قبل عقدَين من الزمن، نجحت الحكومة الإيرانية في كبح معدلات المواليد، واتّبعت برامج تنظيم طوعية للأسرة اعتُبرت الأكثر فاعلية في العالم، ووزّعت حبوب منع الحمل مجانًا، وقدّمت الخدمات الصحية للنساء، ودرّسَت في الجامعات مادة التربية الجنسية.
اليوم، تروِّج إيران لطفرة المواليد للمساعدة في تعويض سكانها الذين يشيخون، حيث يتبنّى البرلمان قانونًا جديدًا ينسف كل نتائج المرحلة السابقة، ويوقف كل أشكال الدعم الخاص بتنظيم الأسرة، ويعرِّض المرأة لانتهاكات جسيمة، فما الذي حدث طوال هذه الفترة؟
ماضٍ معادٍ للإنجاب
كانت إيران رائدة في إنشاء برنامج رسمي لتنظيم الأسرة عام 1967، رغم ذلك ظلَّ معدل الخصوبة فيها مرتفعًا، فقد بلغ عدد الأطفال نحو 6.5 لكل زوجَين عام 1970 وفقًا لأرقام الأمم المتحدة.
في فترة الثمانينيات، دفعت الحرب الشاقة مع العراق حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتشجيع الناس على إنجاب المزيد من الأطفال للمساهمة في القوة البشرية، وقدّمت حوافز اقتصادية للقيام بذلك، وتحدّث مؤسِّس الجمهورية الإسلامية، آية الله روح الله الخميني، في ذلك الوقت عن إنشاء جيش قوامه 20 مليونًا.
نجحت الحملة، وقفزَ عدد سكان إيران خلال عقد من الزمن (من عام 1976 إلى عام 1986) بنسبة 50%، من 33 مليونًا إلى 50 مليونًا، بمعدل نمو يبلغ 3.9% سنويًّا، وكان من بين أعلى المعدلات في العالم في ذلك الوقت، وفقًا لمكتب المرجع السكاني (PRB)، ومقرّه واشنطن.
في أواخر الثمانينيات، كان على السلطات السير عكس الاتجاه الذي حُدِّد بعد فترة وجيزة من الثورة الإسلامية عام 1979، خوفًا من أن يؤدّي النمو السريع في عدد المواليد إلى إعاقة الاقتصاد وفرض ضرائب على الموارد العامة.
بحلول عام 1990، قدّرَ الخبراء أن إيران يمكن أن تكون موطنًا لـ 140 مليون شخص إذا تُرك هذا المعدل دون رادع، لكن هذه المعدلات المرتفعة للمواليد خُفِّضت عبر وسائل منع الحمل المدعومة والتعليم الجماعي، ونشر شعارات مثل “أطفال أقل، حياة أفضل” و”طفل واحد جيد، اثنان كافيان” لدعم جهود الحكومة.
كانت إيران الدولة الوحيدة في العالم التي لا يستطيع فيها الأزواج الحصول على رخص الزواج، ما لم يثبتوا أنهم حضروا دروسًا في وسائل منع الحمل.
كان هناك فتاوى دينية، أو على الأخصّ فتوى من الخميني تجيز استخدام وسائل منع الحمل بمثابة “ختم إسلامي” للموافقة على هذه الممارسة للإيرانيين المحافظين، وشعرَ الأشخاص الذين كانوا يعملون في مجال تنظيم الأسرة أنهم كانوا يساعدون النساء على تجنُّب الحمل الذي لا يرغبن فيه.
في مطلع التسعينيات، تفاخرت إيران بإنشاء أول مصنع للواقيات الذكرية مدعوم من الحكومة في الشرق الأوسط، ووصلت منتجاته بكميات متنوعة إلى الإيرانيين، كذلك اتبعت الحكومة الإيرانية برامج تنظيم طوعية للأسرة اعتُبرت الأكثر فاعلية في العالم، فوسائل منع الحمل للنساء وغيرها من الوسائل -جنبًا إلى جنب مع النصائح والرعاية الصحية- معروضة للبيع، وتُقدَّم أيضًا مجانًا في مراكز الصحة الحكومية في جميع أنحاء البلاد، وكلَّف توريدها لشهر ما يعادل 10 سنتات في عام 1992.
