في انتخابات تونس الرئاسية الماضية تلقى أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد دعمًا كبيرًا من حركة النهضة، فقد خصصت الحركة مكاتبها المحلية والجهوية لحملته الانتخابية، وكلفت مراقبي الحزب بالعمل مع حملة سعيد في مواجهة رجل الأعمال نبيل القروي.
حتى إن النهضة لم تدخر جهدًا لدعم سعيد رغم أنه لم يكن مرشحها خلال المرحلة الأولى من الانتخابات. فاز سعيد برئاسة الجمهورية وراشد الغنوشي برئاسة البرلمان، كانت العلاقة بينهما في البداية جيدة لكن سرعان ما تعكرت وتعكرت معها علاقة الرئاسة بالنهضة، حتى أصبحنا نتحدث الآن عن استهداف ممنهج من الرئيس لحركة النهضة، فهل يخشى سعيد من النهضة؟
استهداف متواصل
عداء قيس سعيد لحركة النهضة ظهر جليًا مباشرةً إثر توليه كرسي الرئاسة بقصر قرطاج، حيث قطع سبل التواصل معها، رغم أنها حزب الأغلبية في البرلمان بعد فوزها في الانتخابات التشريعية المتزامنة مع الانتخابات الرئاسية، كما أن زعيمها يشغل منصب رئيس مجلس نواب الشعب.
صحيح كانت هناك قطيعة بين الطرفين، لكن لم نصل حينها إلى درجة الاستهداف الممنهج من طرف سعيد للنهضة، خاصة أن النهضة دائمًا ما كانت تؤكد أن القطيعة حصلت بإيعاز من مقربين من الرئيس وأن قيس سعيد لا ذنب له في الأمر.
لكن بالوقت تبين أن الاستهداف سيأتي لا محالة، وقد ظهر الأمر جليًا في التحضيرات ليوم 25 يوليو/تموز الماضي وشحن الشارع ضد النهضة، ومن أثار ذلك حرق العديد من مقراتها في ذلك اليوم، والتهديدات التي طالت قيادييها.
بعد 25 يوليو/تموز، الاستهداف أصبح واضحًا للعيان وفق قياديي النهضة، ففي كل خروج إعلامي للرئيس يتهم النهضة ضمنًا وعلانيةً بتأزيم وضع البلاد والتآمر وخيانة الوطن، ما زاد من سخط الناس ضدهم.
اختار قيس سعيد توجيه الرأي العام عبر “مغالطات وحملات تشويه تستهدف حركة النهضة”، حسب تعبير عدد من قياديي الحركة، رغبة منه في إقصائها من المشهد السياسي في البلاد، رغم إثباتها في كل الاستحقاقات الانتخابية أنها الحزب الأول في تونس.
يقول العديد من المتابعين للشأن التونسي إن قيس سعيد يسير على منوال بورقيبة وبن علي في استهداف حركة النهضة
في أول مؤتمر صحفي تعقده حركة النهضة منذ 25 يوليو/تموز الماضي، اتهمت الحركة، الإثنين، أطرافًا – بعضها في السلطة – بالسعي لإقصائها من الساحة السياسية، وتحدثت عن ضغوط لإسقاط قوائمها الفائزة في الانتخابات التشريعية الماضية.
لم تسم النهضة الرئيس قيس سعيد بالاسم خلال ندوتها الصحفية، إلا أن المتحدثة باسم مجلس شورى الحركة سمت الأسماء بمسمياتها في حديث لها مع الجزيرة مباشر، إذ قالت المرسني إن هناك رغبةً محمومةً لدى قيس سعيد والأحزاب المساندة له بإلصاق تهمة تلقي التمويل الأجنبي ببعض نواب الحركة “من دون وجود أدلة وحجج دامغة تثبت هذه التهم”.
وأضافت المرسني “الأمر يتعلق بمحاولة يائسة من سعيد ورفاقه لتصفية حزب حركة النهضة بأساليب ديكتاتورية تعيد تونس إلى عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي”، وجاء ذلك ردًا على دعوة سعيد للقضاء بـ”تطبيق القانون” على ما قال إنها “أحزاب أثبتت التقارير تلقيها تمويلات خارجية في أثناء الحملة الانتخابية لبرلمانيات عام 2019”.
يضغط قيس سعيد على القضاء التونسي لإجباره على إسقاط قوائم حركة النهضة في البرلمان بحجة تلقيها تمويلًا خارجيًا، الأمر الذي تنفيه الحركة، والهدف من إسقاط القوائم حل البرلمان وإقصاء الحزب الأول في تونس من المشهد السياسي في البلاد.
