تحدّثنا في ثلاث مقالات سابقة عن أكراد سوريا اجتماعيًّا وتاريخيًّا، ولم يبقَ لنا إلا الحديث عن تفاعلهم مع الثورة السورية، وما آلت إليه مشاكلهم في أعوامها الأولى، وكيف جرى استثمار ذلك في صعودهم العسكري في ظلّ الفوضى السياسية الحاصلة في المنطقة.
الأكراد، ثوّار ومترددون
خلافًا لما يُصوَّر عادةً على أن الأكراد على قلب رجل واحد، وأن الحزب الديمقراطي هو الممثل لأكراد سوريا، فإن الحقيقة أن الاختلافات بينهم حاضرة وكبيرة، فقد اختلف موقف الأكراد من الثورة السورية بعد انطلاقها عام 2011 إلى 4 مواقف، كحال باقي أطياف الشعب السوري.
تشكّلت هذه المواقف من الثائر المؤيد للثورة دون أدنى تردد، فقد كان من المنطقي حضور الأكراد في صفوف الثوار لما عانوه من اضطهاد وقمع من النظام الأسدي على مدى 40 عامًا.
وتجسّدَ هذا الموقف في المظاهرات التي شهدتها المناطق الكردية منذ بداية الثورة، ومنها مظاهرات عامودا والدرباسية والقامشلي، وقد رفع المتظاهرون حينها كلمة الحرية باللغة الكردية (آزادي)، التي حفظها جميع السوريين.
وقد حضر هذا القسم أيضًا في الأعمال السياسية الأولى، فشارك قسم من الأكراد في مختلف مؤتمرات المعارضة وأسّسوا حزبَي يكيتي وآزادي الكرديَّين، بالإضافة إلى تيار المستقبل الكردي بقيادة مشعل تمّو، الذي انضمَّ إلى المجلس الوطني السوري.
وتمثّل الموقف المؤيد للنظام في الأحزاب السياسية، وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي نشأ كفرع سوري لحزب العمّال الكردستاني في ظل الحكم الأسدي، كما رأينا في المقال السابق، وفي حين كان يتظاهر بالعداء للنظام، والعمل على ضمان حقوق الأكراد إلى جانب باقي الأحزاب الكردية، كان في توافق دائم معه من تحت الطاولة لتمزيق الموقف الكردي من الثورة وقمع أي صوت كردي أظهرَ تأييده لها.
وقد وُجِّهت إلى حزب الاتحاد الديمقراطي أصابع الاتهام باغتيال مشعل تمّو، وبعمل أعضائه كشبيحة ضد المتظاهرين الأكراد، وكان في تلك الأثناء يعمل على السيطرة على الأراضي الكردية والعربية في شمال وشرق سوريا.
شريحة من الأكراد -تشابهت مع كثير من السوريين في تلك الأثناء- بقيت صامتة حيال ما يحدث، ليس حبًّا للنظام وإنما قلقًا من مستقبل مجهول، وخوفًا من وحشية النظام، وقد ذاقت منه ما ذاقت قبل ذلك.
موقف آخر هو موقف المتردِّدين الذين لم يؤيدوا النظام في عنجهيته في التعامل مع الأكراد، ولكنهم لم يجرؤوا على طلب إسقاطه، كذلك موقفهم من الثورة كان سلبيًّا بسبب عدم اقتناعهم بالمعارضة كبديل للنظام، وقد تمثّل في الأحزاب الكردية المختلفة، عدا تلك التي أيدت الثورة.
وتجدر الإشارة إلى أن النظام عزّز هذه المواقف القلقة من الثورة، حين صوّرها على أنها ثورة إسلامية أصولية إرهابية قامعة للأقليات من قِبَل العرب السنّة في وجه النظام العلماني القائم الحامي للأقليات، لذلك عملت هذه الأحزاب، بالتعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي، على قمع أي صوت ثوري كردي، وتبلورَت أفكارها، في النهاية، نحو اتجاهات شبه انفصالية.