كانت إيران الدولة الوحيدة في العالم التي لا يستطيع فيها الأزواج الحصول على رخص الزواج، ما لم يثبتوا أنهم حضروا دروسًا في وسائل منع الحمل، وفي عام 1993 أسقطت الدولة أيضًا بعض استحقاقات الأمومة لمن لديه أكثر من 3 أطفال، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض حادّ في معدل المواليد.
بخلاف استخدام غالبية الإيرانيين النشطين جنسيًّا وسائل منع الحمل الحديثة، ثمة طرق أخرى فُرضت على الرجال، فقد أجرت عيادة الشهيد الجعفري في طهران جراحة قطع القناة المنوية لما يقارب 30 ألف مرة، على الرجال الذين يشعرون أن لديهم بالفعل عددًا كافيًا من الأطفال لتمكينهم من تحديد النسل، كما قامت بتدريب الأطباء على إجراء عمليات مماثلة في أجزاء أخرى من البلاد.
أبدى رئيس مكتب صندوق الأمم المتحدة للسكان في إيران، محمد مصلح الدين، إعجابه بشدة نجاح إيران في استقرار نموها السكاني، ورأى أن الدول المتقدمة استغرقت ما يقارب من 35 إلى 40 عامًا للوصول إلى هذه المستويات المنخفضة من معدل المواليد، لكن إيران استغرقت أكثر من عقد بقليل.
يبدو هذا غير طبيعي في بلد إسلامي محافظ، حيث الكثير من القيود بسبب الدين، لكن هذا الانفتاح -الذي أصبح وقتها نموذجًا دوليًّا للنجاح- غيّر بشكل جذري الطريقة التي يفكّر بها الإيرانيون بشأن الأسرة، واختاروا عددًا أقل من الأطفال من أجل الحصول على ثقافة وتعليم أفضل وتحسين نوعية الحياة.
من تحديد النسل لسياسة تشجيع الإنجاب.. ما الذي تغيّر؟
على الرغم من أنَّ انخفاض معدل الخصوبة هو ظاهرة شائعة في أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط، إلا أنه كان أشد وطأة في إيران، حيث انخفض من 6.52 ولادة لكل امرأة إلى 1.99 في العقدَين الممتدَّين من عام 1982 إلى عام 2002.
هذه السياسة التي تكافح الارتفاع المطّرد في عدد المواليد، دعمها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، الذي له الكلمة الأخيرة في جميع شؤون الدولة، بينما جعل الرئيس آنذاك أكبر هاشمي رفسنجاني السيطرة على معدل المواليد جزءًا من خططه التنموية.
بحلول منتصف التسعينيات اضطرّت الحكومة الإيرانية إلى التراجع عن سياستها، ورأى المسؤولون أن هذه السياسة يجب أن تتوقف، وقال خامئني في اعتذار نادر في خطاب ألقاه في أكتوبر/ تشرين الأول: “أحد الأخطاء التي ارتكبناها في التسعينيات كان السيطرة على السكان. أخطأ المسؤولون الحكوميون في هذا الأمر، وأنا أيضًا كان لي دور. سامحنا الله والتاريخ”.
مباشرة بعد تعليقات خامنئي عام 2012، وضعت حكومة الجمهورية الإسلامية، بقيادة الرئيس محمود أحمدي نجاد، حدًّا لجميع مشاريع تنظيم الأسرة، وخفّضت ميزانياتها، واعتبرها الرئيس “مؤامرة غربية”، وأطلق سياسة تشجيع الإنجاب، ودعا إلى التثقيف حول تنظيم الأسرة في المدارس.
ركّزت استراتيجية حكومة أحمدي نجاد على وقف برامج السيطرة على السكان، وزيادة الحوافز المالية للزواج وإنجاب الأطفال والحدّ من الفوائد العامة للعائلات الكبيرة، ونقلت وسائل إعلام إيرانية عن وزيرة الصحة مرزية وحيد داستجردي، في أغسطس/ آب 2012، حديثها عن إلغاء ميزانية برنامج ضبط السكان نهائيًّا.
رغم هذه الجهود، ظلَّ معدل الخصوبة في إيران مستقرًّا عند 1.8 طفل لكل زوجَين، مقابل معدّل عالمي يبلغ 2.5، ووصل عدد السكان حينها حوالي 75 مليون شخص، أي أن عدد سكان البلاد قلَّ بمقدار 37 مليون نسمة مقارنة بمعدلات المواليد السائدة في فترة الثمانينيات، عندما بدأت الحملة القوية التي تدعمها الدولة.
