميرتَين ثم كاميرا واحدة، ثم أدركت “اللعنة، كان عليّ التصوير بكاميرتَين إذا أردت أن أقسم الشاشة طوال الفيلم”، لذا كان علينا أن نعيد تصوير بعض المشاهد مجددًا، وأنا سعيد أننا فعلنا ذلك”.
إذًا، كان تقسيم الشاشة ضروريًّا لتعميق المعنى، وتوظيف تلك التقنية داخل عملية الحكي كان مفيدًا جدًّا سواء على الناحية البصرية في توضيح مدى انفصال الأب والأم عن بعضهما، رغم التحامهما بالضرورة داخل العالم نفسه، والتركيز على البنية البصرية في الكشف عن تأثير الشيخوخة والمرض على الحياة؛ وعلى الناحية الأدبية من خلال الاستحواذ على أكبر قدر من الوقت على الشاشة، بل مضاعفة البنية الأدبية والسيناريو في الفيلم دون مضاعفة وقت الفيلم، أي أن هناك فيلمَين كانا يجريان على الشاشة، وهذا مكسب كبير للمخرج، لأنه إن لم يفعل ذلك كان سيخسر الكثير من المادة المصوَّرة التي أخرجَت الفيلم بشكل جيد.
هناك ملمح آخر في هذا الفيلم لا نجده في أي فيلم من أفلام غاسبار السابقة، وهو أنه فيلم بطيء لا يدفع الأحداث بعنفوان وزخم، بل يعطي الشخصيات مساحة هائلة لتدور داخل عوالمها، فالفيلم أشبه بدوران كل شخصية حول الأخرى، وعلى عكس أفلامه السابقة التي تتّسم بطاقة كبيرة، تتبدّى تلك الطاقة -في أفلامه الشخصية- من خلال أفعال الشخصيات العنيفة أو حتى غير العنيفة ولكنها دائمًا في حركة وديناميكية ومرونة.
ولكن هنا الأمر مختلف، لا يهتم غاسبار بصنع هذا النوع من العوالم، بل يخلق عالمًا هادئًا، أركانه المكانية ثابتة، وحتى الكاميرا لا تحاول التلاعب لتظهر شيئًا ليس له وجود، كل ما في الأمر أن الأب والأم يواجهان مصيرًا حتميًّا، يحاولان الهروب منه، في كل مرة ينجحان في ذلك، بيد أن حالتهما تتدهور، ويظهر ذلك بطيئًا ومتمهّلًا، ما يستجلب بعض الملل ربما، ولكنه يحاكي حياة طبيعية لأناس فقدوا جزءًا كبيرًا من هوياتهم، يرصد تحركاتهم الكهلة، ويسمح لأفعالهم الأكثر جنونًا أن تظهر على الشاشة.
ربما يبدو الأمر في النهاية مثل دعابة مضحكة، ولكنه ضروري للسير بمحاذاة هؤلاء الأشخاص ومعرفتهم بشكل أفضل، ومن حسن الحظ أن هذا الفيلم منح تلك الحكاية ثقلًا هائلًا، وجسّدَ الموت كشيء غير مرئي يزحف على الأجسام ببطء من خلال محاولة النجاة نفسها، وعن طريق مرور الزمن فوق أجسادنا.
حافظَ الأداء التمثيلي وشكل الحركة على الإيقاع البطيء، ولا يوجد شك من جودة أداء الأدوار الرئيسية، حتى أن هناك بعض اللحظات التي تبدو حقيقية جدًّا، حقيقية أكثر من اللازم بحيث تشعرك بالخطر من خوضك أو أحبائك سيناريو مشابه، وهذا لأن المسنَّين في الأغلب لا يمارسان التمثيل بصورته المعهودة، ولكنهما يعيدان اكتشاف تلك الأفعال والمواقف، يعيدان تعريف الأدوار بشكل يتماسُّ مع حقيقة كونهما مسنَّين حقيقيَّين.
لهذا يبدو كل شيء على الشاشة مألوفًا، خصوصًا الممثلة فرانسواز ليبرون التي تخلّت عن الصورة التقليدية للممثل الذي يكشف عن نفسه بأكبر عدد من الكلمات في أقل وقت ممكن، بيد أنها على العكس تواجه معضلة أنها لا تستطيع تكوين جملة مفيدة، إنها تفقد الأداة، تفقد وسيلة الاتصال بالعالم، وتتشدّق بأنصاف كلمات، وبشظايا أحرف لا يمكن تمييزها، وهذا ما يجعلها منعزلة.
فيلم “دوامة” هو دوار حقيقي لموجودَين يدوران حول بعضهما، إذا توقّفا عن الدوران سينهار عالمهما، فالعالم في أصله مؤسَّس على الحركة، لذا توضّح القصة محاولتهما لمواصلة الدوران، بيد أنهما لا يستطيع أن يرى أحدهما الآخر، يبدوان وحيدَين، لكل واحد كابوسه الخاص، نقطة ضعفه المستحكمة، وهذا ينبئ بعدم وجود نهاية سعيدة، ولكن هذا واضح منذ البداية، حيث لا توجد نهاية سعيدة في زوجَين يفقدان القدرة على الدوران.
لكن رغم ذلك، يقتنص الفيلم لقطات توضِّح آلية التفاعل بينهما، حيث لا يجدُ أحدهما الآخر إلا في وقت الهلوسة والمرض، يحاولان التلاحم ولكن عوالمهما أضحت أضخم من قدرتهما على التجوُّل، وفي النهاية سيكون كل شيء طيّ النسيان، كأن الجميع مسيّر تحت تأثير عقاقير معيّنة، الجميع يهلوس، الجميع يسقط، الجميع على شفا الموت.