تعكس زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الدوحة، التي بدأها أمس الإثنين وتستمر ليومين، تكريس الشراكة الإستراتيجية بين البلدين التي تعمقت بصورة أكبر خلال السنوات الماضية التي شهدت الكثير من الأزمات والتحديات، ما جعل من تلك العلاقات حالة استثنائية على المسارات كافة.
الزيارة تجاوزت حاجز التعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين إلى آفاق أكثر رحابة تشمل التنسيق والتفاهم شبه الكامل بشأن الملفات الإقليمية، في نموذج من العلاقات هو الأقوى في الشرق الأوسط خلال السنوات الخمسة الأخيرة تحديدًا، الذي استطاع التغلب على كل العراقيل والتحديات والضغوط التي تعرض لها خلال تلك الفترة.
تأتي تلك الزيارة في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط سيولة سياسية وإعادة تموضع لخريطة التحالفات والملفات الحساسة، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع طهران والملف الليبي واليمني، فيما يحيا الخليج هو الآخر حراكًا دبلوماسيًا من نوع آخر في ظل زيارات دبلوماسية عالية المستوى بين قادته وزعمائه.
سياقات مهمة
تكتسب الزيارة أهميتها من السياق الزمني والسياسي الذي تأتي في إطاره، إذ تتزامن مع حراك دبلوماسي خليجي كثيف، ففي الوقت الذي حل فيه أردوغان ضيفًا على أمير قطر، كان ولي العهد السعودي في ضيافة سلطان عُمان على هامش الجولة الخليجية التي يقوم بها تمهيدًا لقمة دول مجلس التعاون الخليجي التي تحتضنها الرياض منتصف ديسمبر/كانون الأول الحاليّ.
وقبيلها بساعات قليلة كان مستشار الأمن القومي لدولة الإمارات الشيخ طحنون بن زايد، في زيارة رسمية لطهران، بدعوة رسمية من أمين مجلس الأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، وكان في استقباله الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وبحث الجانبان العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها، دون مزيد من التفاصيل.
تتزامن زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي لطهران مع زيارة مماثلة لوزير خارجية الأسد، فيصل المقداد، تحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات عن مساعي التقارب بين البلدين، في إطار السياسة الخارجية الإماراتية الجديدة المنفتحة على الكثير من القوى والحكومات التي كانت تشهد العلاقات معها توترًا نسبيًا بين الحين والآخر بسبب تباين وجهات النظر إزاء الملفات الإقليمية.
زيارة استثنائية
رغم عقد زعيمي البلدين قرابة 28 قمة منذ 2014، فإن قمة اليوم تختلف عن القمم السابقة كونها تأتي في وقت تشهد فيه المنطقة وخصوصًا الخليج حراكًا سياسيًا غير مسبوق، من المتوقع أن يكون له ارتدادته على خريطة التحالفات الإقليمية التي باتت فيها أنقرة ضلعًا أصيلًا.
قبيل تلك الزيارة كان ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ضيفًا على الرئيس التركي، ومن قبله مستشار الأمن القومي الإماراتي، هذا بخلاف التغيرات الجذرية في ملامح المشهد السياسي في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بالملف الإيراني واليمني وتطورات الساحة الليبية والتحديات التي فرضتها التغيرات الواضحة في السياسة الخارجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط.
وعليه يحمل اللقاء الذي يجمع أردوغان والشيخ تميم العديد من الدلالات السياسية المهمة وسط زخم الأحداث المتصاعدة في المنطقة على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، أهمها التأكيد على عمق تلك العلاقات وثباتها واستمراريتها بعيدًا عن أي سيولة سياسية من الممكن أن تعيد تموضع التحالفات في المنطقة.
