تتجه أنظار الشارع العربي إلى مخرجات الجولة الخليجية الخاطفة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليومين الماضيين، التي بدأها بالإمارات ثم قطر واختتمها بالسعودية، لا سيما ما يتعلق بملف الوساطة لتهدئة الأجواء السعودية اللبنانية المتوترة، وهو الملف الذي توقع البعض حدوث انفراجة كبيرة إزائه عقب استجابة وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، للطلب الفرنسي بتقديم استقالته قبيل ساعات قليلة من تلك الزيارة.
الرئيس الفرنسي وعقب لقائه بولي العهد السعودي في جدة، السبت 5 ديسمبر/كانون الأول 2021، (وهو اللقاء المثير للجدل كونه الأول من نوعه بين رئيس أوروبي ومحمد بن سلمان منذ مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول أكتوبر/تشرين الأول 2018) كشف النقاب عن مبادرة سياسية لحل الأزمة بين الرياض وبيروت، أعقبها اتصال هاتفي جرى بينهما وبين رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي.
المبادرة تلقتها القوى السياسية في لبنان وخارجها بنوع من الحذر، في ظل التشكيك بقدرة ماكرون على الوفاء بها، على اعتبار كونها خطوةً دبلوماسيةً تمهد في المقام الأول لدعم أهداف الجولة التي على رأسها محاولة ترسيخ موطئ قدم باريس في المنطقة بعد تراجع شديد خلال الفترة الأخيرة، وإنعاش الاقتصاد الفرنسي المتأزم بعشرات الاتفاقيات التي ربما تحدث حالة من التوازن النسبي.
جدير بالذكر أن الأزمة اللبنانية السعودية أكبر من مجرد تصريحات عابرة لوزير الإعلام، وأعمق من أن تُحل باستقالة أو اعتذار، إذ تعاني منذ أكثر من عام تقريبًا من تعكير في الأجواء جراء النفوذ الإيراني المتصاعد داخليًا، وهو ما شكك في نوايا ماكرون الحقيقية من وراء تصدير هذا الملف على جدول أعمال زيارته الخليجية، إذ يبدو أن الأمر له أبعاد أخرى في جعبة مهندس الصفقات الفرنسية الحالم بولاية رئاسية ثانية.
ليست جديدة
المبادرة المعلنة التي استندت في فحواها إلى مرتكزات الالتزام باتفاق الطائف الذي رعته الرياض عام 1989، تضمنت العديد من البنود والمحاور التي يرى البعض صعوبة تنفيذها على أرض الواقع، لا سيما أنها تتعلق بمسارات باتت ثوابت ضالعة في الهيكل السياسي السلطوي في لبنان.
حيث تضمنت ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإصلاحات شاملة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود، مع الالتزام بقرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 والقرارات الدولية ذات الصلة، والتأكيد على عدم زعزعة لبنان لأمن واستقرار المنطقة من خلال الأعمال الإرهابية أو تجارة المخدرات، مع إنشاء آلية سعودية فرنسية للمساعدة الإنسانية تخفيفًا لمعاناة الشعب اللبناني.
ترى “لوفيغارو” أنه من الصعب أن تتمكن تلك المبادرة التي ولدت ميتة في إحداث تسوية شاملة في ملف الأزمة، لافتة إلى أن السعودية الداعم التاريخي للطائفة السنية، لم تعد تريد مساعدة لبنان سياسيًا واقتصاديًا في ظل سيطرة حزب الله الشيعي على المشهد الداخلي
ومن أبرز النقاط التي تعتبر عقبة أساسية في تمرير تلك المبادرة، حصر السلاح بمؤسسات الدولة وتعزيز دور الجيش اللبناني حفاظًا على أمن واستقرار البلاد، وهو الملف الذي لم يراوح مكانه منذ 2004 وحتى اليوم، في ظل إصرار حزب الله على امتلاك السلاح بمعزل عن الجيش النظامي اللبناني.
