يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط اليوم تمرُّ بمرحلة ما بعد المصالحة الخليجية، هذه المصالحة التي وضعت حدًّا لسياسة المحاور والتجاذب الإقليمي، التي ترافقت مع الأزمة الخليجية التي اندلعت في مايو/ أيار 2017، وعرّضت بدورها منظومة الأمن الخليجي لحالة خرق كبيرة، تداخلَ فيها المحلي بالإقليمي والدولي، كونها الأزمة الأولى التي شهدت حضور العديد من القوى الإقليمية والدولية.
وأصبحت مفاتيح حل الأزمة ليست مرهونة بالحفاظ على وحدة البيت الخليجي فحسب، وإنما باستحقاقات التوازن الاستراتيجي التي بُنيَ عليها، ولذلك إن ما تشهده منطقة الخليج اليوم، من فاعلية قطرية وتدافُع إماراتي، يشير إلى أننا سنكون أمام تحوُّل إقليمي جديد تشهده المنطقة بتفاعلاتها وأنساقها الفرعية.
في الوقت الذي حافظت فيه قطر على تحالفاتها التقليدية التي تأسّسَت خلال الأزمة الخليجية، وتحديدًا على مستوى العلاقة مع تركيا وإيران، نجدُ في مقابل ذلك تحالفات مرنة تحاول أن تنسجها الإمارات العربية المتحدة عبر تقاربها مع تركيا وإيران أيضًا، مستفيدة من حالة التقارب التركي المصري من جهة، والحوار السعودي الإيراني من جهة أخرى.
يعطي هذا دلالة واضحة أن هناك إعادة هيكلة إقليمية بدأت الدول الخليجية تتحرك بموجبها، مستفيدةً من الحاجات الاستراتيجية التي انبثقت بعد المصالحة الخليجية، وكذلك تكثيف الجهود لتجاوز التحديات الاقتصادية والسياسية التي أفرزتها جائحة كورونا، والأهم من كل ذلك قناعة دول المنطقة بأن الحوار الإقليمي المتبادَل قد يكون وسيلة ناجعة لتخفيف التوترات البينية، في سوريا واليمن وليبيا وغيرها، طالما أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تولي المواجهة مع الصين وترتيب الأوضاع في أفغانستان أهمية أكبر من استحقاقات المنطقة.
كيف سيكون المشهد الإقليمي؟
ممّا لا شكّ فيه أن المنطقة مقبلة على إعادة هيكلة جديدة، فتركيا بدأت بتحقيق اختراقات جديدة على مستوى العلاقات مع مصر ودول الخليج العربية، كما أن إيران هي الأخرى بدأت تجدُ في الحوار مع المملكة العربية والسعودية والإمارات العربية المتحدة وسيلةً مهمةً للتخفيف من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها.
قد تبدو المشكلة الرئيسية هنا تدور حول كيف سيكون شكل الهيكل الإقليمي الجديد، وهل سيكون هذا الهيكل قادرًا على استيعاب تركيا بطموحاتها الإقليمية، وإيران بسياستها التدخُّلية؟ إن هذه التساؤلات توحي بأن هناك تحديات كبيرة قد تقفُ عقبةً أمام أي هيكل إقليمي جديد يُراد تشكيله، إلا أنه من جهة أخرى قد لا يشكّل تحديًا حقيقيًّا إذا توفرت الرؤية والإرادة السياسية.
إن الجولات الإقليمية التي يقوم بها زعماء كل من السعودية وتركيا، فضلًا عن التحرُّكات الإقليمية الإماراتية، إلى جانب بدء جولات التفاوض حول الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى في فيينا، تمثّل جميعها ديناميكية جديدة لم تعهدها المنطقة سابقًا.
ورغم أنها فرصة لتخفيف حدّة التوترات الإقليمية عبر خلق تشابكات اقتصادية وأمنية جديدة، تنهي حالة الاستقطاب السياسي السابق، إلا أن هذا لا يعني أنها ستنهي المخاوف السياسية، فهناك اليوم خلاف كبير في وجهات النظر حول ملفات عديدة، أهمها الحديث عن عودة سوريا للجامعة العربية، أو نهاية الصراع في اليمن، أو حتى التطبيع مع “إسرائيل”، فهي كلها ملفات ستثير بالنهاية حساسيات كبيرة لن تتمكّن القوى الإقليمية من تجاوزها أو حتى تجاهُلها.
تحديات ومسارات مقلقة
تدركُ القوى الخليجية جيدًا أهمية الحفاظ على مسافة واحدة بين إحداها والأخرى، والأكثر من ذلك ضرورة الاستفادة من دروس الأزمة الخليجية، فالولايات المتحدة لم تتمكّن من حماية المحور السعودي الإماراتي من هزّات عنيفة ضربته في تلك الفترة، كما أن قطر لا تريد أن تعطي أهمية أكبر للعلاقات مع تركيا وإيران على حساب علاقاتها الخليجية، لأسباب هوياتية واجتماعية، ولذلك رغم التحرُّك الفاعل لكل من قطر والإمارات نحو مجالات إقليمية أوسع، إلا أنها في النهاية تصبُّ في سياق الطرفَين، طالما أنها تستهدف القوى الإقليمية ذاتها، والمسبّبات السياسية ذاتها.
يبدو أن الجهات الخارجية (الإقليمية والدولية) تميلُ إلى قبول مشاكل دول الخليج باعتبارها محفّزًا استراتيجيًّا لتحقيق مكاسب سياسية أكبر، سواء عبر تغيير نمط التحالفات أو تحقيق مزيد من الاختراقات.
إن أحد أكثر الاتجاهات إثارة للقلق في السياسة الإقليمية اليوم هو استمرار حالة عدم الاستقرار في منطقة الخليج، وهي منطقة لا تزال مركزًا مهمًّا للاقتصاد العالمي، والتمويل والنقل البحري، إلى جانب استمرار الصراع المسلَّح في اليمن الذي أدّى إلى كارثة إنسانية في البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت العديد من دول الخليج عرضة بشكل متزايد للاضطرابات الاجتماعية والسياسية المحلية، بسبب التقلُّبات المتزايدة في سوق النفط العالمية، وجهود الإصلاح الداخلية مع نتائج غير واضحة حتى الآن، حيث تواجه دول الخليج حالة شلل استراتيجي نسبي، ولا يزال مستقبلها غير واضح مع استمرار تداعيات الأزمة الخليجية.
علاوة على ذلك، يبدو أن الجهات الخارجية (الإقليمية والدولية) تميلُ إلى قبول مشاكل دول الخليج باعتبارها محفّزًا استراتيجيًّا لتحقيق مكاسب سياسية أكبر، سواء عبر تغيير نمط التحالفات، أو تحقيق مزيد من الاختراقات.
ومع ذلك، إن فكرة تطبيع الوضع الجديد في منطقة الخليج لمرحلة ما بعد المصالحة الخليجية، تبدو خاضعة للكثير من التحديات الاستراتيجية التي تقفُ في طريقها، وأهمها إعادة الثقة بين دول المنظومة الخليجية في إطار بناء لُحمة خليجية صلبة في وجه التحديات المختلفة، إلى جانب تحديات المحاور اللحظية، ومفاجآت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.