“حلمي أن أوصَف بأني مواطنة، وأن أقف في طابور انتظار بالمؤسسات الحكومية على الجانب المخصَّص للمواطنين لا للوافدين، أحلم أن يكون لي رقم وطني، وأن لا تُقصيني البلاد، التي أقيم فيها دون أن أحمل جنسيتها، من التعليم والوظائف، رغم شعوري بالانتماء والاندماج لكني خُذلت منها ومن وطني الحقيقي.. أمنيتي الصغيرة أن أملك جنسية جديدة تمنحني دفء الوطن ولا تلفظني من خوفها”.
هذه أقصى أمنيات ولاء البيطار، فقد وُلدت خارج حدود وطنها، ولا يزال صراع أفكارها يتردّد بين الفينة والأخرى عن الهوية والانتماء، وما زال يلازمها مع طول زمن الاغتراب.
وتكمل قصتها بأن عدد زيارات وطنها لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، تحت ضغط الضرورة القصوى لإنجاز بعض المعاملات الشخصية الهامة، ولم تشعر بميزات مُواطَنتها لتضاعُف عدد الإجراءات وتعقيدها عن غيرها، بحكم أنها ابنة شخص ممنوع أن يعود لوطنه بسبب نشاطه الفكري والسياسي.
تقول: “الحرية الفكرية عندما تغدو تُهمة، تجعلني لا أشتاق لزيارة وطني الأصلي لما يحمله قلبي من غصة جارحة، وأنتظر أن تنتهي زيارتي لأعود إلى الوطن الذي اختاره والدي كي نعيش بكرامة وأمان”.
قصة ولاء البيطار واحدة من حكايات يرويها عدد من أبناء الدول العربية بسبب هجرتهم من أوطانهم، أو ولادتهم في وطن جديد، إما في داخل حدود الدول العربية وإما خارجها في باقي دول العالم، دون الحصول بالضرورة على جنسية الدولة الجديدة.
هجرة وحياة جديدة
تعود أسباب الهجرة إما عنوة لأسباب سياسية وفكرية تستدعي خروج الشخص إلى دولة أخرى لعدم قدرته على ممارسة نشاطه، وإما لظروف حرب استدعت قلّة توفُّر الأمان للمدنيين، وفي بعض الأحيان بحثًا عن فرص عمل جديدة لتحسين المورد المالي، ويسعى آخرون لإكمال الدراسة الأكاديمية ثم الاستمرار في العيش بالبلد الجديد.
هذه الظروف على اختلافها، خلقت حالة تغيُّرات جديدة على أسلوب حياة هؤلاء المهاجرين وأبنائهم، وبعض الهجرات استمرّت على امتداد أجيال متعاقبة في دول الهجرة، أدّت إلى تداول مفاهيم جديدة، خلقت لديهم صراعًا فكريًّا ونفسيًّا ترجمته التصرفات وأنماط المعيشة، تندرج في معاني الهوية والانتماء والمواطنة، ما أدّى إلى نشوء هويات مركّبة لا تدرك النفس كنهها ومآلاتها.
مفاهيم مختلفة للهوية
الهوية في أبسط تعريفها هي مجموعة من الصفات الشخصية الموروثة في شخصية كل فرد منا، هذه الصفات تُعتبر سمات مميزة لكل فرد عن الآخر، وكما يراها المفكّر الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد، الذي عاشَ إحساسًا بعدم الانتماء، فإن هذه الصفات تُعتبَر سمات مميَّزة لكل فرد عن الآخر، وذلك لتأثُّره بالعديد من العوامل في حياته الفردية، فيقول: “إن الهوية من نحن؟ من أين جئنا؟ ما نحن؟”، فهو يرى نفسه أمريكيًّا وفلسطينيًّا بالوقت ذاته ولا يستقر على انتماء واحد، ويعتبرُ أن الشتات المكاني والنفسي بسبب الأحداث السياسية قد لعبَ دورًا في صياغة حياته عقائديًّا وفكريًّا.