القسم الأخير تمثّل في شريحة من الأكراد -تشابهت مع كثير من السوريين في تلك الأثناء- بقيت صامتة حيال ما يحدث، ليس حبًّا للنظام وإنما قلقًا من مستقبل مجهول، وخوفًا من وحشية النظام، وقد ذاقت منه ما ذاقت قبل ذلك.
سيطرة الاتحاد على شمال وشرق سوريا
في صيف 2012 بدأت قوات النظام بالانسحاب من المناطق ذات الغالبية الكردية، مع المحافظة على وجودها في بعض المراكز الحيوية فقط، لتستلم مكانها وحدات حماية الشعب (YPG)، الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، بعد أن انضمّت إليه باقي الأحزاب الكردية المتذبذبة في موقفها من النظام، وكان ذلك كله بالاتفاق مع الأخير، لتحييد العامل الكردي عن الثورة، كما يرى الباحثون.
لم يكن الحزب أحسن حالًا من النظام أثناء تسلُّمه زمام المبادرة الأمنية في المنطقة، فقد جاءت سيطرته عن طريق القمع الدموي والمجازر، وقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان جرائم عديدة تحمل صبغة تطهير عرقي، ارتكبتها قوات الحزب في القرى والبلدات التي تقطنها أغلبية عربية، من بينها 3 مجازر تحمل صبغة تطهير عرقي في محافظة الحسكة، راح ضحيتها 91 مدنيًّا، بينهم 17 طفلًا، و7 سيدات، مثل مجزرة عامودا، التي كانت بداية الهيمنة الكاملة للحزب على كامل المناطق الكردية، وقد استمرت هذه الانتهاكات حتى عام 2015 بشكل دموي، وإلى اليوم بطرق مختلفة.
على الصعيد العسكري، تصادمت قوات الحزب مرارًا مع مقاتلين من الجيش السوري الحر، ووقعت الصدامات بشكل خاص في بلدة رأس العين المختلطة الواقعة مباشرة عند الحدود التركية، وقد اتّهم الحزب تركيا آنذاك بتحريض القوات الجهادية السلفية مثل جبهة النصرة وغرباء الشام ودعمهم في هجومهم على المناطق الكردية، في حين اتّهمت تركيا الحزب بأنه ليس إلا واجهة لحزب العمّال الكردستاني، الاتهام الذي كان ينكره الحزب “رسميًّا” للهروب من تبعات هذه التوجهات.
سعى الحزب جاهدًا للسيطرة على المناطق الكردية والعربية في شمال وشرق سوريا، تحت حكم ذاتي، رغم التقلُّبات العسكرية حتى عام 2015 وما تبع ذلك من سيطرة الجيش الحر على مناطق شاسعة من البلاد، وقدرة النظام على استعادة كثير ممّا فقد بسبب التدخل العسكري الروسي والإيراني.
عام 2015 تمّ الإعلان عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية -التي تُعرف اختصارًا باسم “قسد”- في مدينة القامشلي، وقد عرّفت نفسها على أنها “قوة عسكرية وطنية موحدة لكل السوريين تجمع العرب والكرد والسريان وكافة المكونات الأخرى”، ولكنّ الواقع هو أن وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة -وهي قوى مسلحة تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي- تشكّل العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية.
وقد جاء الإعلان عن تشكيل هذه القوات في أعقاب إعلان الولايات المتحدة نيّتها دعم أحد الفصائل العسكرية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ووجدت أمريكا في القوات الكردية حليفًا جيدًا مقارنة بغيره من الفصائل.
وعليه، وبدعم عسكري أمريكي جوّي، خاضت هذه القوات معارك طاحنة ضدّ تنظيم الدولة، أشهرها معركة الدفاع عن مدينة كوباني (عين العرب)، التي استطاعت فيها دحر التنظيم، وذلك من العام نفسه أي 2015.
وأصبحت حينها سيطرة “قسد” تمتد على مساحات شاسعة من سوريا تتجاوز 35 ألف كيلومتر مربع من مساحة سوريا، التي تبلغ 185 ألف كيلومتر مربع. وكانت أعداد هذه القوات تبلغ نحو 45 ألف مقاتل على أقل تقدير، حسب بيان لوزارة الدفاع الامريكية، وذلك تحت مسمّى “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، و”روج آفا” الاسم الكردي المرفوض دوليًّا للمنطقة.
