لا تكاد تخلو أرض أو مدينة عربية من وصف وضعه لها هذا الفتى الرومي مولدًا، الحموي شهرةً، والبغدادي نشأةً وعلمًا، فقد طاف البلاد واطلع على مكتباتها وجمع الشوارد والنوادر وصنف الموسوعات الضخام في الأعلام والبلدان.
في هذا التقرير من ملف “الرحالة” سنرافق الحموي في رحلته خلال القرن الثاني عشر الميلادي وسنكتشف البلدان عبر معجمها، متعرفين على صاحب “معجم البلدان” والمنهجية التي اتبعها معتمدًا على رحلته في سرد أحد أعظم ما كتب في جغرافيا البلدان.
من هو ياقوت الحموي؟
شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت ولد في بلاد الروم ووقع في الأسر طفلًا، فحُمِل إلى بغداد وجرى بيعه لتاجر من أهل حماة، سكن بغداد، وهو عسكر بن أبي نصر البغدادي الحموي، فحمل ياقوت لقبه الأشهر نسبةً لسيده الذي اشتراه، وكان عسكر جاهلًا لا يقرأ ولا يكتب، وأراد أن يستفيد من ياقوت في أعماله، فأرسله لأحد مساجد بغداد ليتعلم القراءة والكتابة والحساب، ثم شاركه في أسفاره وترحاله بين البلدان بغرض التجارة، ما فتح الباب لياقوت للتعلم.
كان ياقوت حسن الخط، كثير الحب للكتب، فلما أعتقه سيده امتهن مهنة نسخ الكتب وتجارتها في بغداد قبل أن يعود للتجارة مسافرًا بين البلاد، فزار نيسابور وتزوج هناك ومكث عامين، لكنه لم يستطع الاستقرار طويلًا فعاود السفر وتجارة الكتب مرة أخرى بين مدائن خراسان، ومر بمدن هراة وسرخس ومرو، ثم استقر في خوارزم حتى أغار عليها جنكيز خان فغادرها نحو الموصل ومنها إلى حلب التي استقر فيها ووضع كتابه الشهير “معجم البلدان”.
لم يكن ياقوت ناسخًا للكتب وتاجرًا ورحالًا فقط، وإنما كان أديبًا وشاعرًا جزلًا وكان يعرف عنه أنه لم يستخدم شعره قط للمدح أو التكسب، وله ديوان يحتوي على الكثير من القصائد القيمة ومن شعره:
لا أوحش الله من قوم نـأوا فنـأى |
عن النواظر أقمـار وأغصـان |
|
ساروا فسار فؤادي إثر ظعنهم |
وبان جيش اصطباري ساعة بانـوا |
|
لا أفتر ثغر الثرى من بعد بعدهم |
ولا ترنح أيـك لا ولا بـان |
|
أجرى دموعي وأذكى النار في كبدي |
غداة بينهم همّ وأحـزان |
رحلته
كان ياقوت يسافر في كنف واليه عسكر إلى عدة بلاد وكانت أول أسفاره إلى جزيرة قيس جنوب الخليج العربي، وكانت جزيرة شهيرة في وقتها بالتجارة، ثم كانت له أسفار متعددة شرقًا تجاه بلاد فارس ومدنها المختلفة ثم الشام ومصر، وخرج للتجارة وحده دون سيده عسكر لما وصله من خبرة بها.
في أثناء رحلاته كان ياقوت يدوّن ملاحظاته الخاصة عن الأماكن والبلدان والمساجد والقصور والآثار القديمة والحديثة والحكايات والأساطير والغرائب والطرائف ويزور المكتبات ويجلس في مجالس علماء البلاد التي يزورها، ما منحه حصيلة جيدة في الاطلاع مكنته من التأليف لاحقًا ووضع الموسوعات الشهيرة.
كتاب معجم البلدان
يختلف كتاب “معجم البلدان” الذي وضعه الحموي عن بقية كتب الرحالة بالمنهجية المميزة والثراء الواسع والغزير في المعلومات التي وضعت بهذا الكتاب فهو ليس كتابًا جغرافيًا فقط، وإنما موسوعة جغرافية أدبية وتاريخية ومرجع في اللغة والتراجم وأعظم ما كتب بالعربية في هذا المجال.
