في يونيو/حزيران 2020 بدأ الشمال السوري الواقع تحت سيطرة المعارضة السورية بتداول الليرة التركية في البيع والشراء والمعاملات المالية جميعها، أتى ذلك نتيجة انهيار الليرة السورية في ذلك الوقت لأدنى مستوياتها تاريخيًا، حيث انخفضت من 1600 ليرة سورية مقابل الدولار الأمريكي إلى 4 آلاف ليرة، وكذلك لفصل الاقتصاد في هذه المناطق عن الشبكة الاقتصادية المرتبطة بنظام الأسد في مناطق سيطرته.
واليوم أمسى الشمال السوري مرتبطًا ارتباطًا تامًا بالليرة التركية في كل تعاملاته، وخلال الفترة الماضية حقق التعامل بالعملة التركية بعض الإيجابيات لكنه أيضًا خلق سلبيات يصعب التعامل معها، ومن تلك الإيجابيات تبسيط التجارة وتشجيعها في الشمال وتحسين مستوى القوة الشرائية، إضافة إلى منح الأسعار مستوى معقول من الاستقرار مقارنة بمناطق النظام، إلا أن هذا الأمر لم يدم فترة طويلة، فمع فقدان الليرة التركية أكثر من 40% من قيمتها أمام الدولار في الفترة الأخيرة، زادت الأمور تعقيدًا على سكان الشمال.
آثار كارثية
في عام 2020 كان سعر صرف الليرة التركية 6.8 أمام الدولار، أما اليوم فقد وصلت إلى 13.5 ليرة، ومع معدلات التضخم الحاليّة ما زالت أجور العمال والموظفين على حالها على الرغم من موجة الغلاء التي ضربت كل المواد الأساسية. ونتيجة لذلك، ووفقًا لفريق “منسقو استجابة سوريا” فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية في الشمال السوري بنسبة 400% خلال الأشهر الثلاث الماضية، وأسعار المحروقات بنسبة 350%، والخبز بنسبة 300%، كما وصلت معدلات الفقر إلى 90%، وقال بيان للفريق: “بوادر انهيار اقتصادي تشهده مناطق شمال غرب سوريا، بالتزامن مع ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية، وزيادة ملحوظة في معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للمدنيين في المنطقة”.
المؤشر يوضح قيمة الليرة أمام الدولار الأمريكي، فكلما صعد المؤشر كانت الليرة أكثر انخفاضًا. عنصر تفاعلي، قلّب بالضغط يميناً للانتقال إلى اللوحة التالية.
وذكر البيان أيضًا أن “أغلب العائلات أصبحت في المنطقة بشكل عام ونازحو المخيمات بشكل خاص غير قادرين على تأمين المستلزمات الأساسية وفي مقدمتها مواد التغذية والتدفئة لضمان بقاء واستمرار تلك العائلات على قيد الحياة، في حين ينتظر النازحون في المخيمات أوضاع إنسانية بالغة السوء بالتزامن مع بدء هطول الأمطار في المنطقة”.
في حديثه لـ”نون بوست” يقول حسام أبو محيي الدين، محاسب وإداري في أحد المشافي الموجودة في مناطق الشمال، إن تأثير انهيار الليرة التركية على المواطن السوري بات ثقيلًا، إذ يجري تسعير وبيع السلع بحسب سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار في لحظة عملية الشراء، أي أن الأسعار متقلبة بشكل يومي تقريبًا.
وبحسب تقديرات فريق “منسقو استجابة سوريا”، أدى انهيار الليرة التركية والوضع الاقتصادي السيئ في مناطق الشمال إلى وصول أعداد الأسر التي خفضت أعداد الوجبات الأساسية إلى 65%، في حين وصلت ضمن المخيمات إلى 89%، كما ارتفعت نسبة الأسر التي وصلت إلى حد الانهيار خلال الأشهر الثلاث السابقة من 52% إلى 59%، كما انخفض مستوى الأجور في المنطقة من 900 ليرة تركية إلى 550 ليرة تركية، مقارنة بأسعار الصرف وأسعار المواد، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن غالبية المواطنين في الشمال السوري ليس لديهم دخل ثابت.