أما الكاتب أمين معلوف يرفض حصر تعريفات الهوية والانتماء بالبلد الأمّ فقط، بل يتجاوز المكان الجغرافي، فهو لبناني الولادة والنشأة، وفرنسي الهجرة والإقامة، وكلا الدولتَين لهما ذات المكانة والتعلُّق لديه، وقد بيّن ذلك في كتابه “الهويات القاتلة”: “الهوية لا تتجزأ ولا تتوزّع أنصافًا أو أثلاثًا أو مناطق منفصلة. أنا لا أملك هويات عدة. بل هوية واحدة مكوَّنة من كل العناصر التي شكّلَتها”.
الهوية معرفة واطِّلاع
الصحفي الشاب أغيد شيخو، وهو سوري كردي يحمل الجنسية التركية، يرى أن الهوية تُبنى على المعرفة والاطِّلاع على ثقافات الشعوب الأخرى، لتنجلي بها إشارات الاستفهام وتداعياتها على القرار والأفكار، ويضيف: “هذا بالضبط ما يعنيه لي الحصول على جنسية أي بلد آخر، غير الذي ولدت فيه”.
ويوضّح شيخو أن الشخص السوري كان من الممكن أن يولد ويحمل جنسية أي بلد آخر بالولادة، دون أي اختيار منه، لذا يُقال دائمًا في المثل الدارج إن تمرّدَ الفرد على عائلته أننا “مع الأسف لا نختار عائلاتنا، ولا هم يختاروننا”، لذا لا تحمل “البطاقة الشخصية” أو “جواز السفر”، كما يرى شيخو، أي أهمية يمكن الحديث عنها في تحديد مدى انتماء الشخص للبلد الذي يحمل جنسيته، لكونهما ورقة لتسهيل الأمور الإدارية لا أكثر، ويعتقد أنه في سوريا كثيرًا ما تبرز هذه الحالة من الانتماء أو اللاانتماء.
وبعد حصول شيخو على الجنسية التركية، يجد أن الفيصل في تحديد مفهوم الانتماء هو الجانب المعرفي، وذلك عبر “مدى الرغبة بالتعرُّف إلى الثقافة الجديدة التي انتمى إليها الفرد (إداريًّا) بحصوله على الجنسية، وبالتالي تساعده هذه المعرفة في جعل الآخر أكثر وضوحًا وبالتالي تقبُّلًا لدينا، في الوقت الذي يبعدنا الجهل عنه ويبعده عنا”.
هذه أقصى أمنيات ولاء البيطار، فقد وُلدت خارج حدود وطنها، ولا يزال صراع أفكارها يتردّد بين الفينة والأخرى عن الهوية والانتماء، وما زال يلازمها مع طول زمن الاغتراب.
خليط بين الماضي والحاضر
تشاركنا لبابة طعمة حواراتها الذاتية عن ثنائية الهوية، فهي سورية المولد قضت طفولتها في الأردن وأنهت الدراسة الأكاديمية فيها، ثم انتقلت إلى بريطانيا وكوّنت أسرتها هناك إلى أن حصلت على الجنسية البريطانية أو ما نسمّيه الهوية الجديدة.
تقول: “الحديث الداخلي متناقض، فهو خليط بين الماضي والحاضر.. بين الماضي الذي تربّيت عليه من مبادئ وقيم، ثم شعارات وعادات وتقاليد، ثم قوانين فرضتها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية؛ والحاضر الذي يجود عليّ بالكثير من الأمور التي أحبّها من حرية شخصية ومجتمعية، ومبادئ وعادات تغيّرت في فكري وطبيعتي مع مرور الزمن”.
لذلك تنحاز طعمة إلى البلد الذي تعيش فيه والذي منحها الاستقرار والجنسية، وانطوت مع مرور الزمن الهوية القديمة، وبحسب رؤيتها “الانتماء إلى وطن بعيد جدًّا لم نرَه ولم نَعِشْ فيه وتضاءل الأمل في رؤيته وزيارته مجددًا”.
كما أن طعمة لا تقتنع بالشعارات الوطنية والحماسية التي تعظّم مفهوم الوطن والوطنية، والتضحية من أجل العيش داخل قدسية وطن “لا يعطي” بالمقابل عُشر ما تتحمّل منه وما تعانيه داخله من فقر وخوف وجهل؛ إلا أنه رغم ذلك تعتزّ طعمة بارتباطها بوطنها الأصلي (سوريا)، وتفتخر به ثقافيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا، كما تحرص على تعزيز مفهوم الوطن في تربية بناتها.