العمليات العسكرية التركية ضد “قسد”
ولكن هذا الدعم الأمريكي لم يكن ليتجاوز مرحلة محاربة التنظيم، ولا ليؤيد حلم الأحزاب الكردية بالاستقلال، فكان هذا الامتداد الجغرافي الكردي الحذر سببًا في توجُّس تركيا من قيام دولة الأكراد المزعومة، لا سيما أنها كانت ترى حزب الاتحاد الديمقراطي، وقوات سوريا الديمقراطية من بعده، فرعًا لحزب العمال الكردستاني في تركيا، الذي لطالما أرهق شرق تركيا بحلم الدولة الكردية، بقيادة أوجلان القابع في السجون التركية.
بعد انتهاء المهمة وتدمير مشروع تنظيم الدولة، أخذت القوات الأمريكية بالانسحاب بين عشية وضحاها، تاركة زمام القيادة العسكرية للقوات التركية لبدء العملية العسكرية ضد الأكراد الذين بدأوا يثيرون الضجة لتركيا، حيث أشارت الأحداث إلى ضوء أخضر من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للقوات التركية، للدخول إلى مناطق الأكراد وتقويض امتدادها.
وهذا ما حدث، فقد قامت الطائرات التركية بقصف مواقع كل من “داعش” و”قسد”، في المنطقة التي تمتد بين نهر الفرات إلى الشرق وأعزاز إلى الغرب، تمهيدًا لدخول الجيش التركي وقوات المعارضة إلى مناطق القوات الكردية على المناطق الحدودية، تحت ما سُمّي بعملية “درع الفرات” عام 2016.
وقُسّمت هذه العملية إلى 4 مراحل، سيطرت فيها القوات المشتركة على جرابلس وريفها وأعزاز والباب، وقد أعلنت تركيا إيقاف العملية من العام المقبل 2017 بعد إنهاء حلم دولتَي “داعش” و”قسد”، وبدخول روسيا إلى الخط، ودخولها منطقة عفرين القريبة إلى أعزاز، ومن حينها ستتعامل “قسد” مع أطراف الصراع كافة ببراغماتية عالية.
هددت تركيا بعملية عسكرية هذه السنة لعدم اكتمال مشروعها بإبعاد القوات الكردية عن الحدود 30 كيلومترًا والتخلُّص من الخطر الكردي في المنطقة.
ولكن هذه البراغماتية تسبّبت لها في خسائر أكبر، حيث حصل في العام التالي 2018 تقارُب روسي-تركي تمخّضَ عنه ما سُمّي بعملية “غصن الزيتون” التي سيطرت فيها القوات التركية وفصائل المعارضة على مدينة عفرين وما حولها، لقربها من الحدود التركية ولاحتوائها على جبل بورصايا الاستراتيجي الذي كان يكشف أماكن للقوات التركية وقوات المعارضة في أعزاز.
استمرت وتيرة العمليات السنوية التركية ضد القوات الكردية، ففي عام 2019 قامت تركيا بعملية “نبع السلام” في مناطق شرق الفرات بهدف إبعاد مقاتلي الوحدات 30 كيلومترًا عن الحدود التركية السورية، وتأسيس منطقة آمنة هناك.
انتهت العملية بتفاهُمات تركية مع كل من روسيا وأمريكا بضمانهما إبعاد القوات الكردية، وقد دفعت هذه العملية “قسد” إلى الاتفاق مع روسيا للوقوف بوجه التوغُّل التركي في شرق نهر الفرات، منحت بموجبه النظامَ السوري وروسيا الحق في إدخال قواتهما إلى أماكن محددة في شرق نهر الفرات، وسمحت لروسيا بإنشاء قواعد عسكرية.
وكانت عام 2020 عملية “درع الربيع” في إدلب، بعد استهداف القوات التركية ومقتل عدد من الجنود الأتراك على يد قوات النظام السوري، وبذلك تكون هذه العملية التركية الوحيدة التي تخلو أهدافها من استهداف القوات الكردية.