خوفًا من استمرار انخفاض عدد السكان، غيّرت إيران من آليات مسارها بالكامل، فقد تمَّ التخلُّص من الواقيات الذكرية وعمليات قطع القناة الدافقة، وغيرها من وسائل تنظيم الأسرة المدعومة من الحكومة، واستبدلت في المقابل بالخُطَب التي تشيد بالعائلات الكبيرة والمناقشات حول تقديم العملات الذهبية لعائلات الأطفال حديثي الولادة.
بعد سنوات من سياسات رسمية كانت تدفع بالإيرانيين إلى عدم إنجاب أكثر من طفلَين، وافقَ مجلس صيانة الدستور، وهو هيئة الرقابة الدستورية الإيرانية، في يوليو/ تموز عام 2015، على مشروع قانون يحظر جميع أشكال وسائل منع الحمل الدائمة، والإعلان عن منتجات تحديد النسل، وأطلقت الحكومة موقعًا رسميًّا إلكترونيًّا لتسهيل الزواج، بعدما أصبح هناك نحو 11 مليون شاب أعزب من أصل 23 مليون إيراني مؤهّلين للزواج.
ويسمح القانون للحكومة بزيادة إجازات الأمومة إلى 9 أشهر من 6 أشهر ومنح الآباء إجازة لمدة أسبوعين، لكن هذه الحوافز لم تكن كافية، فثقافة الأسرة تغيّرت بغضّ النظر عن القدرة المالية والأمن الوظيفي، بحسب رئيس الإحصاءات الحكومية والبيانات الديموغرافية علي أكبر محزون.
كما تستهدف الإجراءات، بحسب الحكومة، على المدى البعيد زيادة عدد سكان البلاد -الذي يبلغ حاليًّا حوالي 85 مليونًا- ليصل إلى 150 مليونًا بحلول عام 2050، وفقًا لطموحات خامنئي الذي أعلنَ: “إذا تقدمنا بهذه الطريقة، سنكون بلدًا لكبار السن في مستقبل ليس ببعيد. لماذا يفضّل بعض الأزواج إنجاب طفل أو طفلَين؟ لماذا يتجنّب الأزواج إنجاب الأطفال؟ يجب دراسة الأسباب، كأن هناك تقليدًا للحياة الغربية ورثناه”.
عمدت منظمة الخدمة العامة للقوات المسلحة الإيرانية إلى اتخاذ عدة إجراءات لدفع الشباب إلى الزواج، ومنها تقديم جائزة الخدمة العسكرية للجنود المتزوجين.
ماذا عن حقوق المرأة؟
على مدى عقود مضت، بدت الحكومة الإيرانية مستعدة لتنفيذ خطة أكثر واقعية تبدأ بحلّ مشكلات مثل البطالة والسكن وتوفير فرص العمل، ومعالجة 3 ملايين زوج يعانون من العقم، فضلًا عن مكافحة سياسة الطفل الواحد دون الأخد في الاعتبار الآثار الجانبية الواقعة على المرأة الإيرانية.
رغم ذلك بقيَ النمو السكاني لإيران بطيئًا، ووصل عام 2020 إلى أقل من 1% مقابل 2.3% في العراق و1.6% في السعودية و2% في باكستان، وتوقّعت الأمم المتحدة أن متوسط أعمار الإيرانيين سيرتفع بحلول عام 2030 من 28 إلى 40 عامًا.
لذلك وافق مجلس صيانة الدستور الإيراني على قانون “تجديد شباب السكان ودعم الأسرة”، وهو خطة لـ 7 سنوات لمواجهة تراجع الإنجاب، ويضع قيودًا إضافية على إتاحة وسائل منع الحمل والإجهاض.
لتشجيع النمو السكاني، يُلزم القانون الحكومة بتقديم حوافز، بما في ذلك زيادة 7.5 أضعاف في مدفوعات استحقاقات الأطفال لموظفي الحكومة، والقروض من دون فوائد، والتخصيص المجاني لـ 150-200 متر مربّع من الأراضي للأسر الحضرية التي لديها أكثر من 3 أطفال.