ومن وحي هجرات طعمة المتعددة، تصوغ تعريفًا للوطن هو “المكان الذي يعطيك مقابل ما تمنحه من تضحية وعمل وبناء، أقلّها يعطيك الكرامة والأمان”، ولم يعنيها الوطن كمحيط مادّي و”مزرعة لعائلة أو ثُلّة فاسدة”، بل كيف ترفع من قيمته وهي في غربتها، وأيضًا “كيف أُري الناس وأُشعرهم بالبصمة السورية التي أحملها، وفي المقابل أحترم الدولة التي أعيش فيها وألتزم بواجباتي تجاهها لأنها تحترم حقوقي وترعى مصالحي، وهذه هي المواطنة”.ذ
لا تعتبر طعمة أن الجنسية هي ما تولّد الاندماج مع الآخرين بكل أطيافهم، بل الغربة هي من تولّد الاندماج وتقبُّل آراء الآخرين وتساعد عليه وتفعِّلُه، وقد توصّلت طعمة إلى ذلك مع طول فترة غربتها وتنوعها، فترى الغربة بأنها “تصوغ الشخصية بطريقة مختلفة ومنفتحة على العالم الواسع، ومتقبِّلة للآراء والأفكار المتنوعة ومصدرها، ومترجمة لأفكارها وثقافتها الدينية والثقافية والاجتماعية، أما الجنسية دورها بالاستقرار مع كل هذا وذاك”.
ثلاثية الدولة الحقيقية
“سيادة القانون” و”احترام كرامة الإنسان” و”قيمة المواطنة”، ثلاثية الدولة الحقيقية التي تجلّت أمام ناظرَي الإعلامي الفلسطيني عدنان حميدان، عند الحصول على الجنسية البريطانية بعد 6 سنوات من الهجرة إليها.
يقول: “أدركت أن الدولة الحقيقية التي تتجلى بها قيمة المواطنة بحقّ، هي التي تعطي للمواطن فيها قبل أن تأخذ منه، وهي التي لا تفرِّق بين مواطن وآخر بناءً على أصل أو لون، وعندما ترى أن السيادة هي للقانون حينها تدركُ معنى الوطن ذلك الذي يجعلك تنتمي إليه بما يقدّمه لك قبل أن يطلب منك أن تقدّم له شيئًا، كما وجدت احترام كرامة الإنسان لأنه إنسان، وكيف أصبحت عدة دول عربية ترحّب بي دون إجراءات معقّدة لنيل تأشيرة لدخولها”.
مع ذلك يؤكد بأنه لا وجود للمدينة الفاضلة ولا لنظام بشري كامل، ولكن تبقى الأخطاء والممارسات الشاذة استثناءً لا أصلًا.
الهوية البريطانية لم تقف سدًّا عن حلم حميدان في العودة إلى فلسطين المحتلة، فهو يراها “البلد الذي ولد آبائي فيه، هو وطني الأصلي في فلسطين المحتلة والتي يبقى الحلم بالعودة إليها واقعًا ومشروعًا نمني النفس به كل صباح ومساء، ونسعى له بجهد وعزم دون ملل أو كلل ما حيينا”.
ويضيف أنه لا ينسى فضل الأردن الحاصل على جنسيتها كذلك، فهي “البلد الذي ولدت به وترعرعت ونشأت على شرب مائه وأكل طعامه وتنفُّس هوائه واحتضان ترابه فضلًا عن حمل جنسيته”.
كذلك الهجرة لم تبعد حميدان عن حرصه على التضامن والوقوف مع قضايا هويته الأمّ، ويؤكد توفُّر جوّ من الحرية في دعم القضايا العادلة: “حينما قدمت إلى بريطانيا ورأيت مظاهر التضامن مع كل القضايا العادلة على المستوى الشعبي، ومع كل الشعوب المظلومة على أقل تقدير، وهذا كافٍ”.
ثم يقارن حميدان مستوى الحرية في بريطانيا وبعض الدول العربية، في ممارسة الأنشطة وإقامة حفلات الحفاظ على التراث فيها ورفع الأعلام: “لقد كنا في بعض الدول العربية لا نجرؤ على رفع علم فلسطين أو نرفعه إلى جانب علم الدولة المستضيفة لنا، بينما الآن في بريطانيا نرفع أعلام فلسطين فقط ومن يرفعها هم الإنجليز الأصلاء ولا أحد يستنكر عدم رفع علم بلاده”.