وقد هددت تركيا بعملية عسكرية هذه السنة لعدم اكتمال مشروعها بإبعاد القوات الكردية عن الحدود 30 كيلومترًا والتخلُّص من الخطر الكردي في المنطقة، حيث استهدفت القوات الكردية الشرطة التركية فأدّت إلى مقتل اثنين منهم، ولكن هذه العملية لم تكتمل بسبب المقاربة والمحددات الأمريكية الجديدة في المنطقة القاضية بعدم ترك الفراغ الذي ستملأه روسيا، وعدم موافقة روسيا على التوسُّع التركي في المنطقة، بسبب تقارُبها مع “قسد” لصالح النظام.
الوضع الإنساني لمناطق “قسد”
يعيش حوالي 3 ملايين إنسان تحت سيطرة “قسد” في مناطق شمال وشرق سوريا، بين أكراد وعرب، في ظروف إنسانية صعبة، إذ يوجد ما يُقارب 700 ألف شخص مشرّدين داخليًّا.
كما أن العمليات العسكرية التركية المستمرة، أدّت إلى تهجير آلاف الأكراد من عفرين وتل أبيض ورأس العين، ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أدّى الهجوم الأخير إلى تشريد 222 ألف شخص من مناطقهم، مقابل 117 ألف عربي عادوا إلى ديارهم.
وفي الطرف الآخر، تنتشر في مناطق إدارة “قسد” أوضاع اجتماعية سيّئة بالنسبة إلى كل من الأكراد وغيرهم من الطوائف، كالبطالة وقلّة فرص العمل وحصرها بالكوادر المقرَّبة من “قسد”، وغلاء الأسعار وغياب الرقابة والفوضى الأمنية.
وقد تسبَّب عن هذه الظواهر مجتمعةً انتشار تعاطي المخدرات بين الشباب، ويُذكر أن قيادة “قسد” متورِّطة بهذه الممارسات لمنافعها المادية، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الانتحار والسرقة والقتل، وانتشار ظاهرة التشوهات الخلقية بسبب مخلَّفات إعادة إنتاج النفط بطرق عشوائية وغير منظَّمة بالقرب من القرى والتجمعات البشرية.
كما وُجِّهت اتهامات لـ”قسد” بالتجنيد الإجباري للأطفال، الذي تعتبره قانونًا تحت مسمّى “واجب الدفاع الذاتي”، وممارسة القمع بحقّ الأهالي الرافضين لهذا الواقع. وذلك كله ضمن تقديرات بسبب منع “قسد” الإعلامَ من الدخول إلى مناطق سيطرتها ونقل الواقع كما يجب، وغياب الإحصاءات الدقيقة بسبب الفوضى الحاصلة في المنطقة.
ما يُسمّى بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، قائمة اليوم على عامل التقلُّبات الدولية في المنطقة، ووجودها يتعرّض لخطر الزوال عند كل تقلُّب في مواقف الدول الفاعلة في الفوضى الحاصلة في المنطقة.
ختامًا، رأينا كيف مرّت المشكلة الكردية بأطوار مختلفة، وحاربَت من أجل أهداف مختلفة، كان القاسم المشترك في تلك الأحداث جميعها هو عدم وجود حلّ يُرضي الأطراف مجتمعة.
قد يكون الاضطهاد الممتد على طول التاريخ الحديث للأكراد، على صعيد الهوية والحقوق الأساسية، ولّدَ هذه المشاكل التي تستمر إلى اليوم بأشكال متعددة، ولكن في المقابل عملت عدد من الشخصيات الكردية، التي تصل إلى درجة الفاشية، على استغلال هذه القضية لإنشاء إدارة ذاتية تقوم على ابتزاز المجتمع لحساب مصالحها الشخصية.
أما ما يُسمّى بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فهي قائمة اليوم على عامل التقلُّبات الدولية في المنطقة، ووجودها يتعرض لخطر الزوال عند كل تقلُّب في مواقف الدول الفاعلة في الفوضى الحاصلة في المنطقة، ولكن بالتأكيد لن تنتهي مشكلة الأكراد باستمرار هذا الكيان أو زواله، طالما أن المصالح السياسية مقدَّمة على حقوق الشعوب في الحفاظ على هويتها واكتساب حقوقها.