القوة التي تشهدها العلاقات بين أنقرة والدوحة لم تأت من فراغ، ولم تستند إلى مرتكزات هشة قد تفتر بين الحين والآخر حسب المناخ السياسي والأمني في المنطقة، لكنه تعاون تعرض للعديد من الاختبارات الصعبة التي قوت من شأنه وجعلته قادرًا على مواجهة التحديات
وكان الرئيس التركي خلال المؤتمر الذي عقده في إسطنبول قبيل الزيارة أشار إلى حرص بلاده على فتح صفحات جديدة مع الأشقاء في دول الخليج في إطار التوجه السياسي التركي الجديد الرامي إلى طي الخلافات الإقليمية مع العديد من القوى وإعادة النظر في مستقبل العلاقات في محاولة لإنهاء بؤر التوتر قدر الإمكان.
وتحاول أنقرة خلال الفترة الأخيرة تعزيز وجودها في منطقة الخليج والشرق الأوسط، في ظل التصريحات الإيجابية المتبادلة بشأن التقارب مع بعض العواصم أبرزها الرياض وأبو ظبي والقاهرة، وهو ما قد يؤثر نسبيًا – بحسب البعض- على منسوب وقوة العلاقات التركية القطرية، وعليه كانت تلك الزيارة في هذا التوقيت الحساس للتأكيد على متانة العلاقات بين الدوحة وأنقرة واستمرارها بنفس الزخم في ظل التموضعات الجديدة المحتملة لمنظومة التحالفات.
تكريس الشراكة الإستراتيجية
وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، وصف علاقات بلاده مع قطر بأنها علاقات استثنائية ومميزة، لافتًا خلال الاجتماع التحضيري الذي عقده أمس على مستوى وزراء الخارجية أن البلدين سيوقعان حزمة من الاتفاقيات في إطار إستراتيجية تعزيز الشراكة وتعميقها في مجالات مثل الدفاع والاقتصاد والتعليم والثقافة والصحة.
وتسير العلاقات بين أنقرة والدوحة منذ 2017 تحديدًا نحو مزيد من التنسيق والتناغم والتعاون على المستويات كافة، في ظل الترابط الشعبي والسياسي بين البلدين، الذي يتعزز مع كل أزمة تواجه أي منهما، حيث يكون التكاتف والتآخي هو سبيل عبور تلك التحديات، الأمر الذي تكرر أكثر من مرة خلال الآونة الأخيرة وكان له صداه على عمق العلاقة بين الشعبين.
ويترأس الرئيس التركي أردوغان مع أمير قطر، اليوم، اجتماعات الدورة السابعة للجنة الإستراتيجية العليا القطرية التركية، لدعم وتطوير العلاقات بين الدوحة وأنقرة، التي من المفترض أن تشهد توقيع 12 اتفاقية جديدة ليصبح إجمالي الاتفاقيات الموقعة منذ تأسيس اللجنة عام 2014 قرابة 80 اتفاقية تشمل المجالات كافة.
وباتت تركيا واحدة من أكثر دول العالم جذبًا للاستثمارات خاصة في مجالات العقارات والسياحة، فيما تحولت قطر إلى قبلة رأس المال التركي، وقد انعكس ذلك على حجم التجارة بين البلدين، إذ تضاعفت الصادرات التركية إلى قطر 300% خلال السنوات الخمسة الماضية، فيما بلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين خلال 2019 قرابة 2.24 مليار دولار، مقارنة بـ340 مليون دولار في 2010.
وتشير الإحصاءات إلى وجود ما يزيد على 179 شركةً قطريةً تعمل في تركيا، في مقابل 500 شركة تركية تعمل في قطر، لا سيما في مشروعات البنية التحتية وهي المشروعات التي بلغت قيمتها منذ 2002 وحتى 2019 أكثر من 18 مليار دولار لتضع قطر في المرتبة السابعة كأكبر سوق عقود خلال العام الماضي، بينما بلغ حجم رأس المال المستثمر داخل الأراضي التركية حاجز الـ22 مليار دولار.
قطر.. بوابة التقارب التركي الخليجي
القوة التي تشهدها العلاقات بين أنقرة والدوحة لم تأت من فراغ، ولم تستند إلى مرتكزات هشة قد تفتر بين الحين والآخر حسب المناخ السياسي والأمني في المنطقة، لكنه تعاون تعرض للعديد من الاختبارات الصعبة التي قوت من شأنه وجعلته قادرًا على مواجهة التحديات، كما دفعته لأن يكون أكثر صمودًا أمام رياح التغيير العاتية.