ويؤكد حميدان أهمية التوازن بين الحفاظ على الهوية والاندماج في المجتمع، وقد وصفه بـ”اندماج دون ذوبان”، وذلك عبر حرص المرء على الحديث مع المجتمع الذي يعيشُ به بلغة ذلك المجتمع قدر الإمكان، ويندمج معهم ويتفاعل، ولكن يحافظ على تقاليد أسبوعية أو شهرية للحفاظ على عادات بلاده وتقاليدها ويعزّزها مع أسرته، فهو يراهم “بريطانيون متضامنون مع فلسطين وليسوا فلسطينيين يحملون جنسية بريطانية، ولا أعمِّم فلكل منهم شخصية وموقف يمتاز بهما، ويزداد انتماء أبنائنا مع ارتفاع الصوت النضالي وينخفض بانخفاضه”.
ثم سألنا حميدان: “ماذا تفعل إن أساء أحدهم لهويتك الأصلية؟”، ليجيبَ: “لا أنفعل ولا أتوتر مطلقًا لأنني لست قاضي العالم ولا مُصلح الأمة، أحاول أن أفهم سبب استيائه، حيث لا شك أن هناك من أقراني وأبناء وطني الأصلي من يسيئون بتصرفاتهم، ويساعدون الآخر على أخذ فكرة سلبية، ودوري أن أحاوره لتصحيح مفهومه أو أثبت له عمليًّا بأخلاقي أنني شخص مختلف ولست وحدي بل هناك أمثالي كثيرون من الطيبيين في مجتمعي”.
مفهوم الهوية
ونخلصُ من جميع التجارب مع نقاطها المشتركة والمختلفة على وجود أبعاد نفسية واجتماعية وأخرى فزيولوجية، يحدِّد سياق فلسفتها الاختصاصي النفسي والتربوي الدكتور إبراهيم بوزيداني، ويرتّبها تدريجيًّا بدءًا من مفهوم الهوية التي تنشأ عن تراكمات معرفية وعاطفية وفكرية وثقافية ووجدانية، وحتى جسدية وفزيولوجية، وكل ما يحيط بالإنسان بداية من الهواء والطعام الذي يأكله إلى اللعب والسلام وطريقة الجلوس وغيرها، التي تساهم كلها في بناء الهوية.
ويبيّن بوزيداني أن الهوية تتكون في عمر الـ 3 سنوات، عندما يصبح الفرد يدرك هل هو ذكر أو أنثى، ثم يطوِّر معارفه بنفسه ثم مع أسرته، ويستمر إلى أن يصل إلى عامه الـ 12، وعند دخول الفرد فترة المراهقة، وهي الفترة التي يبدأ الشاب فيها بناء مفهومه عن الحياة وهويته الذاتية المتعلقة بنظرته لمعاني الأمور التي تدور حوله، إلى أن يضع تفسيرات لكل الأحداث الشخصية والأسرية ودولته والعالم، وفق نظرة تُبنى من خلال مسار جاء من ميلاده إلى اللحظة التي أصبح يفكّر فيها.
ويكمل بوزيداني بأن الإنسان بعد ذلك “يتّسع لديه الجانب المعرفي والاطِّلاع بالتالي هويته التي سيحدث فيها التغيير والاتّساع، ثم يعدّل بعض الأشياء ويبدّل بعضها وفق نظرته وفكره وتعامله”.
لكن الاتّساع المعرفي قد لا يسير بشكل طردي، بل عكسي قد يؤدي إلى التصادم، وهذا ما يبيّنه بوزيداني، ففي الحالة السليمة أعطى الفرد المحيط الجديد نوعًا من القراءة الجديدة للحياة، فيبقى على الأصل الذي تربّى عليه ويُضاف بعض المستجدات في الوطن الجديد، لكن هذا قد يدفع الفرد في بعض الأحيان إلى التشبُّث بالهوية الأصلية إذا وقع بالصدام مع الهوية الجديدة، فكما يوضِّح بوزيداني: “طبيعة الوطن الجديد الذي ذهب إليه الإنسان قد يكون متوافقًا إلى حدٍّ ما مع الكثير من الأمور الاعتقادية والثقافية والاجتماعية ويقبلها، والبعض الآخر تخالفه ويرفضها”.