البعض يرى أن المبادرة برمتها ليست جديدة، بل تكرار واستنساخ لقرارات المجتمع الدولي، أبرزها القرار رقم (1559)، الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته 5028 المعقودة في 2 سبتمبر/أيلول 2004، الداعي إلى حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها وبسط سيطرة الحكومة على جميع الأراضي اللبنانية، هذا بخلاف تطابق تلك البنود مع ما تم طرحه قبل ذلك في أعقاب تفجير مرفأ بيروت 2020.
مبادرة #ماكرون لحل الخلاف بين #لبنان ودول خليجية تثير تساؤلات على المنصات عن المستفيد الأول وتشكيك في نجاعتها وأهدافها#نشرتكم pic.twitter.com/6B41QIUOQp
— نشرتكم (@Nashratkom) December 5, 2021
ولدت ميتة
يمكن وصف المبادرة بصيغتها تلك بأنها ليست أكثر من خطوة دبلوماسية لا ترتق لمستوى الحراك الفعال، وعليه يمكن القول إنها “ولدت ميتة” في ضوء ما تتضمنه من عراقيل وتحديات وصعوبات تجهضها في طور الولادة، وهو ما دفع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية إلى التساؤل عن نجاح ماكرون في إقناع ولي العهد السعودي في التخلي عن موقف بلاده إزاء بيروت وعودة المساعدات المقدمة للشعب اللبناني.
الصحيفة وتحت عنوان “فرنسا والسعودية إلى جانب لبنان” لفتت إلى أن الرياض رفضت مقترحًا ماكرونيًا بدعوة رئيس الوزراء اللبناني للقاء يجمعه مع ابن سلمان والرئيس الفرنسي، وهو ما دفع ماكرون للاكتفاء باتصال هاتفي أجراه مع ميقاتي، الأمر الذي يعكس إصرار السعودية على استمرار موقفها إزاء بيروت رغم استقالة قرداحي، السبب الرئيسي في الأزمة، ظاهريًا على الأقل.
الإيحاء بدور فرنسي في حلحلة الأزمة السعودية اللبنانية ربما يعيد باريس للمشهد الخليجي والشرق أوسطي مرة أخرى بعد تراجع واضح خلال الأعوام الماضية، وهو الدور الذي ربما يغازل به ماكرون الشارع الفرنسي قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة
وترى “لوفيغارو” أنه من الصعب أن تتمكن تلك المبادرة التي ولدت ميتة من إحداث تسوية شاملة في ملف الأزمة، لافتة إلى أن السعودية الداعم التاريخي للطائفة السنية، لم تعد تريد مساعدة لبنان سياسيًا واقتصاديًا في ظل سيطرة حزب الله الشيعي على المشهد الداخلي، مستندة في ذلك إلى عدة شواهد منها عدم حضور الرياض المؤتمر الدولي لمساعدة الجيش اللبناني الذي نظمته فرنسا في يونيو/حزيران الماضي.
وفي الجهة المقابلة فإن المبادرة أغفلت بشكل واضح حزب الله، وهو أحد الأضلاع الرئيسية في منظومة الحكم في البلاد، والرافض شكلًا ومضمونًا لأي اقتراب من أي نوع من الأنواع إزاء ترسانته التسليحية التي يراها عنوان بقائه الأبرز على الساحة في ظل المحاولات الإقليمية الرامية إلى تجريده من هذا الغطاء.
وتعتبر الصحيفة الفرنسية أن تلك المبادرة التي وصفتها بـ”الإنجاز الخجول” ستقلل نسبيًا من حدة الانتقادات التي تعرض لها ماكرون بسبب لقائه محمد بن سلمان الذي يراه تيار كبير من الساسة الفرنسيين من “صادق” على جريمة اغتيال خاشقجي، الذي يعاني من شبه عزلة غربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فماكرون بات أول زعيم غربي يأتي ويصافحه في السعودية.
لبنان.. ليس الهدف
في ضوء استحالة تنفيذ المبادرة الفرنسية المستنسخة من القرارات الدولية قبل أكثر 17 عامًا، بات من الواضح أن لبنان ما كان الهدف من تلك الجولة، وأنه لم يكن أكثر من باب كبير لتمهيد الدخول إلى الخليج على ظهر جواد أبيض، يستطيع من خلاله ماكرون إحياء نفوذ بلاده وتعزيز أقدامها بعد سحب البساط لصالح قوى أخرى خلال السنوات الماضية.