التشريع الذي وافقَ عليه البرلمان في مارس/ آذار، وصادقَ عليه مجلس صيانة الدستور مؤخرًا، ويُنشَر في الجريدة الرسمية الشهر الجاري بحسب التوقعات، يحظر التعقيم المتمثّل في استئصال قناة فالوب، وقطع القناة الدافقة، كما يحظر التوزيع المجاني لوسائل منع الحمل في غير الحالات التي يهدِّد فيها الحمل صحّة المرأة.
واجهَ التشريع الذي أتى بسبب مخاوف من تراجع النمو السكاني في إيران الكثير من الانتقادات، التي رأت أنه ينتهك حقوق المرأة الجنسية والإنجابية ويعرّض حياتها للخطر، ووصفته وسائل إعلام محلية بأنه “شعبوي” في استخدام الحوافز المالية، وسيترتّب عليه عواقب وخسائر تمَّ تجاهلها.
وبحسب عضو اللجنة الوطنية لفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، الدكتور مسعود مرداني، فإن التشريع الجديد المصمَّم لتعزيز النمو السكاني في إيران سيزيد من الأمراض المنقولة جنسيًّا، عن طريق تقييد الوصول إلى وسائل منع الحمل مثل الواقي الذكري.
هذا القانون، كما يقول مسعود لصحيفة “إيران إنترناشيونال”، لن يؤدّي فقط إلى زيادة حالات الحمل غير المرغوب فيه والأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي، بل سيؤدّي أيضًا إلى ارتفاع حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية.
عقب الموافقة عن القانون الجديد، هاجمت منظمة هيومن رايتس ووتش القانون الجديد لتقويضه “حقوق وكرامة وصحة نصف سكان البلاد، وحرمانهم من الحصول على المعلومات والرعاية الصحية الإنجابية”.
قالت الباحثة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، تارا سبهري فار، في بيان إن قانون السكان الإيراني يمعن في انتهاك حقوق المرأة في الصحة الجنسية والإنجابية ويهدِّد صحتها وحياتها، مضيفةً أن محاولة زيادة النمو السكاني من خلال تقييد الحق في الصحة والخصوصية كان فهمًا وهميًّا لصنع السياسات.
في حين أن القانون الجديد لا يتضمّن حظرًا على فحوص ما قبل الولادة، فقد نصحَ الكثيرون بعدم تشجيعه. لم يتبنَّ التشريع الخطط التي وضعتها لجنة السكان والأسرة في البرلمان لحظر اختبارات الفحص أثناء الحمل لمعرفة ما إذا كان المولود مصابًا بمتلازمة داون، التثلث الصبغي 18، التثلث الصبغي 13، والتي كانت إلزامية ومجانية بشكل عام في العيادات العامة منذ عام 2001.
يبدو من الصعب تشجيع الإيرانيين على إنجاب المزيد من الأطفال في ظلِّ اقتصاد سيّئ الإدارة، تضرَّر من العقوبات الغربية التي يواصل الغرب تشديدها.
الحملة الحالية ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة مبادرات تنظيم الأسرة التي أُطلقت وسط ضجة كبيرة، فقد عمدت منظمة الخدمة العامة للقوات المسلحة الإيرانية إلى اتخاذ عدة إجراءات لدفع الشباب إلى الزواج، ومنها تقديم جائزة الخدمة العسكرية للجنود المتزوجين، وتتضمن رواتب خاصة وإجازات، إلى جانب وعود بتخفيض فترة الخدمة الإلزامية العسكرية للشباب الراغبين بالزواج.
ووسط عزوف كبير في أوساط الشباب عن الزواج والإنجاب، وصل الأمر اقتراح رجل الدين المحافظ محمد إدريسي فرض ضريبة “كبيرة” على الشباب الذين بلغت أعمارهم 28 عامًا دون أن يتزوّجوا، مشيرًا إلى أن الزواج يجب أن يصبح إلزاميًّا، في خطوة أثارت جدلًا داخل إيران.
لماذا تريد إيران زيادة عدد سكانها؟
يقول المدافعون عن سياسات النمو السكاني الجديدة إن الهدف من تشجيع الانفجار السكاني هو العودة إلى العائلات الإيرانية التقليدية الكبيرة، مع ضمان قوة عاملة قوية في نصف القرن المقبل.