ويسترسل بوزيداني بعوامل حدوث حالة التصادم في البيئة الجديدة، وما يتعلق بالجانب الروحاني والثقافي العميق، بما فيه الدين وغيره من جوانب الحياة الاجتماعية: “إذا وُجد الصدام أو التعارض الشديد، ينكفئ الشخص إلى هويته الأصلية، ويتعامل مع المحيط الجديد بثقافة التبادل المصلحي أو المنفعة، ويحكم درجتها بحسب طبيعة الشخصية ودرجة قدرته على التقبُّل”.
ويفرّق بوزيداني بين 3 أنواع من التوجّه الجديد لمفهوم المواطنة بدول المهجر، والتي تأتي وفقًا للظروف الدافعة لتغيير الإنسان وطنه، فإذا لجأ الفرد إلى وطن بعدما دُمِّر وطنه الأصلي، هؤلاء الأشخاص سيكون لهم ولاء شديد للوطن الجديد، بسبب مشاعرهم النفسية بأن خياراتهم محدودة، وأن ما يعيشونه فرصة لبناء حياة جديدة.
ومن متطلّبات البقاء في الوطن الجديد هو “تبنّي تفاصيل الوطن الجديد والمحافظة قدر الإمكان على الهوية القديمة، ويتخلّص ممّا يراه ثانويًّا فيها ويحافظ على الأصول فقط، ثم يتبنّى الكثير من جزيئات الوطن الجديد وتفاصيله كي يستطيع الحصول على لقب المواطنة والقبول في الوطن الجديد، وهذا النوع الأول كما يصنّفها بوزيداني.
لكن إذا كان الإنسان محظوظ في العودة إلى وطنه الأصلي، هنا تكون مفهوم المواطنة لديه مواطنة جزئية، لأن هناك خطوط عودة دائمة لهويته الأصلية، والقناعات هنا أقل ممّا عليه في الحالة الأولى.
وهناك نوع ثالث من المواطنة يوضّحه بوزيداني بما يسمّيه بالمواطنة الأخلاقية، وهي “قائمة على القيم التي يتبنّاها الإنسان وهو صغير، ويحاول أن يقوم بواجبه كإنسان في المكان الذي استضافه، فيصبح مواطنًا إيجابيًّا بناء على قيمه وأخلاقه، وينظر إلى الدولة الجديدة والسلوكيات الجديدة بناء على بُعد أخلاقي، بعيدًا عن المصالح والفوائد التي يجنيها”.
الاندماج
ومهما كان نوع المواطنة التي يندرج ضمن أُطرها الفرد، يفصّله بوزيداني بأن هناك شعورًا ينتاب الإنسان بالانتماء الاجتماعي والنفسي والروحاني، تحدِّده المعاملة في المجتمع الجديد التي لها دور عميق في بناء نهج تفكير سليم وتحقيق الإيجابية، وإن كان الإنسان يتمتّع بالتفتح الفكري هذا سيجعله أكثر قبولًا للاختلاف والقدرة على التعايُش، وإدراك التمايزات الثقافية بينه وبين الآخر.
أما على الصعيد النفسي، يضيف بوزيداني: “إن كان الفرد يتمتّع بظروف نفسية واجتماعية إيجابية ضمن البيت والعمل، ولديه نوع من الاستقرار والأصدقاء والمورد المالي، هذا الأمر سيساهم في بعث روح الإيجابية ضمن الثقافة الجديدة، بالتالي عناصر الهوية الجديدة وشعور المواطنة قد يكون عاليًا”.
ورغم كل ما تمليه الغربة من قسوة أو فضاء رحب، يفضّل الشاعر محمود درويش التعايش السلمي بين الوطن الأمّ والمهجر، فكلاهما له فضاؤه وحدوده، وهنا نقتطع جزءًا من قصيدته “طباق”، التي يخاطب بها رفيقه الكاتب إدوارد سعيد في مدرسة الأدب والهوية، يقول: أنا من هناك. أنا من هنا ولستُ هناك، ولستُ هنا. لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان… ولي لُغَتان، نسيتُ بأيِّهما كنتَ أحلَم، لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِ طيِّعةُ المفردات، ولي لُغَةٌ من حوار السماء مع القدس، فضيَّةُ النَبْرِ لكنها لا تُطيع مُخَيّلتي.