وفي ضوء الارتكان إلى هذه القاعدة السياسية القوية، والأساس المتين الضارب بجذوره في أعماق تلك العلاقة المميزة، حرصت الدوحة على تقريب وجهات النظر بين أنقرة ودول الخليج، في محاولة لإزالة التوتر المتصاعد بينهما خلال السنوات الماضية، من أجل بناء تموضعات جديدة قادرة على مواجهة التحديات الراهنة، التي لا يقوى فريق بمفرده على مواجهتها دون توحيد الرؤى والتكاتف، وطي صفحات الخلاف مؤقتًا.
وفي الوقت الذي يزعم فيه البعض تأثر العلاقات التركية القطرية بالتقارب بين أنقرة من جانب وأبو ظبي والرياض من جانب آخر، إذ بالرئيس التركي يؤكد على الدور القطري المحوري في تقريب وجهات النظر بين بلاده ودول الخليج، في إشارة إلى أن هذا التوجه التركي الجديد خليجيًا كان بتنسيق مع الدوحة في إزالة لأي لبس من الممكن أن يستغله البعض للتأثير على تلك العلاقات الاستثنائية.
تسود اللغة الدبلوماسية الهادئة أجواء الخطاب السياسي التركي الخليجي منذ بداية هذا العام، استجابة للمستجدات السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية التي فرضت نفسها ودفعت الجميع لإعادة النظر إزاء بعض التوجهات
ورغم مغادرة أردوغان الأراضي القطرية اليوم، قبيل وصول ولي العهد السعودي المقرر له غدًا، ما يعني استحالة عقد لقاء بينهما، فإن البعض ذهب إلى احتمالية أن يوضع ملف التقارب السعودي التركي على مائدة لقاء أمير قطر مع أردوغان من جانب، وابن سلمان من جانب آخر، وهو ما يتفق مع المواقف والتصريحات القطرية السابقة.
ففي ندوة أقيمت في 11 يناير/كانون الثاني الماضي، بعد أيام قليلة من قمة العُلا التي أنهت الأزمة الخليجية، أعرب المبعوث الخاص لوزير الخارجية القطري لمكافحة الإرهاب والوساطة في تسوية المنازعات، مطلق القحطاني، عن استعداد بلاده للوساطة بين تركيا والسعودية، وكذلك بين الأخيرة وإيران.
وردًا على سؤاله بشأن استعداد قطر للوساطة وتهدئة التوترات بين تركيا والسعودية، وبين الأخيرة وإيران، أجاب القحطاني: “هذا يرجع إلى مبدأ الموافقة كمبدأ أساسي في العلاقات الدولية”، مضيفًا: “إذا رأت هاتان الدولتان أن يكون لدولة قطر دور في هذه الوساطة ففي الإمكان القيام بهذا”، وتابع “من مصلحة الجميع أن تكون هناك علاقات ودية بين هذه الدول، خاصة بين دول أساسية ورئيسية مثل المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران”.
نجحت الدبلوماسية القطرية خلال السنوات الخمسة الماضية في تقديم نفسها كواحدة من أكثر الدبلوماسيات تأثيرًا ونجاحًا في المنطقة، وهو ما جعل الدوحة لاعبًا أساسيًا في معظم الملفات الإقليمية، ومنذ إذابة الجليد مع دول الحصار في أعقاب قمة العلا، تبذل الخارجية القطرية جهودًا دبلوماسية مكثفة لتبريد الأجواء الساخنة بين أنقرة والرياض تحديدًا، رغم صعوبة المهمة في ظل تباين وجهات النظر حيال الكثير من الملفات أبرزها ملف مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي.
وتسود اللغة الدبلوماسية الهادئة أجواء الخطاب السياسي التركي الخليجي منذ بداية هذا العام، استجابة للمستجدات السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية التي فرضت نفسها ودفعت الجميع لإعادة النظر إزاء بعض التوجهات، والعودة خطوة للخلف لإعادة ترتيب البيت الداخلي والخارجي على حد سواء، من أجل القدرة على مواجهة تلك التحديات.