هذا التغيير في سياسة التعامل مع معدل الخصوبة المتراجع يأتي وسط مخاوف من شيخوخة السكان وتأثيرها على الاقتصاد الإيراني الضعيف بالفعل، ويحدث هذا مدفوعًا بعدد من الأسباب:
أسباب اقتصادية
تدعو سلطات الجمهورية الإسلامية إلى ارتفاع معدل المواليد في الوقت الذي قدّر فيه تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية، الصادر عن البنك الدولي لعام 2019، نموًّا سلبيًّا بنسبة 4.5% لإيران، ما يجعلها أسوأ اقتصاد في المرتبة قبل نيكاراغوا (أكبر دول أمريكا الوسطى).
بالنسبة إلى النظام، فإن العودة للعائلات الكبيرة يعني ضمان قوة عاملة قوية، فعدد العاملين بين 18-24 عامًا انخفض من 13 مليونًا في التسعينيات إلى 9 ملايين عام 2015، بينما من المتوقع أن يصبح عددهم مساويًا لعدد المتقاعدين عام 2040، ما يعني ضغطًا اقتصاديًّا كبيرًا، بحسب تقرير لمركز كارنيغي للشرق الأوسط.
يمكن التعبير عن ذلك بلُغة الأرقام التي جاءت على لسان الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، الذي قال إن التضخُّم يبلغ 36%، في حين تبلغ نسبة البطالة رسميًّا 12%، رغم أن بعض الخبراء الخاصّين يشيرون إلى أن واحدًا من كل 3 إيرانيين في سنّ العمل عاطل عن العمل.
أسباب عقائدية
إيران دولة عقائدية نصف سكانها فرس، ويعلم النظام أن انخفاض عدد الفرس بالنسبة إلى إجمالي السكان قد يسهم في إشعال توترات انفصالية، فيما يُعتقَد دائمًا أن زيادة السكان في حالة الحرب ضرورة لجعل البلاد أقوى.
يؤكد هذا التفسير رئيس المنظمة السياسية والأيديولوجية بالجيش الإيراني، الذي قال إن “الإنجاب في ظل الظروف الحالية هو نوع من الجهاد، وهو أمر يرضي الله تعالى، فالعدو خطّط لتقليص عدد الشيعة في العالم”، مؤكدًا أن الدول الإسلامية بحاجة إلى “مقاتلين جهاديين ومدافعين وحرّاس” بغضّ النظر عن مؤامرات الأعداء.
وأضاف أن العدو استهدفَ إيران ومصر ولبنان وتونس واليمن لحرمانهم من المدافعين المطلوبين عن الدين، وكثيرًا ما يُستخدَم مصطلح “العدو” من قبل سلطات الجمهورية الإسلامية للإشارة إلى القوى الغربية، فضلًا عن “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية.
أسباب ديموغرافية
بناءً على التقارير المقدَّمة من المركز الإحصائي الإيراني (SCI)، ينمو عدد كبار السن في إيران بنسبة 3.62%، مقارنة بمعدل نمو سكاني في البلاد وصل إلى 1.24%. هذا أمر مقلق بالنظر إلى أن البلاد لديها أيضًا معدل هجرة سلبي قدره 0.08 مهاجر لكل 1000 من السكان.
نتيجة لذلك، وكما يوضِّح الهرم السكاني، قد يُثقَل كاهل السكان العاملين في إيران في المستقبل بعدد كبير من السكان المسنين بشكل غير متناسب، وستكون هناك حاجة إلى زيادة عدد السكان للقوى العاملة لتلبية التركيبة السكانية في المستقبل.
حاليًّا، حوالي 71.1% من سكان إيران هم في سن العمل، مع دخول هذه الفئة العمرية المأهولة سن التقاعد، هناك حاجة إلى قوة عاملة كبيرة أخرى لدعم كبار السن.
هل تتمكّن إيران من السير عكس الاتجاه مجددًا؟
مثل العديد من البلدان، تشعر إيران بالقلق من أن معدل النمو السكاني المنخفض، المقدّر بنسبة 1% من قبل الأمم المتحدة، سيعزِّز شيخوخة السكان مع عواقب وخيمة محتملة على قوتها العاملة والبنية التحتية للصحة العامة وشبكة الضمان الاجتماعي.
