ما زالت أصداء توقيع إيطاليا وفرنسا على معاهدة كويرينال للتعاون الثنائي تثير الكثير من الجدل، فالوثيقة تشابه في صياغتها ودلالاتها معاهدة الإليزيه بين فرنسا وألمانيا، التي صُمِّمت لإعادة بناء علاقتهما بعد الحرب العالمية الثانية وترميم العداء التاريخي بينهما، والتعاون على سحب البساط من المارد الأمريكي، وتهميش تدخلاته في الشؤون الأوروبية لإعادة الحياة والريادة للقارة العجوز.
معاهدة كويرينال
تعيش كل من فرنسا وإيطاليا حالة من اليوتوبيا الأوروبية، الغرام بالقيم الغربية الصارمة، والتورُّم في الذات القومية التي لا تتوانى عن مناطحة الجميع في سبيل الانتصار لها.
ولم تكن هناك وسيلة أفضل من المغازلة بالمصالح لتهدئة الأزمة، وانتهى البلدان إلى توقيع معاهدة كويرينال ورفع مستوى العلاقة الثنائية إلى درجة غير مسبوقة، من خلال تعاون عضوي في ملفات الشؤون الخارجية، والأمن والدفاع، والشؤون الأوروبية، وسياسات الهجرة والعدالة، والشؤون الداخلية.
سُمّيت معاهدة كويرينال على اسم القصر الرئاسي الفخم في روما، وتؤسِّس لتعاون سياسي بنيوي بدءًا من البرلمانات والمجتمع المدني وانتهاءً بالسلطة التنفيذية، وتشمل خطة التحالف اجتماعات مشترَكة لمجلسَي الوزراء الإيطالي والفرنسي، وقمّة ثنائية كل عام، والبحث المستمر عن موقف مشترَك في الاتحاد الأوروبي، وكذلك المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، وتعزيز العلاقات بين المناطق الحدودية وإنشاء لجنة تعاون عبر الحدود.
تضمن الاتفاقية أيضًا زيادة التعاون الأمني والدفاعي وإنشاء مجلس الدفاع والأمن الإيطالي الفرنسي، والذي سيجمع وزيرَي الخارجية والدفاع في البلدَين لتنسيق مواقفهما بشأن مبادرات الدفاع في الاتحاد الأوروبي، وتعزيز الركيزة الأوروبية لحلف “الناتو” وسهولة عبور القوات المسلحة من كلا البلدَين.
نصّت الاتفاقية أيضًا على التعاون الاقتصادي والصناعي والرقمي، والتنمية الاجتماعية المستدامة والشاملة، والفضاء، والتعليم والتدريب والبحث والابتكار، والثقافة والشباب والمجتمع المدني، والتعاون عبر الحدود.
ومن أجل تحقيق هذه البنود جرى توثيق التوقيع بأكبر رؤوس الحكم في الاتجاهَين، رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي، ورئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون بحضور رئيس الدولة الإيطالي سيرجيو ماتاريلا.
إيطاليا تحت السيطرة
بدأت قصة الاتفاقية قبل 4 سنوات بمباردة من الرئيس الفرنسي لحلّ الأزمة التي تفجّرت بين إيطاليا وفرنسا خلال حكومة كونتي الأولى عام 2018، وطرح ماكرون رؤيته لاتفاقية التعاون الثنائي، لكن العلاقات بين روما وباريس تدهورت بسبب الحكومة الإيطالية الشعبوية، وبلغت التوترات الثنائية ذروتها في أوائل عام 2019 عندما استدعت فرنسا لفترة وجيزة سفيرها بسبب خلاف يتعلق بالهجرة.
تبادلت الدولتان أيضًا حربًا كلامية ساخنة في عدد من القضايا، أبرزها الملف الليبي وتدفُّق المهاجرين والعلاقات الأوروبية، وسارعَ قادة البلدَين باتّهام كل منهما الآخر بماضيه الاستعماري وإذلاله الأفارقة واستعبادهم.