من جهته يقول صلاح أبو أحمد أحد سكان مدينة إدلب والعامل في مجال التجارة لـ”نون بوست”: “أسعار السلع تتقلب كل ساعة، فلا أدري لماذا يلومنا الناس من أجل غلاء أسعار السلع وهم لا يعرفون أن الأوضاع الاقتصادية لم تعد كما قبل، إذ إن الضرائب التي تفرض على البضاعة تتضاعف منذ توريدها من تركيا إلى ريف حلب ومن ثم دخولها إلى إدلب، ولهذا ليس ممكنَا أن يثبت سعر السلع”، موضحًا أن هذا الاضطراب تسبب في انخفاض عدد الزبائن إلى النصف تقريبًا.
لكن الشاب هشام الطالب في جامعة إدلب في حديثه لـ”نون بوست” يرى أن “الأسعار مبالغ بها، إذ أصبح للتجار فرصة لزيادة الأسعار دون رقيب، والحجة أن أسعار الليرة تنهار، ونحن نتفهم أن السلع يزداد سعرها لكن هامش الربح أصبح كبيرًا وهو أعلى من المعدلات التي يجب أن يكون عليها”، مضيفًا أنه كطالب بات يستغنى عن الكثير من المستلزمات التي يحتاجها في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار.
هل من حل؟
في السياق يقول الخبير الاقتصادي السوري خالد التركاوي إن “أبرز تأثيرات انهيار الليرة التركية هو ارتفاع الأسعار، فقد ارتفعت أسعار كل المواد التي يتم تداولها في الشمال السوري بشكل ملحوظ، وتحديدًا الخبز والخضراوات والرز والسكر ويضيف التركاوي: “يجب على الناس التفكير بالدخول إلى موضوع الصناعات من أجل تعزيز دخلهم ويكون تأثير الأزمات الاقتصادية عليهم طفيفًا”، ويشير إلى أنه “لو كانت الأسعار منخفضة ولا يوجد دخل فسيكون لدينا مشكلة أيضًا، والحل دائمًا هو زيادة الدخل وتنويعه، إضافة إلى تعزيز التنافسية بين التجار، وذلك بأن لا تكون السلع محصورة بين شخصين أو أكثر، حيث يجب أن تفتح الأسواق لأكثر عدد ممكن لأن ذلك يساعد على تخفيض الأسعار”.
بدوره قال رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا أسامة قاضي في حديث صحفي: “الشمال السوري محكوم بالعملة التركية بسبب الواقع الاقتصادي في المنطقة، خاصة أن جميع المعابر الحدودية والحركة التجارية مرتبطة بتركيا”، وأضاف إن “مشكلة شمال غرب سوريا تتمثل بعدم وجود إدارة لديها قوة حتى تتحكم بحجم وكميات العملة الموجودة، أو أن تضع مشاريع تنموية حقيقية لخلق فرص عمل وتتدخل في الأسواق من أجل خفض الأسعار ودعم المواد الغذائية”.
وأكد القاضي “ضرورة وجود إدارة حقيقية وبشكل سريع”، واقترح إلغاء “حكومة الإنقاذ” نهائيًا، على أن تصبح المنطقة تحت إدارة حقيقية متصالحة مع العالم، مؤكدًا أنه دون ذلك سيكون الواقع من سيئ لأسوأ، في ظل التضخم وتدهور قيمة الليرة التركية.
إلى ذلك، سيبقى الشمال السوري تحت تأثير الضربات الاقتصادية المرتبطة بتركيا وما يجري في الساحة السياسية هناك، إذ تزيد قلة الأموال في أيدي المواطنين بالتزامن مع انخفاض الليرة التركية وارتفاع الأسعار الجنوني مشكلات الشمال السوري ويعمق الجراح خاصة مع قدوم فصل الشتاء بما يحمله من مآسٍ لأهل الخيام خاصة والناس بشكل عام، ولا يبدو أن حلولًا من أي طرف ستعمل على حل هذه الأزمة.