تحاول الحكومة السير عكس هذا الاتجاه، لكنها تواجه رياحًا معاكسة، فوفقًا لمعدلات الخصوبة الحالية، من المتوقع أن يرتفع متوسط العمر في إيران من 27 في عام 2010 إلى 40 بحلول عام 2030، وفقًا للأمم المتحدة.
ويبقى الوضع الاقتصادي أكبر التحديات، إذ يبدو من الصعب تشجيع الإيرانيين على إنجاب المزيد من الأطفال في ظلّ اقتصاد سيّئ الإدارة، تضرّرَ من العقوبات التي يواصل الغرب تشديدها ضدّ قطاعَي النفط والبنوك، ما تسبّب في خسائر اقتصادية ضخمة ساهمَت في ارتفاع أسعار المستهلكين والبطالة.
من ناحية أخرى، شهدت إيران زيادة مطّردة في عدد الفتيات اللاتي يدرسن في المرحلتَين الابتدائية والثانوية، حيث ارتفعت نسبة الفتيات للأولاد الملتحقين بالمدارس من 58.3% عام 1974 إلى 95.9% عام 2012، وقد أدّى هذا بدوره إلى زيادة معدل معرفة القراءة والكتابة للفتيات في سن 15-24 من 45% إلى 97.7% في الفترة نفسها.
“يبدو أن إيران لديها أعلى معدل للعقم مدى الحياة في العالم، لأنها تحتضن أيضًا أعلى معدل في العالم للإصابة بالأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي”، يقول الاقتصادي والكاتب الأمريكي ديفيد غولدمان.
يلاحظ أحد المحلّلين أنه عندما تُمنح المرأة الوسائل اللازمة لاتخاذ خيارات مستقلة، فإنها تميل إلى رفض المُثُل التقليدية لسلوك الخصوبة. كان هذا ردّ ناشطات حقوق المرأة الإيرانيات اللواتي عارضن مشروع القانون الذي يحدُّ من تحديد النسل، معتبرات أنه دفعة من قبل المحافظين لحصر السكان الإناث المتعلّمات في أدوار تقليدية كزوجات وأمهات، لذلك لا يمكن توقع عودة معدل الخصوبة إلى المستويات التي شوهدت عندما سادت المستويات المنخفضة لتعليم الإناث.
بالإضافة إلى المخاوف بشأن الأموال والتوظيف التي يتشاركونها مع ملايين الشباب في جميع أنحاء العالم في ظلّ الانكماش الاقتصادي، يواجه الإيرانيون ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة، واحتمال اندلاع حرب إذا تابعت “إسرائيل” التهديدات بضرب المواقع النووية الإيرانية.
عجز الأزواج الإيرانيون عن الإنجاب وارتفاع معدلات العقم هو أيضًا تحدٍّ كبير، حيث وفق المجلة الإيرانية للصحة العامة يبلغ معدل العقم الأولي في إيران 20.2%، وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي البالغ حوالي 9% إلى 11%.
من الصعب تحديد سبب ارتفاع معدلات العقم، حيث يشير بعض الخبراء إلى زواج الأقارب والمستويات العالية لانتشار الأمراض المنقولة جنسيًّا، ومع ذلك تبقى هذه العوامل مثيرة للجدل.
يجادل الاقتصادي والكاتب الأمريكي ديفيد غولدمان بالقول: “يبدو أن إيران لديها أعلى معدل للعقم مدى الحياة في العالم، لأنها تحتضن أيضًا أعلى معدل في العالم للإصابة بالأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي”، مشيرًا إلى ارتفاع معدل الإصابة بالمتدثرة الحثرية (الكلاميديا) الموجودة بين النساء، ومع ذلك لم تجد دراسات أخرى أي تأثير كبير لمرض المتدثرة الحثرية على الخصوبة، مع ملاحظة اختلاف بسيط في عدد مرضى الخصوبة والعقم الذين تمَّ تشخيص إصابتهم بها.
يجب معالجة انخفاض النمو السكاني في إيران لمواجهة التحدي المتمثل في شيخوخة السكان، لكن سيكون من الصعب زيادة معدل الخصوبة، وقد تحتاج الحكومة أيضًا إلى معالجة الاقتصاد ومعدل الهجرة السلبي في البلاد.