كان الاقتصاد على رأس جعبة الأهداف التي حملها الرئيس الفرنسي خلال تلك جولته الخليجية، على أمل الخروج من عنق زجاجة الوضع الاقتصادي المتأزم لبلاده خلال الآونة الأخيرة، الذي كان سببًا رئيسيًا في زيادة الاحتقان الشعبي ضده، وخروج الاحتجاجات على مدار الأعوام الثلاث الماضية.
عشرات الاتفاقيات التي أبرمها ماكرون خلال تلك الزيارة، أبرزها توقيع شركة “إيرباص” الأوروبية (مقرها فرنسا) صفقة لبيع 26 مروحية مدنية (20 منها من طراز “إتش 145” و6 من طراز “إتش 160″) إلى شركة سعودية، و12 مروحية عسكرية من طراز”كاراكال” إلى الإمارات، فيما لم يتم الإفصاح عن القيمة المالية لتلك الصفقات التي يتوقع أن تتجاوز المليارات.
كما وقعت شركة “فيوليا” الفرنسية العالمية الرائدة في مجال المياه، عقدًا لمدة سبع سنوات، لإدارة خدمات المياه والصرف في الرياض و22 مدينة مجاورة، بقيمة 82.6 مليون يورو، بحسب الشركة الفرنسية، كما أبرمت “اتفاق شراكة إستراتيجية” مع وزارة الاستثمار السعودية “لتحسين الأداء التشغيلي والتجاري وفي مجال الطاقة لقطاع المياه في أنحاء البلاد”.
#صور_واس | سمو #ولي_العهد والرئيس الفرنسي يبحثان آفاق التعاون الثنائي وفرص تطويره وفق رؤية المملكة 2030.#ماكرون_في_جدة#واس pic.twitter.com/CmdP2TBfDY
— واس الأخبار الملكية (@spagov) December 4, 2021
يذكر أن تلك الشركة الفرنسية ذات روابط قوية مع مجموعة أرامكو السعودية النفطية العملاقة، فقد أصبحت “الشريك الحصري لأرامكو في معالجة نفاياتها الصناعية والعادية، أي 200 ألف طن سنويًا تُضاف إلى 120 ألف طن من النفايات الخطرة التي تتكفل بها أصلًا فيوليا” بحسب فرانس 24.
الإيحاء بدور فرنسي في حلحلة الأزمة السعودية اللبنانية ربما يعيد باريس للمشهد الخليجي والشرق أوسطي مرة أخرى بعد تراجع واضح خلال الأعوام الماضية، وهو الدور الذي ربما يغازل به ماكرون الشارع الفرنسي قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة والمقرر لها العام المقبل، في ظل الانتقادات التي تعرض لها مؤخرًا بشأن تراجع نفوذ بلاده إزاء أكثر من ملف إقليمي.
ورغم أن ماكرون لم يعلن حتى كتابة هذه السطور، ترشحه رسميًا للانتخابات القادمة، فإن كل المؤشرات تذهب إلى رغبته في تحقيق حزمة من الإنجازات والانتصارات على المسار السياسي والاقتصادي، تكون عنوانه الأبرز قبيل إعلان الترشح رسميًا، خاصة في ظل المنافسة الشرسة المتوقع أن يواجهها من مرشحي اليمين المتطرف.
وكما كان تفجير مرفأ بيروت العام الماضي باب ماكرون للعودة للمشهد اللبناني مرة أخرى، فإن الأزمة اللبنانية السعودية كانت النافذة الأبرز لاستعادة الحضور الفرنسي خليجيًا، ليبقى هذا التوجه البرغماتي الميكافيللي السمة الأبرز للرئيس الفرنسي الذي يثبت يومًا تلو الآخر أن التصريحات التي يتشدق بها ليل نهار بشأن الحقوق والحريات والديمقراطية ونزاهة توجهات بلاده الإقليمية ليست إلا شعارات لدغدغة المشاعر وتهدئة الرأي العام وتجميل الصورة المشوهة بسياسات تتجافى جملةً وتفصيلًا مع أخلاقيات السياسة ومبادئها الدولية.