لكن في النهاية نجح ماكرون الذي يحلم بتسيُّد أوروبا، ونبشَ في ذاكرة فرنسا والكيفية التي عملت بها لحلّ الأزمة التاريخية مع ألمانيا بمعاهدة الإليزيه ووضعت حدًّا للصراع بينهما.
نسّق الرئيس الفرنسي وثيقة تشبهها مع إيطاليا لاستعادة الجوهر الجيوسياسي للقارّة الأوروبية، من خلال تصفية المشاحنات التاريخية مع روما، التي تعود أيضًا إلى نحو نصف قرن لعدة أسباب، على رأسها التنافس على أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، فضلًا عن التنافس الاقتصادي على الصناعات المختلفة داخل القارة الأوربية.
دهاء ماكرون جعل إيطاليا تلتزم أخيرًا بالتحرُّك الحذر أمام تحركات بلاده داخل القارة وخارجها، مقابل مساعدتها في التخلُّص من الاحتكار الألماني لأسواقها، ومساعدتها في إعادة بناء نفسها مرة أخرى بعد أزمة فيروس كورونا، التي أثبتت أن الدولة الإيطالية غير قادرة على مواجهة الأزمات أو التعامل مع التهديدات المباشرة.
ضمنت فرنسا بموجب المعاهدة تنازلات من روما بشأن ملفّات البحر الأبيض المتوسط والقارة الأفريقية التي جعلت العلاقة بينهما محتقنة طوال العقود الماضية، مقابل مساعدة إيطاليا في إعادة بناء القطاع الصناعي والتقني، ما يعني أن الاتفاقية أوقعت بإيطاليا في دائرة النفوذ الفرنسي سواء في السياسة الخارجية أم في المجال الصناعي.
موقف أمريكا
تترقّب واشنطن بمزيد من الاستياء تحرُّكات التقارُب الأوروبية، التي من شأنها تعزيز ميلاد جبهة مشترَكة داخل أوروبا بعيدًا عن السيطرة الأمريكية، ولهذا تنظر باهتمام خاص إلى الجبهة الأمنية التي كانت دائمًا مسألة أمريكية خالصة، وأصبحت الآن بموجب الاتفاقية الجديدة من التزامات محور روما-باريس، التي تقرُّ بحماية الأمن الأوروبي المشترَك، وتعزيز قدرات أوروبا الدفاعية.
يدركُ البيت الأبيض تحرُّكات ماكرون منذ الصدام مع الرئيس السابق دونالد ترامب، الرامية إلى الاستقلال الاستراتيجي عن أمريكا والبحث عن حكم ذاتي وتحقيق سيادة كافية تمكّن أوروبا من توجيه المستقبل كما تريد، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.
لكن ما يريح واشنطن هو التعامل الأوروبي الصارم مع الصين، حيث يتضمّن الاتفاق الاستراتيجي بين فرنسا وإيطاليا السعي للاستقلال على المستوى الرقمي والتكنولوجي، وتقليل احتكار بكين وتايوان وكوريا الجنوبية لهذا القطاع.
الولع بالتجربة الألمانية الفرنسية
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والعلاقة المتكاملة بين ألمانيا وفرنسا هي النموذج الأوضح للتكامل الأوروبي، حيث أسالت نتائجها لُعابَ القوى الأوروبية للدخول في تحالف مماثل مع أي منهما، لكن خروج أنجيلا ميركل والضبابية حول مستقبل المشهد الألماني، جعلَ الجميع يهرول للدخول في تحالف مع فرنسا التي تحتفظ بثباتها حتى الآن.
تتفوق باريس في مجالات الأمن والدفاع والهجرة والقطاعات الاستراتيجية، بما في ذلك الـ 5G والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الكلّي، ولها اليد الطولى حتى الآن في تحديد أولويات الشؤون الأوروبية، والتحالف معها يعني ضمان دور استراتيجي في الاتحاد الأوروبي بعد أن أصبح ماكرون أهم زعيم أوروبي بعد خروج ميركل، التي كانت أهم زعيم سياسي في القارة الأوروبية منذ عام 2005.