وإضافة لقيمته العلمية؛ فإن طريقة التصنيف كانت إضافة مهمة جدًا، فقد وضع ياقوت منهجيةً واضحةً لترتيب البلدان حسب حروف المعجم من الألف إلى الياء، وكان يشرع بالحديث عن المدن بكيفية نطق اسم المدينة بشكلها الصحيح، ولعل لفظ اسم الأماكن بشكلها المضبوط باللفظ الدقيق هو السبب الأساسي التي دفع ياقوت الحموي لكتابة معجم البلدان، فيُروى أنه في أثناء مكوثه في خراسان بمجلس علم، ذُكر اسم “حُباشة” وهي منطقة بين مكة واليمن، وكانت سوقًا قبل الإسلام، فاعترض المحدّث على ياقوت، وقال له “حَباشة” بفتح الحاء لا بضمها، وتبيّن صحة لفظ ياقوت، فرأى أن عليه تأليف كتاب يسد هذه الثغرة، فألف “معجم البلدان” ليكون مصدرًا موثوقًا وموسوعةً أدبيةً في ضبط أسماء البلدان.
وعندما استقر به المقام في حلب وجد ياقوت اهتمام الوزير جمال الدين القفطي الذي رحب به، وصرف له راتبًا ثابتًا يستعين به للتفرغ للتأليف والكتاب، وقد قضى ياقوت في حلب خمس سنوات أنهى فيها الكتابة الأولى لمعجم البلدان وقد بلغ من العمر 45 عامًا.
اعتمد ياقوت في كتابته للكتاب على مصادر متعددة توافرت بين يديه من كتب سابقة، إضافة لمشاهداته المتعددة في ترحاله المستمر لغرض التجارة وطلب العلم، فكان يذكر المدن وطريقة لفظ اسمها وسبب التسمية وتاريخ هذه المدينة وما تشتهر به من علماء وشخصيات وكل ما يختص بها من حديث الشعراء وغريب الطعام والشراب والحكايات والموقع الجغرافي واتساع وشكل الأبنية.
أورد الحموي في كتابه الكثير من التفاصيل المهمة غير ما يتعلق بذكر البلدان، كذكر صورة الأرض وما قاله فيها العلماء المتقدمون والمتأخرون، وتعريف وحدات القياس المتداولة في زمانه بشكل تفصيلي، كذلك تفصيل الأراضي والأقاليم وحدود انتشار الإسلام في زمانه، وقد أورد في كتابه منازل العرب والبوادي والقفار بالاعتماد على ذكرها الوارد في شعر العرب والنثر والأمثال.
هذه الشمولية الكبيرة في الكتاب جعلت صفي الدين البغدادي المعروف بابن عبد الحق يختصر كتاب معجم البلدان فكتب “مراصد الاطلاع على الأمكنة والبقاع” وهو اختصار أزال منه صفي الدين كل المعلومات الإضافية التي أوردها الحموي وترك ذكر المدن فقط ليكون أسهل في الاطلاع.
وعلى عكس الاختصار فقد جرت توسعة الكتاب ليشمل ما لم يشمله ياقوت حيث أكمل محمد أمين الخانجي عمل الحموي بإضافة مستدرك لموسوعة المعجم يذكر فيه المدن والبلدات التي لم يذكرها الحموي في كتابه واختار لها الخانجي عنوان “منجم العمران في المستدرك على معجم البلدان”.
إن العصر الذي كتب فيه ياقوت الحموي مؤلفاته الموسوعية التي شملت “معجم الأدباء” الذي يعتبر من أفضل كتب السير والتراجم، إضافة إلى “معجم البلدان” الذي دارت حوله أغلب نقاشات هذه المقالة إضافة لكتاب “أنساب العرب وأخبار المتنبي”، كان عصر علم وتفوق إسلاميّ، يزخر بالمكتبات العظيمة التي كانت متاحة في حواضر العالم الإسلامي الذي عاش في كنفه الرومي ليخرج كتبه معتمدًا على مكتبات بغداد ومرو والموصل وحلب والقاهرة وغيرها من الحواضر الإسلامية التي زارها ياقوت وجمع منها علومه، ما جعل الموسوعة التي بين يدينا مرآةً حقيقيةً لواقع الازدهار الثقافي الذي بلغ أوجه قبل الانكسار الذي رافق سقوط بغداد على يد المغول سنة 1258م بعد وفاة الحموي بعقود قليلة.