إعادة تجربة بورقيبة وبن علي
المتأمل لما يحصل في تونس مؤخرًا والاستهداف الكبير لحركة النهضة من رئاسة البلاد، يُعيد للأذهان ما حدث للنهضة زمن حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فكلاهما عمل على إقصاء النهضة من المشهد السياسي في البلاد نظرًا لقوتها وخشيتهما من منافستها لهما.
النهضة التي بدأت في التشكل سنة 1969 كحركة دعوية من أفراد قلائل هم راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر، ما إن أعلنت تأسيسها الرسمي حتى بدأت في تلقي الضربة تلو الأخرى، خاصة أنها عرفت انتشارًا كبيرًا في صفوف فئات مختلفة في تونس.
منذ إعلان الحركة تأسيسها بعد أكثر من 12 عامًا من العمل السري، بدأت السلطات التونسية تلاحقها، ففي صيف سنة 1981، أي في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة تم اعتقال العشرات من قيادييها ومنتسبيها، وحُكم بالسجن 11 عامًا بحق رئيسها راشد الغنوشي والقيادي صالح كركر، و10 سنوات سجنًا بحق عبد الفتاح مورو، وأحكام مختلفة بحق بقية الأعضاء.
رجال الظل المتحكمون في البلاد، من رجال أعمال وسياسيين ونقابيين، لا يروق لهم وجود النهضة في المشهد السياسي التونسي
سنة 1987، شهدت تونس ثاني أهم مواجهة بين نظام بورقيبة وحركة الاتجاه الإسلامي (أصبحت لاحقًا حركة النهضة) بلغت أوجها صيف العام نفسه، واعتقل آلاف المنتسبين وصدرت أحكام بالإعدام بحق قياديين لم يقبض عليهم الأمن مثل حمادي الجبالي وعلي العريض وصالح كركر، فيما نفذ الإعدام بحق اثنين من أعضاء الحركة اتهما بارتكاب أعمال تفجير وعنف، وصدر حكم بالسجن المؤبد بحق الغنوشي.
يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، أزاح زين العابدين بن علي، الذي كان يشغل حينها منصب الوزير الأول، بورقيبة من الحكم، وعرفت العلاقة بين النهضة وبن علي استقرارًا في البداية وذلك حتى الانتخابات التشريعية التي أقيمت في 2 أبريل/نيسان 1989.
فوز النهضة، التي ترشحت تحت غطاء قوائم مستقلة، بمقاعد مهمة، عجل بتحرك بن علي، وبدأت المؤامرات تحاك ضدها، ففي مايو/أيار 1991، أعلن وزير الداخلية آنذاك عبد الله القلال، إجهاض محاولة انقلابية للنهضة على نظام بن علي، لتواصل وزارة الداخلية بتلك الذريعة المفتعلة حملة اعتقالات واسعة وملاحقات أمنية لقياديي النهضة ومنتسبيها.
شملت الاعتقالات أكثر من 30 ألفًا من القياديين والمنتسبين والمتعاطفين وفق أرقام الحركة، وأدت إلى فرار آلاف المنتسبين الآخرين إلى نحو 50 بلدًا بالعالم، فيما قضى تحت التعذيب والإهمال الصحي في السجون عشرات المنتسبين الآخرين.
يقول العديد من المتابعين للشأن التونسي إن قيس سعيد يسير على منوال بورقيبة وبن علي في استهداف حركة النهضة، رغبةً منه في إقصائها واستبعادها من المشهد السياسي في البلاد، كونه يعتبرها “خطرًا حقيقيًا” يستهدف حكمه وتفرده بالسلطة.
مجرد مفعول به لا فاعل
المتابع لتطورات الوضع التونسي من بعيد يقول إن سعيد هو الآمر الناهي والمتحكم في اللعبة، لكن يبدو من خلال العديد من المؤشرات أن سعيد مجرد مفعول به، فهو كالبيدق يتم تحريكه وفق أهواء الماسكين بزمام الأمور في البلاد، ممن يرون أن النهضة وبعض الأحزاب الأخرى والمنظمات الوطنية خطر على وجودهم في تونس لذلك وجب تقليم أظافرهم حتى لا يتسنى لهم مواجهتهم.
رجال الظل المتحكمون في البلاد، من رجال أعمال وسياسيين ونقابيين، لا يروق لهم وجود النهضة في المشهد السياسي التونسي، نظرًا لشعبيتها وقوتها الانتخابية، لذلك يعملون على استهدافها وتهميشها قبل إنهاء وجودها وذلك باستعمال رئاسة الجمهورية بدراية من ساكن قرطاج أو دون.
لعل الطرفان يتقاسمان هم النهضة ويسعيان مجتمعين لإنهاء وجودها من الساحة التونسية، لكن إن تم الأمر سينقلب رجال الظل على الرئيس قيس سعيد وينهيان رئاسته هو الآخر، فهؤلاء لا يقبلون أن يُقاسمهم السلطة أي منافس.