ما يضيف الكثير من التوهج للمعاهدات الثنائية، هو تخوُّف الكثير من الحكومات الأوروبية من المستقبل الغامض للاتحاد الأوروبي، في ظلّ تزايد التشكيك فيه من جميع أنحاء القارة بعد خروج بريطانيا، وتصاعُد لهجة الحكومات الطاعنة في نزاهته وقدرته على قيادة دول القارة وسط التحديات العالمية وموجة الهجرة غير الشرعية، ويترأّس هذا الحلف بولندا والمجر.
انعكاسات التحالف على الملف الليبي
ليس خافيًا أن التحالف الجديد بين فرنسا وإيطاليا لن يكون موجّهًا للداخل الأوروبي فقط، فالبلدان لهما مصالح في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وبين كل الملفات يبدو الملف الليبي هو المعني أكثر من غيره بهذا الاتفاق، حيث لم تحقِّق فرنسا ما أرادته من بلاد عمر المختار منذ سقوط معمر القذافي عام 2011.
على مدار العقد الماضي كانت إيطاليا تزاحم فرنسا وتكشف للغرب سياسات الإليزيه في اللعب على كل المتناقضات، حيث تجري حوارًا مع حكومة الغرب وتدعم في الوقت نفسه خليفة حفتر دون أي احترام للمصالح الغربية في ليبيا وخاصة إيطاليا، التي كانت تقف على النقيض تمامًا بدعم المؤسسات المنتخَبة والسياسات التركية وترفض حفتر.
لكن الآن لن تكون روما بالشراسة نفسها التي عطّلت بدرجة كبيرة أهداف باريس في طرابلس، لهذا استعدّت فرنسا جيدًا بدور نشط في الملف الليبي على مدار الأشهر الماضية، وأعادت فتح سفارتها في مارس/ آذار من العام الحالي بعد 7 سنوات على إغلاقها، لإظهار دعمها للسلطات الليبية الموحدة المنتخَبة ديمقراطيًّا.
تريد فرنسا من الاتفاق مع إيطاليا تحقيق عدد من الأهداف، على رأسها ملاحقة التيارات الإسلامية وضمان عدم وصولها إلى القارة العجوز عبر المتوسط، سواء من شمال أفريقيا أم من منطقة الساحل، بجانب حماية مصالحها الاقتصادية وعمليات التنقيب عن النفط وإنتاجه لشركة توتال الفرنسية.
كما يرغب ماكرون في منح الشركات الفرنسية نصيب الأسد من مشاريع إعادة الإعمار الجارية حاليًّا، في قطاعات النقل والصحة والمالية والاتصالات والمياه والصرف الصحي والإسكان والتخطيط الحضري والتنمية والأعمال التجارية والزراعية؛ وبإبعاد إيطاليا عن طريق التنافس وتشكيل تحالف معها، حيث قد يمكّنهما ذلك من المنافسة بشراسة أمام الشركات التركية والمصرية.
مقابل ذلك، ستعمل باريس على إرضاء روما بالالتزام بالمسار الديمقراطي، ليس فقط لإعادة تدعيم صورتها الذهنية والالتزام بالأعراف الأوروبية التي ترفض الانقلابات العسكرية ودعم الديكتاتوريات، لكن لأنها أيضًا تعلّمت من فشل تجربتها مع حفتر، الذي لم ينجح في احتلال طرابلس رغم حصاره لها لأكثر من عام بفضل الدعم التركي المفتوح، ما أجبرَ باريس على تغيير استراتيجيتها، والالتزام بالمسار التفاوضي والقانوني الذي ترعاه الأمم المتحدة لإنجاح الانتخابات الرئاسية المقرَّرة في 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ما يعني الحصول على فرصة جديدة في محو أخطاء الماضي.